Slide Ads

Thursday, June 25, 2009

الفكر العلماني و العلمانيون

العلمانيون هم: كل من ينسب أو ينتسب للمذهب العلماني، وينتمي إلى العلمانية فكراً أو ممارسة.
وأصل العلمانية ترجمة للكلمة الإنجليزية (secularism) وهي من العلم فتكون بكسر العين، أو من العالَم فتكون بفتح العين وهي ترجمة غير أمينة ولا دقيقة ولا صحيحة، لأن الترجمة الحقيقية للكلمة الإنجليزية هي (لا دينية أولا غيبية أو الدنيوية أولا مقدس).
نشأت العلمانية في الغرب نشأة طبيعية نتيجة لظروف ومعطيات تاريخية –دينية واجتماعية وسياسية وعلمانية واقتصادية- خلال قرون من التدريج والنمو، والتجريب، حتى وصلت لصورتها التي هي عليها اليوم..
ثم وفدت العلمانية إلى الشرق في ظلال الحرب العسكرية، وعبر فوهات مدافع البوارج البحرية، ولئن كانت العلمانية في الغرب نتائج ظروف ومعطيات محلية متدرجة عبر أزمنة متطاولة، فقد ظهرت في الشرق وافداً أجنبياً في الرؤى والإيديولوجيات والبرامج، يطبق تحت تهديد السلاح وبالقسر والإكراه؛ لأن الظروف التي نشأت فيها العلمانية وتكامل مفهومها عبر السنين تختلف اختلافاً جذرياً عن ظروف البلدان التي جلبت إليها جاهزة متكاملة في الجوانب الدينية والأخلاقية والاجتماعية والتاريخية والحضارية، فالشرط الحضاري الاجتماعي التاريخي الذي أدى إلى نجاح العلمانية في الغرب مفقود في البلاد الإسلامية، بل فيها النقيض الكامل للعلمانية، ولذلك كانت النتائج مختلفة تماماً، وحين نشأت الدولة العربية الحديثة كانت عالة على الغربيين الذين كانوا حاضرين خلال الهيمنة الغربية في المنطقة، ومن خلال المستشارين الغربيين أو من درسوا في الغرب واعتنقوا العلمانية، فكانت العلمانية في أحسن الأحوال أحد المكونات الرئيسية للإدارة في مرحلة تأسيسها، وهكذا بذرت بذور العلمانية على المستوى الرسمي قبل جلاء جيوش الاستعمار عن البلاد الإسلامية التي ابتليت بها.
ومن خلال البعثات التي ذهب من الشرق إلى الغرب عاد الكثير منها بالعلمانية لا بالعلم، ذهبوا لدراسة الفيزياء والأحياء والكيمياء والجيولوجيا والفلك والرياضيات فعادوا بالأدب واللغات والاقتصاد والسياسة والعلوم الاجتماعية والنفسية، بل وبدراسة الأديان وبالذات الدين الإسلامي في الجامعات الغربية، ولك أن تتصور حال شاب مراهق ذهب يحمل الشهادة الثانوية ويلقى به بين أساطين الفكر العلماني الغربي على اختلاف مدارسه، بعد أن يكون قد سقط أو أسقط في حمأة الإباحية والتحلل الأخلاقي وما أوجد كل ذلك لديه من صدمة نفسية واضطراب فكري، ليعود بعد عقد من السنين بأعلى الألقاب الأكاديمية، وفي أهم المراكز العلمانية بل والقيادية في وسط أمة أصبح ينظر إليها بازدراء، وإلى تاريخها بريبة واحتقار، وإلى قيمها ومعتقداتها وأخلاقها –في أحسن الأحوال- بشفقة ورثاء، إنه لن يكون بالضرورة إلا وكيلاً تجارياً لمن علموه وثقفوه ومدّنوه، وهو لا يملك غير ذلك.
ثم أصبحت الحواضر العربية الكبرى مثل: (القاهرة-بغداد-دمشق) بعد ذلك من مراكز التصدير العلماني للبلاد العربية الأخرى، من خلال جامعاتها وتنظيماتها وأحزابها، وبالذات دول الجزيرة العربية، وقل من يسلم من تلك اللوثات الفكرية العلمانية، حتى أصبح في داخل الأمة طابور خامس، وجهته غير وجهتها، وقبلته غير قبلتها، إنهم لأكبر مشكلة تواجة الأمة لفترة من الزمن ليست بالقليلة.
ثم كان للبعثات التبشيرية دورها، فالمنظمات التبشيرية النصرانية التي جابت العالم الإسلامي شرقاً وغرباً من شتى الفرق والمذاهب النصرانية، جعلت هدفها الأول زعزعة ثقة المسلمين في دينهم، وإخراجهم منه، وتشكيكهم فيه.
ثم كان للمدارس والجامعات الأجنبية المقامة في البلاد الإسلامية دورها في نشر وترسيخ العلمانية.
ثم كان الدور الأكبر للجمعيات والمنظمات والأحزاب العلمانية التي انتشرت في الأقطار العربية والإسلامية، ما بين يسارية وليبرالية، وقومية وأممية، سياسية واجتماعية وثقافية وأدبية بجميع الألوان والأطياف، وفي جميع البلدان حيث إن النخب الثقافية في غالب الأحيان كانوا إما من خريجي الجامعات الغربية أو الجامعات السائرة على النهج ذاته في الشرق، وبعد أن تكاثروا في المجتمع عمدوا إلى إنشاء الأحزاب القومية أو الشيوعية أو الليبرالية، وجميعها تتفق في الطرح العلماني، وكذلك أقاموا الجمعيات الأدبية والمنظمات الإقليمية أو المهنية، وقد تختلف هذه التجمعات في أي شيء إلا في تبني العلمانية، والسعي لعلمنة الأمة كل من زاوية اهتمامه، والجانب الذي يعمل من خلاله.
ولا يمكن إغفال دور البعثات الدبلوماسية: سواء كانت بعثات للدول الغربية في الشرق، أو للدول الشرقية في الغرب، فقد أصبحت في الأعم الأغلب جسوراً تمر خلالها علمانية الغرب الأقوى إلى الشرق الأضعف، ومن خلال المنح الدراسية وحلقات البحث العلمي والتواصل الاجتماعي والمناسبات والحفلات ومن خلال الضغوط الدبلوماسية والابتزاز الاقتصادي، وليس بسر أن بعض الدول الكبرى أكثر أهمية وسلطة من القصر الرئاسي أو مجلس الوزراء في تلك الدول الضعيفة التابعة.
ولا يخفى على كل لبيب دور وسائل الإعلام المختلفة، مسموعة أو مرئية أو مقروءة، لأن هذه الوسائل كانت من الناحية الشكلية من منتجات الحضارة الغربية –صحافة أو إذاعة أو تلفزة- فاستقبلها الشرق واستقبل معها فلسفتها ومضمون رسالتها، وكان الرواد في تسويق هذه الرسائل وتشغيلها والاستفادة منها إما من النصارى أو من العلمانيين من أبناء المسلمين، فكان لها الدول الأكبر في الوصول لجميع طبقات الأمة، ونشر مبادئ وأفكار وقيم العلمانية، وبالذات من خلال الفن، وفي الجانب الاجتماعي بصورة أكبر.
ثم كان هناك التأليف والنشر في فنون شتى من العلوم وبالأخص في الفكر والأدب والذي استعمل أداة لنشر الفكر والممارسة العلمانية.
فقد جاءت العلمانية وافدة في كثير من الأحيان تحت شعارات المدارس الأدبية المختلفة، متدثرة بدعوى رداء التجديد والحداثة، معلنة الإقصاء والإلغاء والنبذ والإبعاد لكل قديم في الشكل والمضمون، وفي الأسلوب والمحتوى، ومثل ذلك في الدراسات الفكرية في علوم الاجتماع والنفس والعلوم الإنسانية المختلفة، حيث قدمت لنا نتائج كبار ملاحدة الغرب وعلمانييه على أنه الحق المطلق، بل العلم الأوحد ولا علم سواه في هذه الفنون، وتجاوز الأمر التأليف والنشر إلى الكثير من الكليات والجامعات والأقسام العلمية التي تنتسب لأمتنا اسماً، ولغيرها حقيقة.
ولا يستطيع أحد جحد دور الشركات الغربية الكبرى التي وفدت لبلاد المسلمين مستثمرة في الجانب الاقتصادي.
هكذا سرت العلمانية في كيان الأمة، ووصلت إلى جميع طبقاتها قبل أن يصلها الدواء والغذاء والتعليم في كثير من الأحيان، ولو كانت الأمة حين تلقت هذا المنهج العصري تعيش في مرحلة قوة وشموخ وأصالة لوظفت هذه الوسائل توظيفاً آخر يتفق مع رسالتها وقيمها وحضارتها وتاريخها وأصالتها.
بعض ملامح العلمانية:
لقد أصبح حَملة العلمانية الوافدة في بلاد الشرق بعد مائة عام من وفودهم تياراً واسعاً نافذاً متغلباً في الميادين المختلفة، فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية، وكان يتقاسم هذا التيار الواسع في الجملة اتجاهان:
أ: الاتجاه اليساري الراديكالي الثوري، ويمثله –في الجملة- أحزاب وحركات وثورات ابتليت بها المنطقة ردحاً من الزمن، فشتت شمل الأمة ومزقت صفوفها, وجرت عليها الهزائم والدمار والفقر وكل بلاء، وكانت وجهة هؤلاء الاتحاد السوفيتي قبل سقوطه، سواء كانوا شيوعين أمميين، أو قوميين عنصريين.
ب: الاتحاد الليبرالي ذي الوجهة الغربية لأمريكا ومن دار في فلكها من دول الغرب، وهؤلاء يمثلهم أحزاب وشخصيات قد جنوا على الأمة بالإباحية والتحليل والتفسخ والسقوط الأخلاقي والعداء لدين الأمة وتاريخها.
وللاتجاهين ملامح متميزة أهمها:
1- مواجهة التراث الإسلامي، إما برفضه بالكلية واعتباره من مخلفات عصور الظلام والانحطاط والتخلف –كما عند غلاة العلمانية-، أو بإعادة قراءته قراءة عصرية –كما يزعمون- لتوظيفه توظيفاً علمانياً من خلال تأويله على خلاف ما يقتضيه سياقه التاريخي من قواعد شرعية، ولغة عربية، وأعراف اجتماعية، ولم ينج من غاراتهم تلك حتى القرآن والسنة، إما بدعوى بشرية الوحي، أو بدعوى أنه نزل لجيل خاص أو لأمة خاصة، أو بدعوى أنه مبادئ أخلاقية عامة، أو مواعظ روحية لا شأن لها بتنظيم الحياة، ولا ببيان العلم وحقائقه، ولعل من الأمثلة الصارخة للرافضين للتراث، والمتجاوزين له (أدونيس)و (محمود درويش)و (البياتي)و (جابر عصفور).
أما الذي يسعون لإعادة قراءته وتأويله وتوظيفه فمن أشهرهم: (حسن حنفي)و (محمد أركون) و (محمد عابد الجابري)و (حسين أمين)، ومن على شاكلتهم، ولم ينج من أذاهم شيء من هذا التراث في جميع جوانبه.
2- اتهام التاريخ الإسلامي بأنه تاريخ دموي استعماري عنصري غير حضاري، وتفسيره تفسيراً مادياً، بإسقاط نظريات تفسير التاريخ الغربية العلمانية على أحداثه، وقراءته قراءة انتقائية غير نزيهة ولا موضوعية، لتدعيم الرؤى والأفكار السوداء المسبقة حيال هذا التاريخ، وتجاهل ما فيه من صفحات مضيئة مشرقة، والخلط المتعمد بين الممارسة البشرية والنهج الإسلامي الرباني، ومحاولة إبراز الحركات الباطنية والأحداث الشاذة النشاز وتضخيمها، والإشادة بها، والثناء عليها، على اعتبار أنها حركات التحرر والتقدم والمساواة والثورة على الظلم، مثل: (ثورة الزنج) و (ثورة القرامطة) ومثل ذلك الحركات الفكرية الشاذة عن الإسلام الحق، وتكريس أنها من الإسلام بل هي الإسلام، مثل القول بوحدة الوجود، والاعتزال وما شابه ذلك من أمور تؤدي في نهاية الأمر إلى تشويه الصور المضيئة للتاريخ الإسلامي لدى ناشئة الأمة، وأجياله المتعاقبة.
3- السعي الدؤوب لإزالة أو زعزعة مصادر المعرفة والعلم الراسخة في وجدان المسلم، والمسيرة المؤطرة للفكر والفهم الإسلامي في تاريخه كله، من خلال استبعاد الوحي كمصدر للمعرفة والعلم، أو تهميشه –على الأقل- وجعله تابعاً لغيره من المصادر، كالعقل والحس، وما هذا إلا أثر من آثار الإنكار العلماني للغيب، والسخرية من الإيمان بالغيب، واعتبارها -في أحسن الأحوال- جزءاً من الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية، والترويج لما يسمى بالعقلانية والواقعية والإنسانية، وجعل ذلك هو البديل الموازي للإيمان في مفهومه الشرعي الأصيل، وكسر الحواجز النفسية بين الإيمان الكفر، ليعيش الجميع تحت مظلة العلمانية في عصر العولمة، وفي كتابات (محمد عابد الجابري)و (حسن حنفي)و (حسين مروة) و (العروي) وأمثالهم الأدلة على هذا الأمر.
4- خلخلة القيم الخلقية الراسخة في المجتمع الإسلامي، والمسيرة للعلاقات الاجتماعية القائمة على معاني الأخوة والإيثار والطهر والعفاف وحفظ العهود وطلب الأجر وأحاسيس الجسد الواحد، واستبدال ذلك بقيم الصراع والاستغلال والنفع وأحاسيس قانون الغاب والافتراس، والتحلل، والإباحية من خلال الدراسات الاجتماعية والنفسية، والأعمال الأدبية والسينمائية والتلفزيونية، مما هز المجتمع الشرقي من أساسه، ونشر فيه من الجرائم والصراع ما لم يعهده أو يعرفه في تاريخه، ولعل رواية (وليمة عشاء لأعشاب البحر) –السيئة الذكر- من أحدث الأمثلة على ذلك، والقائمة طويلة من إنتاج (محمد شكري) و (الطاهر بن جلون) و (الطاهر وطّار) و (تركي الحمد) وغيرهم الكثير تتزاحم لتؤدي دورها في هدم الأساس الخلقي الذي قام عليه المجتمع، واستبداله بأسس أخرى.
5- رفع مصطلح الحداثة كلافتة فلسفية اصطلاحية بديلة لشعار التوحيد، والحداثة كمصطلح فكري ذي دلالات محددة تقوم على مادية الحياة، وهدم القيم والثوابت، ونشر الانحلال والإباحية، وأنسنة الإله وتلويث المقدسات، وجعل ذلك إطاراً فكرياً للأعمال الأدبية، والدراسات الاجتماعية، مما أوقع الأمة في أسوأ صور التخريب الفكري الثقافي.
6- استبعاد مقولة الغزو الفكري من ميادين الفكر والثقافة، واستبدالها بمقولة حوار الثقافات، مع أن الواقع يؤكد أن الغزو الفكري حقيقة تاريخية قائمة لا يمكن إنكارها كإحدى مظاهر سنة التدافع التي فطر الله عليها الحياة، وأن ذلك لا يمنع الحوار، لكنها سياسة التخدير والخداع والتضليل التي يتبعها التيار العلماني، ليسهل تحت ستارها ترويج مبادئ الفكر العلماني، بعد أن تفقد الأمة مناعتها وينام حراس ثغوره، وتتسلل في أجزائها جراثيم وفيروسات الغزو العلماني القاتل.
7- وصم الإسلام بالأصولية والتطرف وممارسة الإرهاب الفكري، عبر غوغائية ديماجوجية إعلامية غير شريفة، ولا أخلاقية، لتخويف الناس من الالتزام بالإسلام، والاستماع لدعاته، وعلى الرغم من وقوع الأخطاء –وأحياناً الفظيعة- من بعض المنتمين أو المدعين إلى الإسلام، إلا أنها نقطة في بحر التطرف والإرهاب العلماني الذي يمارس على شعوب بأكملها، وعبر عقود من السنين، لكنه عدم المصداقية والكيل بمكيالين، والتعامي عن الأصولية والنصرانية، واليهودية، والموغلة في الظلامية والعنصرية والتخلف.
8- تمييع قضية الحل والحرمة في المعاملات والأخلاق، والفكر والسياسة، وإحلال مفهوم اللذة والمنفعة والربح المادي محلها، واستخدام هذه المفاهيم في تحليل المواقف والأحداث، ودراسة المشاريع والبرامج، أي فك الارتباط بين الدنيا والآخرة في وجدان وفكر وعقل الإنسان، ومن هنا ترى التخبط الواضح في كثير من جوانب الحياة الذي يعجب له من نور الله قلبه بالإيمان، ولكن أكثرهم لا يعلمون.
9- دق طبول العولمة واعتبارها القدر المحتوم الذي لا مفر منه ولا خلاص إلا به، دون التمييز بين المقبول والمرفوض على مقتضى المعايير الشرعية، بل إنهم ليصرخون بأن أي شيء في حياتنا يجب أن يكون محل التساؤل، دون التفريق بين الثوابت والمتغيرات، مما يؤدي إلى تحويل بلاد الشرق إلى سوق استهلاكية لمنتجات الحضارة الغربية، والتوسل لذلك بذرائعية نفعية محضة لا يسيّرها غير أهواء الدنيا وشهواتها.
10- الاستهزاء والسخرية والتشكيك في وجه أي محاولة لأسلمة بعض جوانب الحياة المختلفة المعاصرة في الاقتصاد والإعلام والقوانين، وإن مرروا هجومهم وحقدهم تحت دعاوى حقوق الإنسان وحرياته، ونسوا أو تناسوا الشعوب التي تسحق وتدمر وتقتل وتغصب بعشرات الآلاف، دون أن نسمع صوتاً واحداً من هذه الأصوات النشاز يبكي لها ويدافع عنها، لا لشيء إلا أن الجهات التي تقوم بانتهاك تلك الحقوق، وتدمير تلك الشعوب أنظمة علمانية تدور في فلك المصالح الغربية.
11- الترويج للمظاهر الاجتماعية الغربية، وبخاصة في الفن والرياضة وشركات الطيران والأزياء والعطور والحفلات الرسمية، والاتكاء القوي على قضية المرأة، ولإن كانت هذه شكليات ومظاهر لكنها تعبر عن قيم خلقية، ومنطلقات عقائدية، وفلسفة خاصة للحياة، من هنا كان الاهتمام العلماني المبالغ فيه بموضة المرأة، والسعي لنزع حجابها، وإخراجها للحياة العامة، وتعطيل دورها الذي لا يمكن أن يقوم به غيرها، في تربية الأسرة ورعاية الأطفال، وهكذا العلمانيون يفلسفون الحياة. يعطل مئات الآلاف من الرجال عن العمل لتعمل المرأة، ويستقدم مئات الآلاف من العاملات في المنازل لتسد مكان المرأة في رعاية الأطفال، والقيام بشؤون المنزل، ولئن كانت بعض الأعمال النسائية يجب أن تناط بالمرأة، فما المبرر لمزاحمتها للرجل في كل موقع؟
12- الاهتمام الشديد والترويج الدائم للنظريات العلمانية الغربية في الاجتماع والأدب، وتقديم أصحابها في وسائل الإعلام، بل وفي الكليات والجامعات على أنهم رواد العلم، وأساطين الفكر وعظماء الأدب، وما أسماء: (دارون)و (فرويد), (دوركايم)و (أليوت وشتراوس وكانط) وغيرهم بخافية على المهتم بهذا الشأن، وحتى أن بعض هؤلاء قد تجاوزه علمانيو الغرب، ولكن صداه ما زال يتردد في عالم الأتباع في البلاد الإسلامية.

الفكر العلماني


سعيد بن ناصر الغامدي

العلمانية من خلال الموسوعة الحرة التعريف و المراحل

معنى الكلمة

العَلْمانِيَّة ـ بفتح العين ـ مشتقة من الكلمة عَلْم (بفتح العين)، وهي مرادفة لكلمة عالَم. قارن الإنكليزية Laicism والفرنسية Laïcisme وهما مشتقتان من الكلمة اليونانية: Λαος/لاوُس/ "شعب"، "رعاع" أي عكس "الكهنة" وهم النخبة في الماضي. من ثمة صارت الكلمة تدل على القضايا الشعبية "الدنيوية"، بعكس الكهنوتية "الدينية".

وكلمتنا العربية هي ترجمة مستعارة من السريانية لأن السريان اشتقوها أولا في لغتهم ترجمة مستعارة عن اليونانية أيضا. (قارن السريانية: /ܥܠܡܐ: عَلْما/ "العالم، الدهر، الدنيا"، فالعلماني في السريانية هو "الدنيوي، الدهري"، ولا علاقة لهذا المعنى بالعِلم (بكسر العين). ومن الجدير بالذكر أن الجذر السامي /ع ل م/ يفيد في جميع اللغات السامية معاني "الدهر، الدنيا، العالم، الزمن اللامتناهي"، إذ يجانس كلمة "العالم" عندنا كل من الكلمات السريانية: /ܥܠܡܐ: عَلْما/، والعبرية: /עולם: عُولَم/ ، وكذلك البابلية: /عَلونو/، والحبشية: /عالَم/ .. فالكلمة السريانية أعلاه ترجمة مستعارة عن اليونانية كما نرى لأن "الدنيا" من معاني الكلمة السريانية /ܥܠܡܐ: عَلْما/ أيضا.

وفي تعريف آخر للعلمانية: هي أن أي سلطات تشريعية أو تنفيذية في الدين تتدخل بحياة الفرد فهيا مرفوضة. فالدين في العلمانية ينتهي عندما يخرج الفرد من المسجد أو من الكنيسة. مثال للتوضيح: لو حكم على شخص بالإعدام على أساس ديني فهذا الحكم مرفوض في النظرة العلمانية. فيجب أن يكون الحكم مبني على قانون قضائي دَولي (أي يخص دولة واحدة) تضعه حكومة الدولة ولا يتدخل رئيس الدولة فيه لأنه يجب أن يكون القضاء مفصول عن الحكم.

فالعلمانية لا تنهى عن إتباع دبن معين أو ملة معينه بل هي تنادى فقط بأن يتم فصل الدين عن السياسة والدولة وبأن تكون الأديان هي معتنق شخصى بين الإنسان وربه . و للعلم, هناك من يقول بأن أبو العلمانية هو أبو الوليد محمد بن احمد بن رشد أو باختصار "ابن رشد". [1] في الوقت ذاته يدافع آخرون عن ابن رشد ويتهمون الغرب بفهمهم الخاطئ له فقد كان فقيهاً وقاضياً يحكم بالشريعة الإسلامية.

[عدل] ماهية العلمانية

"العَلْمَانِيَّة" ترجمة غير دقيقة، بل غير صحيحة لكلمة "Secularism" في الإنجليزية، أو "Sécularité" أو "laïque" بالفرنسية، وهي كلمة لا أصل لها بلفظ "العِلْم" ومشتقاته، على الإطلاق.

فالعِلْم في الإنجليزية والفرنسية، يعبر عنه بكلمة "Science"، والمذهب العِلْمِي، نُطلق عليه كلمة "Scientism"، والنسبة إلى العِلْم هي "Scientific" أو "Scientifique" في الفرنسية.

والترجمة الصحيحة للكلمة هي "اللادينية" أو "الدنيوية"، لا بمعنى ما يقابل الأخروية فحسب، بل بمعنى أخص، وهو ما لا صلة له بالدِّين أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد.

وتتضح الترجمة الصحيحة من التعريف، الذي تورده المعاجم، ودوائر المعارف الأجنبية للكلمة:

تقول دائرة المعارف البريطانية مادة "Secularism": "وهي حركة اجتماعية، تهدف إلى صرف الناس، وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة، إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها، وذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى، رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا، والتأمل في الله واليوم الآخر، وفي مقاومة هذه الرغبة طفقت الـ "Secularism" تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الإنسانية، حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية والبشرية، وبإمكانية تحقيق مطامحهم في هذه الدنيا القريبة.

ويقول قاموس "العالم الجديد" لوبستر، شرحا للمادة نفسها:

1. الروح الدنيوية، أو الاتجاهات الدنيوية، ونحو ذلك على الخصوص: نظام من المبادئ والتطبيقات "Practices" يرفض أي شكل من أشكال الإيمان والعبادة.

2. الاعتقاد بأن الدين والشئون الكنسية، لا دخل لها في شئون الدولة، وخاصة التربية العامة.

ويقول "معجم أكسفورد" شرحا لكلمة ":Secular"

3. دنيوي، أو مادي، ليس دينيا ولا روحيا، مثل التربية اللادينية، الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة.

4. الرأي الذي يقول: إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساسا للأخلاق والتربية.

ويقول "المعجم الدولي الثالث الجديد" مادة: "Secularism":

"اتجاه في الحياة أو في أي شأن خاص، يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية، يجب أن لا تتدخل في الحكومة، أو استبعاد هذه الاعتبارات، استبعادا مقصودا، فهي تعني مثلا السياسة اللادينية البحتة في الحكومة". "وهي نظام اجتماعي في الأخلاق، مؤسس على فكرة وجوب قيام القيم السلوكية والخلقية، على اعتبارات الحياة المعاصرة والتضامن الاجتماعي، دون النظر إلى الدين".

على المستوي السياسي تطالب العلمانية بحرية الاعتقاد وتحرير المعتقدات الدينية من تدخل الحكومات والأنظمة، وذلك بفصل الدولة عن أية معتقدات دينية أو غيبية، وحصر دور الدولة في الأمور المادية فقط. لقد استخدم مصطلح "Secular" (سيكولار) لأول مرة مع توقيع صلح وستفاليا - الذي أنهى أتون الحروب الدينية المندلعة في أوروبا - عام 1648م، وبداية ظهور الدولة القومية الحديثة (أي الدولة العلمانية) مشيرًا إلى "علمنة" ممتلكات الكنيسة بمعنى نقلها إلى سلطات غير دينية أي لسلطة الدولة المدنية.

والعلمانية هي عموما التأكيد على ان ممارسات معينة أو مؤسسات ينبغي ان توجد بمعزل عن الدين أو المعتقد الديني. وكبديل لذلك ، مبدأ العلمانية تعزيز الأفكار أو القيم اما في أماكن عامة أو خاصة.كما قد يكون مرادفا لل"الحركة العلمانية". في الحالات القصوى من ايديولوجيا العلمانية تذهب إلى ان الدين ليس له مكان في الحياة العامة.

في أحد معانيها ، العلمانية قد تؤكد حرية الدين ، والتحرر من فرض الحكومة الدين على الناس ، ان تتخذ الدولة موقفا محايدا على مسائل العقيدة ، ولا تعطي الدولة امتيازات أو اعانات إلى الاديان. بمعنى آخر ، تشير العلمانية إلى الاعتقاد بأن الانشطة البشريه والقرارات ، ولا سيما السياسية منها ، ينبغي أن تستند إلى الادلة والحقيقة بدلا من التأثير الديني.[2]

العلمانية هي أيديولوجيا تشجع المدنية والمواطنة وترفض الدين كمرجع رئيسي للحياة السياسية ويمكن أيضاً اعتبارها مذهب يتجه إلى أنّ الأمور الحياتية للبشر، وخصوصاً السياسية منها، يجب أن تكون مرتكزة على ما هو مادي ملموس وليس على ما هو غيبي، وترى أنّ الأمور الحياتية يجب أن تتحرر من النفوذ الديني، ولا تعطي ميزات لدين معين على غيره، على العكس من المرجعيات الدينية تعتمد على ما تعتقده حقائق مطلقة أو قوانين إلهية لا يجوز التشكيك في صحتها أو مخالفها مهما كان الأمر، وتُفسّر العلمانية من الناحية الفلسفية أن الحياة تستمر بشكل أفضل ومن الممكن الاستمتاع بها بإيجابية عندما نستثني الدين والمعتقدات الإلهية منها.

[عدل] الحجج المؤيدة والمعارضة للعلمانية

الحجج التي تدعم العلمانية تختلف اختلافا كبيرا. وقد ذهب البعض إلى ان العلمانية هي حركة في اتجاه التحديث ، وبعيدا عن القيم الدينية التقليديه. وهذا النوع من العلمانية ، وعلى المستوي الاجتماعي أو الفلسفي ، فقد وقعت في كثير من الأحيان مع احتفاظه الكنيسة الرسمية للدولة أو غيرها من دعم الدولة للدين. في الولايات المتحدة ، يقول البعض ان الدولة العلمانية قد خدمت إلى حد أكبر لحمايه الدين من التدخل الحكومي ، في حين أن العلمانية على المستوي الاجتماعي أقل انتشارا داخل البلدان أيضا ، غير ان اختلاف الحركات السياسية الدعم العلمانية على حد سواء لأسباب متفاوتة.

يجادل معارضو الحكومة العلمانية أنها تخلق من المشاكل أكثر مما تحل ، وأنه مع حكومة دينية (او على الاقل ليست علمانيه) وروحه هو أفضل. بعض المسيحيين المعارضين بأن في امكان الدولة المسيحيه اعطاء المزيد من حرية الدين من دولة علمانيه ، واشاروا إلى النرويج و ايسلندا و فنلندا و الدانمرك ، مع جميع الصلات الدستوريه بين الكنيسة والدولة ، ولكن كما اعترف أكثر تقدميه و ليبراليه من بعض البلدان دون هذا الربط.

على سبيل المثال ، ايسلندا كانت من بين أوائل البلدان إلى تقنين الاجهاض ، والحكومة الفنلنديه توفر التمويل اللازم لبناء المساجد.

يستشهد العلمانيون بأوروبا في العصور الوسطى بفشل النظام الشمولي لما بلغت إليه أوروبا من تردي عندما حكمت الكنيسة أوروبا وتعسّفها تجاه كل صاحب فكر مغاير لها. لذلك فهم يرتؤون أن الكنيسة لا يجب أن تخرج من نطاق جدران الكنيسة لتتحكم في قوانين الميراث والوقوف في وجه النهضة العلمية ونعتها بالسحر إبّان العصور الوسطى. كما يستشهدون بانتهاء دولة الخلافة الإسلامية بعد حكم أربعة خلفاء فقط وانتقال الدولة الإسلامية إلى نظام ملكي شمولي، والتمييز ضد غير المسلمين تحت حكم الدول الإسلامية المتعاقبة، وتطور الدولة الإسلامية وصولاً إلى الدولة العثمانية وانهيارها أمام الفكر العلماني لكمال أتاتورك، ويستدل العلمانيون ببطلان هذا التصور بأن معظم العلماء المسلمين البارزين كانوا يستخدمون الموسيقى في العلاج وكان بعضهم من هواة الموسيقى كالرازي الذي كان عازفاً على العود وأيضاً الخوارزمي فكان هاوياً فن الموسيقى، إذن فظهور العلم عند المسلمين كان على يد الفساق لأن الموسيقى في الإسلام فسق (بعض الناس متشككين في امرها ولكن جمهور المسلمين يرى ان منها المباح )، كما أنه عندما كانت العلوم تسير قدماً نحو الأمام عند المسلمين كان الدين يكافح للحفاظ على ولاء الطبقات المتعلمة وأدى النزاع الذي قام بين الدين والعلم إلى تشكيك الكثيرين في عقائد الدين، بل إنه دفع بعضهم إلى الإلحاد والكفر . لهذا يعتبر العلمانيون أن العلم الذي ظهر في الحضارة الإسلامية إنما هو حجة في صالح اللادينيين وليس في صالح المسلمين.

بينما ينادي خصوم العلمانية ببطلان تلك الحجة والاستدلال بالنهضة العلمية وانتشار الفلاسفة والأطباء العرب وعلماء الفلك في عهد الخلافة الأموية وما لحقها من خلافات والتي كانت تستند على القرآن كمصدر لإدارة شؤون الخلافة الإسلامية، ويكون رد العلمانيين هو أنّ الأطباء العرب وعلى رأسهم ابن سينا والرازي كانوا يستخدمون الموسيقى في العلاج وهذا بذاته يتضارب مع أحاديث كثيرة منها "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" وفيه دلالة على بطلان الاستدلال بـالقرآن والسنة في مسألة .

وعلى أرض الواقع يعلن كثير من العلمانيين(العرب باللأخص)أنهم يؤمنون بالدين ولكن بشكل تجديدي عصري،متطور متحرك. فيتحول الخلاف الرئيس بين المؤيدين والمعارضين للعلمانية(اللادينية)إلى اختلاف حول طبيعة الإنسان ما بين الثبات والتغير؛وموقف الشريعة من ذلك ما بين الجمودوالمرونة.

فيرى العلمانيون أن الإنسان كائن متغير ومن ثم ينبغي أن تكون الأحكام التي تنظم حياته متغيرة، فلا تصلح له شريعة جوهرها الثبات . وأن هذا يعني الحجر على الإنسان والحكم عليه بالجمود الأبدي.

بينما يرى المعارضون ان الإنسان ليس صحيحا أن جوهره التغير، فبالرغم من هذا التغير الهائل، الذي حدث في دنيا الإنسان، لم تتغير ماهيته؛ولا استحال جوهر إنسان العصر الذري عن جوهر إنسان العصر الحجري.فجوهر الإنسان، ليس ما يأكله الإنسان، أو ما يلبسه الإنسان، أو ما يسكنه الإنسان، أو ما يركبه الإنسان، أو ما يستخدمه الإنسان، أو ما يعرفه الإنسان من الكون من حوله، أو عما يقدر عليه من تسخير طاقاته لمنفعته.

فيعترف المعارضون بالتغير أكبر التغير في مأكل الإنسان، وملبسه، ومسكنه، ومركبه، وآلاته، وسلاحه، كما تغيرت معرفته للطبيعة، وإمكاناته لتسخيرها، ولكن الواقع أن الإنسان في جوهره وحقيقته بقي هو الإنسان، منذ عهد أبي البشر آدم إلى اليوم، لم تتبدل فطرته، ولم تتغير دوافعه الأصلية، ولم تبطل حاجاته الأساسية، التي كانت مكفولة له في الجنة، وأصبح عليه بعد هبوطه منها أن يسعى لإشباعها.ولذلك فان إنسان القرن الحادي والعشرين، أو ما بعد ذلك، لا يستغنى عن هداية الله المتمثلة في وصاياه وأحكامه، التي تضبط سيره، وتحفظ عليه خصائصه، وتحميه من نفسه وأهوائها.

ففى اعتقاد هؤلاء المعارضين "إن العقل الذي توصل إلى أن الإنسان كائن جوهره الثبات، ليس من صنع الشيطان، فالذي يتغير في الإنسان هو العرض لا الجوهر، هو الصورة لا الحقيقة، وعلى هذا الأساس تتعامل معه نصوص الشريعة الخالدة، تشرع له وتفصل في الثابت، الذي لا يتغير من حياته، وتسكت أو تجمل فيما شأنه التغير، وعلى المشككين في صلاحية نصوص شريعة الله لكل زمان ومكان، أن يعترفوا بأن العقل الذي خلقه الله للبشر، والعلم الذي حضهم عليه، ودعاهم إلى التزود به، هو نفسه الذي كشف عن حقيقة الثبات في جوهر الإنسان، إلى جوار ظاهرة التغير، التي تتصل بالجانب العرضي من حياته".

وبخصوص جمود شريعة جوهرها الثبات، فيعتقد المعارضون أن التزام الإنسان بشريعة الله لا يعني الحجر عليه، ولا الحكم عليه بالحجر الأبدي، لأن هذا يصح، لو كانت الشريعة تقيد الإنسان في كل حياته بأحكام جزئية تفصيلية. والشريعة ليست كذلك، فقد تركت للعقل الإنساني مساحات واسعة يجول فيها ويصول. منها: شئون الدنيا الفنية، التي فسح له المجال فيها، ليبتكر ويبتدع ما شاء "أنتم أعلم بأمر دنياكم" رواه مسلم. ومنها: منطقة الفراغ من التشريع، والإلزام في شئون الحياة والمجتمع، التي يطلق عليها: "منطقة العفو"، أخذا من الحديث النبوي: "ما أحل الله، فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت عنه، فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا، ثم تلا (وما كان ربك نسيا) (سورة مريم:64) الحديث. ومثله حديث: "إن الله فرض فرائض، فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء، رحمة بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها" رواه الدارقطني، وهو من أحاديث الأربعين النووية. ومنها: أن ما ينص عليه، إنما يتناول ـ في الغالب ـ المبادئ والأحكام العامة، دون الدخول في التفصيلات الجزئية، إلا في قضايا معينة من شأنها الثبات، ومن الخير لها أن تثبت، كما في قضايا الأسرة، التي فصل فيها القرآن تفصيلا، حتى لا تعبث بها الأهواء، ولا تمزقها الخلافات، ولهذا قال المحققون من العلماء: إن الشريعة تفصل فيما لا يتغير، وتجمل فيما يتغير، بل قد تسكت عنه تماما.

عن أن ما فصلت فيه الشريعة، كثيرا ما يكون التفصيل فيه بنصوص قابلة لأكثر من تفسير، ومحتملة لأكثر من رأي، فليست قطعية الدلالة، ومعظم النصوص كذلك، ظنية الدلالة، ظنية الثبوت، وهذا يعطي المجتهد المسلم ـ فردا أو جماعة ـ فرصة الاختيار والانتقاء، أو الإبداع والإنشاء.

هذا إلى ما قرره العلماء: أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، وأن للضرورات أحكامها، وأن الأمر إذا ضاق اتسع، وأن المشقة تجلب التيسير، وأن الله يريد بعبادة اليسر، ولا يريد بهم العسر، وما جعل عليهم في الدين من حرج.

ولكل هذا يرون أن الشريعة ليست أغلالا في أعناق الناس، ولا قيودا في أرجلهم، بل هي علامات هادية، ومنارات على الطريق، وقواعد للسير حتى لا يصطدم الناس بعضهم ببعض، فتذهب الأرواح والأموال. فيسألون لماذا نقبل قوانين الله الكونية، ولا نقبل قوانينه الشرعية؟! لماذا نقبل سنن الله في خلقه، ونرفض سننه في أمره، وهو في كلا الحالين: العليم الذي لا يجهل، والحكيم الذي لا يعبث، والحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم؟! بل يرونأن من تمام حكمة الله تعالى وبره بعبادة ورحمته بهم، ألا يدعهم هملا، ولا يتركهم سدى، وأن يلزمهم بما فيه مصلحتهم، والرقي بأفرادهم وجماعاتهم، إلزاما. فقد يضلهم الجهل أو الهوى، عن معرفة الصواب، وقد يعرفونه بينا ناصعا، فتفتنهم عنه شهوات أنفسهم، أو أهواء المتحكمين فيهم. فلكى تقدر الله الجليل حق قدره، ولا تعلى الإنسان فوق مرتبته، فتصور الإنسان مستغنيا عن هدى الله، ومنهج الله. نتزود بتوجيهات عامة ووصايا حكيمة، في معاملات الناس،كمثل الأب مع ابنه اذاوضع له بعض القواعد المستخلصة من تجارب السنين، ثم ترك له التصرف بعد ذلك، فهذا ما يقتضيه فضل الأبوة، الذي يجب أن يقابل من الابن البار، بالاعتراف بالجميل.

ولهذا فالشريعة في رأى المعارضين أودع الله فيها عنصرى الثبات والخلود، وعنصر المرونة والتطور معا، ففى تحديد مجالات الثبات والمرونة يقولون: إنه الثبات على الأهداف والغايات، والمرونة في الوسائل والأساليب. الثبات على الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات. الثبات على القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الشئون الدنيوية والعلمية.

فالأحكام عندهم نوعان: نوع: لا يتغير عن حالة واحدة مر عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك. فهذا لا يتطرق إليه تغيير، ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. والنوع الثاني: ما يتميز بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا، كمقادير التعزيزات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها حسب المصلحة.

[عدل] الدولة العلمانية

من الناحية السياسية ، العلمانية هي حركة في اتجاه الفصل بين الدين والحكومة (وغالبا ما كان يطلق عليه الفصل بين الكنيسة والدولة). ويمكن الرجوع إلى هذا الحد من العلاقات بين الحكومة ودين الدولة ، لتحل محل القوانين استنادا إلى الكتاب (مثل الوصايا العشر والشريعة) مع القوانين المدنيه ، والقضاء على التمييز على أساس الدين. هذا ويقال ان العلمانية تضيف إلى الديمقراطيه عن طريق حمايه حقوق الاقليات الدينية.[3].

معظم الاديان الرئيسية تقبل اسبقيه قواعد العلمانية ، والمجتمع الديمقراطي ولكن ربما لا تزال تسعى إلى التأثير في القرارات السياسية أو تحقيق مزايا محددة أو النفوذ من خلال اتفاقات بين الكنيسة والدولة. كثير من المسيحيين دعم دولة علمانيه ، ويمكن ان نعترف بأن الفكرة قد دعم في تعاليم الكتاب المقدس ، "اعطاء ما لقيصر لقيصر و ما هو لالله لالله. "[4] ومع ذلك ، وتعارض الأصوليه العلمانية. أهم القوى الأصوليه الدينية في العالم المعاصر هي الأصوليه المسيحيه والإسلام الأصولي. وفي الوقت نفسه ، واحدة كبيرة للتيار العلمانية قد حان من الاقليات الدينية الذين يرون الحكوميه والسياسية العلمانية جزءا لا يتجزأ من الحفاظ على المساواة في الحقوق. [16]

بعض من الدول العلمانية دستوريا هي كندا ، الهند ، فرنسا ، الولايات المتحدة ، تركيا وكوريا الجنوبيه ، رغم ان ايا من هذه الدول ليست متطابقه في اشكال الحكمة.

[عدل] مراحل العلمانية

مرّت العلمانية الشاملة بثلاث مراحل أساسية:

[عدل] مرحلة التحديث

اتسمت هذه المرحلة بسيطرة الفكر النفعي على جوانب الحياة بصورة عامة، فلقد كانت الزيادة المطردة من الإنتاج هي الهدف النهائي من الوجود في الكون، ولذلك ظهرت الدولة القومية العلمانية في الداخل والاستعمار الأوروبي في الخارج لضمان تحقيق هذه الزيادة الإنتاجية. واستندت هذه المرحلة إلى رؤية فلسفية تؤمن بشكل مطلق بالمادية وتتبنى العلم والتكنولوجيا المنفصلين عن القيمة، وانعكس ذلك على توليد نظريات أخلاقيّة ومادية تدعو بشكل ما لتنميط الحياة، وتآكل المؤسسات الوسيطة مثل الأسرة.

[عدل] مرحلة الحداثة

هي مرحلة انتقالية قصيرة استمرت فيها سيادة الفكر النفعي مع تزايد وتعمق أثاره على كافة أصعدة الحياة، فلقد واجهت الدولة القومية تحديات بظهور النزعات العرقية، وكذلك أصبحت حركيات السوق (الخالية من القيم) تهدد سيادة الدولة القومية، واستبدل الاستعمار العسكري بأشكال أخرى من الاستعمار السياسي والاقتصادي والثقافي، واتجه السلوك العام نحو الاستهلاكية الشرهة.

[عدل] مرحلة ما بعد الحداثة

في هذه المرحلة أصبح الاستهلاك هو الهدف النهائي من الوجود ومحركه اللذة الخاصة، واتسعت معدلات العولمة لتتضخم مؤسسات الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية الدولية وتتحول القضايا العالمية من الاستعمار والتحرّر إلى قضايا البيئة والإيدز وثورة المعلومات، وتضعف المؤسسات الاجتماعية الوسيطة مثل الأسرة، لتحل محلها تعريفات جديدة للأسرة مثل رجلان وأطفال أو امرأة وطفل أو امرأتان وأطفال…، كل ذلك مستنداً على خلفية من غياب الثوابت المعايير الحاكمة لأخلاقيات المجتمع والتطور التكنولوجي الذي يتيح بدائل لم تكن موجودة من قبل في مجال الهندسية الوراثية.

[عدل] العلمانية في الدول الإسلامية

ورغم انبثاق مصطلح العلمانية من رحم التجربة الغربية، إلا أنه انتقل إلى القاموس العربي الإسلامي، مثيراً بذلك جدلا حول دلالاته وأبعاده. والواقع أن الجدل حول مصطلح العلمانية في ترجمته العربية يعد إفرازاً طبيعياً لاختلاف الفكر والممارسة العربية الإسلامية عن السائد في البيئة التي انتجت هذا المفهوم، لكن ذلك لم يمنع المفكرين العرب من تقديم إسهاماتهم بشأن تعريف العلمانية. تختلف إسهامات المفكرين العرب بشأن تعريف مصطلح العلمانية، فعلى سبيل المثال:

  • يرفض المفكر المغربي محمد عابد الجابري تعريف مصطلح العلمانية بإعتباره فقط فصل الكنيسة عن الدولة، لعدم ملاءمته للواقع العربي الإسلامي، ويرى استبداله بفكرة الديموقراطية "حفظ حقوق الأفراد والجماعات"، والعقلانية "الممارسة السياسية الرشيدة".
  • في حين يرى د. وحيد عبد المجيد الباحث المصري أن العلمانية (في الغرب) ليست فكرانية (أيديولوجية)(منهج عمل)، وإنما مجرد موقف جزئي يتعلق بالمجالات غير المرتبطة بالشؤون الدينية. ويميز د. وحيد بين "العلمانية اللادينية" -التي تنفي الدين لصالح سلطان العقل- وبين "العلمانية" التي نحت منحى وسيطاً، حيث فصلت بين مؤسسات الكنيسة ومؤسسات الدولة مع الحفاظ على حرية الكنائس والمؤسسات الدينية في ممارسة أنشطتها.
  • وفي المنتصف يجيء د. فؤاد زكريا -أستاذ الفلسفة- الذي يصف العلمانية بأنها الدعوة إلى الفصل بين الدين والسياسة، ملتزماً الصمت إزاء مجالات الحياة الأخرى (مثل الأدب). وفي ذات الوقت يرفض سيطرة الفكر المادي النفعي، ويضع مقابل المادية "القيم الإنسانية والمعنوية"، حيث يعتبر أن هناك محركات أخرى للإنسان غير الرؤية المادية.
  • ويقف د. مراد وهبة - أستاذ الفلسفة- وكذلك الكاتب السوري هاشم صالح إلى جانب "العلمانية الشاملة" التي يتحرر فيها الفرد من قيود المطلق والغيبيّ وتبقى الصورة العقلانية المطلقة لسلوك الفرد، مرتكزاً على العلم والتجربة المادية.
  • ويتأرجح د. حسن حنفي-المفكّر البارز صاحب نظرية اليسار الإسلامي- بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ويرى أن العلمانية هي "فصل الكنيسة عن الدولة" كنتاج للتجربة التاريخية الغربية. ويعتبر د. حنفي العلمانية -في مناسبات أخرى- رؤية كاملة للكون تغطي كل مجالات الحياة وتزود الإنسان بمنظومة قيمية ومرجعية شاملة، مما يعطيها قابلية للتطبيق على مستوي العالم. من جانب آخر، يتحدث د.حسن حنفي عن الجوهر العلماني للإسلام -الذي يراه ديناً علمانياً للأسباب التالية:
    1. النموذج الإسلامي قائم على العلمانية بمعنى غياب الكهنوت، أي بعبارة أخرى المؤسسات الدينية الوسيطة.
    2. الأحكام الشرعية الخمسة، الواجب والمندوب والمحرّم والمكروه والمباح، تعبّر عن مستويات الفعل الإنساني الطبيعي، وتصف أفعال الإنسان الطبيعية.
    3. الفكر الإنساني العلماني الذي حول بؤرة الوجود من الإله إلى الإنسان وجد متخفٍ في تراثنا القديم عقلاً خالصًا في علوم الحكمة، وتجربة ذوقية في علوم التصوف، وكسلوك عملي في علم أصول الفقه.

يقول المفكر السوداني الخاتم عدلان الذي يعتبر من أبرز المنادين بالعلمانية في المنطقة العربية "ان العلمانية تعني إدارة شؤون الحياة بعيدا عن اي كهنوت كما ظهرت اتجاهات جديدة في تعريف العلمانية مثل التي تنص على ان العلمانية هي استعداد الفرد والمجتمع للاستفادة من خلاصة المنتوج البشري في سبيل تحقيق رفاهيته" .

  • العلمانية في الدول الإسلامية السودان كنموذج:

ارتبط مصطلح العلمانية في بعض المجتمعات العربية والإسلامية "بالكفر" و"الالحاد" و"الزندقة" وهذا قد يرجع إلى طبيعة المجتمع الذي الذي يعتنق الاسلام وطبيعة الإسلام كدين له خصوصيته ومن أهم الأسباب التي خلقت التلازم الوهمي بين الالحاد والعلمانية عدم احترام قيم الشعب وازدراءها من النخب العلمانية في الدول العربية والإسلامية وارتبطت الشيوعية في دولة كالسودان بالشيوعية التي ارتبطت بدورها بالكفر وهذا ناتج بصورة أسساسية من التعالي الذي ابداه الشيوعيين الأوائل على قيم الدين حتى ان جماعات الاسلام السياسي استطاعت ان تستغل ذلك وتطرد أعضاء الحزب الشيوعي من البرلمان بعد اساءة وجهها في منبر من منابر الحزب إلى شخص عائشة بنت ابي بكر زوجة النبي محمد المقدسة عند السنة ولعل هذه الأسباب بالإضافة لقوة تيارات الإسلام السياسي في السودان هي التي تجعل انتشار العلمانية في دولة كالسودان من الأمور الصعبة، ومما زاد الطين بلة ان بعض العلمانيين السودانيين ربطوا بين العلمانية والتعدد الديني والسودان سيشهد في عام 2011 عملية استفتاء تقرير مصير التي نصت عليها اتفاقية نيفاشا 2005 والتي غالب الظن ستؤدي لانصال جنوب السودان البقعة الوحيدة في السودان التي فيها تنوع ديني مما سيؤدي إلى ادخال العلمانيين الذين يبررون بالتعدد الديني في محك حقيقي. في السودان حاليا تنظيمات تسمى تنظيمات السودان الجديد تدعو للعلمانية ولا تربط بينها وبين التنوع بل تعتبرها شرط التطور ومن هذه التنظيمات لحركة الشعبية لتحرير السودان حركة تحرير السودان التي أسسها عبد الواحد محمد نور المؤتمر السوداني حركة القوى الجديدة الديمقراطية حق

قراءة في كتاب العلمانية

العلمانية

قراءة في كتاب العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الاسلامية المعاصرة ، وسوف يتم اضافة قرائات اخرى من كتب عن العلمانية ، وبأستطاعتك عزيزي الزائر بأن تشارك في هذا الموقع بمواضيع عن العلمانية وذلك بارسال مقالك على البريد التالي.

E-mail: fahdnah@yahoo.com


المقدمة


المقدمة

عندما التقت اليهودية بالشيطان وزنا بها حملت منه سفاحاً وولدت مسخا سموه العلمانية وتربى وتغذى هذا المسخ على كره الأديان السماوية والأخلاق الحميدة ونما وترعرع في أوربا حيث كانت الكنيسة هناك تمثل وترمز لدين سماوي من عند الله فعمد هذا المسخ – العلمانية – على محاربة هذا الدين ونزع جذوره من نفوس متبعيه ونجح في ذلك ، ومن المعلوم أن سر نجاح هذا المسخ – العلمانية – في سحق النصرانية إنما هو ناتج عن ضعفها بعد التحريف والتأليف الذي أصابها

وبعد نجاح هذا المسخ هناك أراد أن يمد جذوره وفروعه إلى هنا حيث بلاد الإسلام فتبنا بعض لقطاء هذه الأمة وقام هذا المسخ بإرضاعهم من ثديه سموم أفكاره العلمانية حتى الثمالة فعادوا إلى بلاد الإسلام – هؤلاء اللقطاء – وهم سكارى بهذه الأفكار ويحملون بأيديهم معول الهدم لهذا الدين ومحاربة تطبيق شرع الله عز وجل ونشر الفساد والتفسخ باسم التحرر من أحكام الدين

إنهم صورة مجسدة للنمرود في حواره مع الخليل إبراهيم عليه السلام

وفرعون في تكبره وتحديه لموسى عليه السلام

ويهوذا في خيانته للمسيح عليه السلام

وأبي جهل في جاهليته مع رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم

هم كل هؤلاء .... اجتمعوا في فكر واحد وهدف واحد وأجساد مختلفة هو هدم الإسلام والتشكيك فيه ، ونسوا أو تناسوا أن الكثير من سلفهم الضال قد ساروا من قبل على دربهم إلا أن الله غالب على أمره ومتم نوره ولو كره الكافرون.


قراءة في كتاب العلمانية { 1 }

نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة

عندما تصاب أمة من الأمم بهذا المرض المدمر (( فقدان الذات )) فإن أبرز أعراضه يتمثل في الانبهار القاتل بالأمم الأخرى والاستمداد غير الواعي من مناهجها ونظمها وقيمها . وقد وقع ذلك في حياة الأمة الإسلامية تأويلاً لقوله صلى الله عليه وسلم ( لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو أن أحدهم دخل حجر ضب لدخلتم ، وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه ) لقد خيل للأمة أن هذا الداء العضال يمكن مداواته باستعارات ساذجة ومظاهر جوفاء وترقيعات صفيقة تتلقاها جميعها من الكفار الذين أصبحت تخجل من أن تسميهم بهذا الاسم ، بل أسمتهم ((العالم المتحضر )) و (( الأمم الراقية ))!! وكان استعدادنا الذاتي وقابليتنا للذوبان هما المبرر الأكبر للحرب النفسية الشرسة التي نسميها (( الغزو الفكري )) تلك التي استهدفت مقومات وجودنا وأسس أصالتنا . وجاءت طلائع الغزو الفكري - كما هو الحال في سبيل الشيطان - متعددة الشعارات ، متباينة الاتجاهات ، عليها من البهرجة والبريق ما يكفي لتضليل وإغراء أمة منبهرة مهزوزة .

تعريف العلمانية : لفظ العلمانية ترجمة خاطئة لكلمة Secularism في الإنجليزية ، أو ( Secularite ) بالفرنسية ، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ (( العلم )) ومشتقاته على الإطلاق . والترجمة الصحيحة للكلمة هي (( اللادينية )) أو (( الدنيوية )) ، لا بمعنى ما يقابل الأخروية فحسب ، بل بمعنى أخص هو ما لا صلة له بالدين ، أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد . تقول دائرة المعارف البريطانية مادة (Secularism) : هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها. والتعبير الشائع في الكتب الإسلامية المعاصرة هو (( فصل الدين عن الدولة )) وهو في الحقيقة لا يعطي المدلول الكامل للعلمانية الذي ينطبق على الأفراد وعلى السلوك الذي قد لا يكون له صلة بالدولة ، ولو قيل أنها (( فصل الدين عن الحياة )) لكان أصوب ، ولذلك فإن المدلول الصحيح للعلمانية هو (( اقامة الحياة على غير الدين )) .


قراءة في كتاب العلمانية { 2 }

العلمانية والعالم الإسلامي

العلمانية فكرة مستوردة لا يشك في ذلك أعداؤها ولا يماري فيه أحد من دعاتها ومعنى ذلك بداهة أنها ليست من صميم الإسلام ولا هي حتى من إنتاج المنتسبين إليه ، ولذلك وجب – قبل كل شيء – أن ننظر إليها نظرتنا إلى أية بضاعة مستوردة من جهة حاجتنا إليها أو عدمها ، فما لم نكن بحاجةإليه فإن فينا باعتبارنا عقلاء أن نميز ونختار ونأخذ أخذ الواعي الحذر. وبتطبيق هذه البديهية على العلمانية نجد أنها بضاعة نحن في غنى تام عنها ، أي أن من الحمق والغباء أن نستجلبها حتى وإن كانت نافعة ومجدية بالنسبة للمجتمعات والظروف التي أنتجتها. ثم أنه يجب سلفاً ألا ننسى أننا لسنا مخيرين أصلا في قبول هذه الفكرة أو رفضها ، وإننا إنما نناقشها من قبيل الفرض الجدلي والنزول إلى مستوى الخصم ، وإلا فإن ما سيأتي تقريره من حكم العلمانية في دين الله لا يدع لنا فرصة للتفكير أو التردد إن العلمانية تعني – بداهة – الحكم بغير ما أنزل الله فهذا هو معنى قيام الحياة على غير الدين ، ومن ثم فهي نظام جاهلي لا مكان لمعتقده في دائرة الإسلام بل هو كافر بنص القرآن الكريم { ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الكافرون }

وإن مما يثير الانتباه إن أكثر الآيات الواردة في تكفير من لم يحكم بما أنزل الله ونفي الإيمان عنه – إن لم تكن كلها – إنما جاءت في سياق الكلام عن الذين يدعون – بتشديد الدال- الإيمان من أهل الكتاب أو المتظاهرين بالإسلام وربما كانت الحكمة في ذلك أن من لم يدع – بتشديد الدال- الإيمان بشيء من كتب الله كافر بالضرورة ، وقضية تحاكمه إلى غير الله واضحة لا لبس فيها ولكن الوهم قد يصيب بعض من ينتسبون إلى أحد الكتب السماوية فيحسبون أنهم مؤمنون وهم لا يحكمون بما أنزل الله فيها بل يطيعون غير الله معه أو من دونه.

ويوضح ذلك الآيات المتتابعة في سورة المائدة من قوله تعالى { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} وفي آل عمران { ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون} وفي سورة النساء { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما }

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( لا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر...)

وما الفرق بين قول قريش يا محمد : أعبد آلهتنا سنة ونعبد آلهتك سنة وبين قول العلمانيين – لفظاً أو حالاً – نعبد الله في المساجد ونطيع غيره في المتجر أو البرلمان أو الجامعة؟ قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون }


قراءة في كتاب العلمانية {3}

ماذا بقي للدين ؟

المبدأ الأساسي الذي قامت عليه الحياة الأوروبية المعاصرة ( العلمانية ) هو عبادة الهوى وتحكيمه من دون الله فالإنسان المعاصر الذي شب عن الطوق واستغنى عن الإله لم يعد بحاجة إلى الرجوع إليه!!

ومن هنا جاءت كلمة ( جورج سانتياتا ) ( إن حياتنا بكاملها وعقلنا قد تشبعا بالتسرب البطيء الصاعد لروح جديدة هي روح ديموقراطية دولية متحررة وغير مؤمنة بالله )

وهكذا نجد الباحثين العلمانيين – حتى من كان منهم يذهب إلى الكنيسة يوم الأحد – يكتبون في كل التخصصات من منطلق العداوة العمياء للدين :

فالذي يتحدث في علم النفس ... يقول أن الدين كبت ينبغي أن يحطم لكي لا يؤذي الكيان النفسي للفرد!

والذي يتحدث في الاقتصاد ... يقول أن الاقتصاد الصناعي يحتاج إلى مجتمع متحرر من القيود الموروثة ، ومن بينها كذلك احتجاز المرأة لمهمة إلا أمومة إذ ينبغي في المجتمع الصناعي أن تخرج المرأة لتعمل!

والذي يتحدث في الاجتماع ... ينظر بعين السخرية إلى تلك السذاجة التي كانت تخيل للناس أن الدين فطري وأنه شيء منزل من السماء!

والذي يتحدث عن العلوم ... العلوم البحته ، لا ينسى الدين كذلك أنه يذكر الناس يوم كان الناس متدينين فكانوا لجهلهم الشديد ينسبون ما يحدث في الكون كله إلى الله!

والذي يتحدث في الفن ... يزري بتلك الأيام التي كان التحدث عن الجنس فيها يعتبر عيباً تأباه الأخلاق ، تباً لكم أيها المتأخرون كم كنتم تحجبون من ألوان الجمال الممتع البهيج الأخاذ انظروا إلينا نحن المتحررين! اليوم نجعل الجنس فناً قائماً بذاته ... تعالوا نعر الناس ذكوراً وإناثاً ونطلقهم ينشطون نشاط الجنس ... ونمسك الكاميرا للتسجيل!

والذي يتحدث عن السياسة ... يرثى لحال الإنسان أيام القرن الأول حين كان يتحكم ويخضع لقوانين غيبية لا يد له في وضعها وكان محرما باسم الطاعة الإلهية !

هذا على صعيد الفكر والبحث فماذا على صعيد الحياة العملية !

إن الشرق الشيوعي يعترف صراحة بأنه قد قضى أو في سبيل القضاء على كل شكل من أشكال العبادة والمظاهر الدينية حتى الشخصي منها.

إن دعاة اللادينية ( العلمانية ) من المخادعين والمخدوعين يقولون أنه لا ضرر على الدين من قيام الحياة اللادين !! فالكنائس ستظل مفتوحة بل إن عددها ليزداد وهناك يوم الأحد حيث تقفل الدوائر الرسمية وغير الرسمية أبوابها في حين يكون وعاظ الكنائس ومنشدوها في ذروة نشاطهم ، وهناك الحرية الشخصية التي لا تضع على حرية العقيدة أي قيد وتتيح لأي متحمس للدين أن ينضم إلى سلك الرهبانية بلا اعتراض من الدولة بل إن رجال الحكومة احياناً كما أن من حق الكنيسة أن تقيم طقوسها ومراسيمها وحفلاتها يتشرفون بحضورها.

أما الزواج فلا تزال غالبية الجماهير ترى ولو نظرياً إن إقامة طقوسه في الكنيسة افضل من العقود المدنية أو الزواج بلا عقد. وكل هذه الأمور – في نظرهم – تجعل الدين يحتفظ بمكانته ونفوذه !!!– ضمن دائرته الخاصة بطبيعة الحال – وتتيح له أن يوجه أتباعه – في نطاق هذه الدائرة – كما يشاء !!!.

الحجاب في تركيا خلاف بين العلمانية والدين

Tuesday, June 23, 2009

عمانوئيل كانط : الدين في حدود العقل او التنوير الناقص- محمد المزوغي

عمانوئيل كانط : الدين في حدود العقل او التنوير الناقص- محمد المزوغي

الجمعة 18 نيسان (أبريل) 2008، بقلم كتاب آخرون

طباعة المقال إبعث المقال عبر البريد الإلكتروني title=

كلمة الغلاف :

المهمة التي ينبري لها هذا الكتاب ليست يسيرة.

إنه يضع تعاليم كانط الأساسية ومواقفه من الدين، والعقل، والإيمان، والتنوير، على مشرحة النقد. ويستعرض المحاولات النظرية والعملية التي تجابه الفكر الديني كله، وتذهب به الاستنتاجات والتحليلات إلى تبيان وسطية كانط ومنحاه التوفيقي الذي يجمع بين الاتجاه العقلي والاتجاه الديني.

فماذا لو برهنت المقارنة مع الفلاسفة الماديين الفرنسيين أن كانط، وهو أحد آباء التنوير، ليس سوى متذبذب أقدم على تنازلات جد محرجة لحساب اللاهوت البروتستانتي؟

هذه القراءة النقدية للمشروع النقدي الكانطي من المنتظر أن يكون لها صداها في أوساط الدارسين والمؤرخين والمتابعين وذوي الاختصاص.

قراءة: عبدالله المطيري

الناشر: رابطة العقلانيين العرب ودار الساقي.

تاريخ النشر2007

عدد الصفحات: 220 صفحة .

*كانط منقودا!… هذه أول مرّة حسب علمي يصدر فيها باللغة العربية كتاب كامل لنقد الفيلسوف الألماني الكبير كانط صاحب النقد الشهير (نقد العقل المحض، نقد العقل العملي، نقد ملكة الحكم). وقد كنا قدمنا بمناسبة صدور الترجمة العربية لنقد ملكة الحكم في هذا الملحق أربع حلقات عن فيلسوف النقد إيمانويل كانط ابتداءا من 20أبريل 2006العدد 13814.مؤلف كتابنا اليوم هو محمد المزوغي مفكر تونسي مقيم في إيطاليا من مواليد 1961متخصص في الفلسفة وخصوصا في الفلسفة المسيحية فترة القرون الوسطى. وهو أستاذ الفلسفة الإسلامية منذ سنة 1998بالمعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية بروما. للمزوغي خط نقدي مستمر فقد قدم مجموعة كتب ذات روح نقدية سواء في الفلسفة الغربية ككتابه "نيتشه، هايدجر، فوكو. تفكيك ونقد". أو في الفكر العربي كدراساته عن ابن خلدون وكتابه الأخير في نقد مشروع محمد أركون "العقل بين الوعي والتاريخ" الصادر عن دار الجمل مؤخرا.

هذا الكتاب هو قراءة نقدية لمشروع كانط النقدي وعلى وجه الخصوص كتابه "الدين في حدود مجرد العقل". الكتاب الذي تظهر فيه بوضوح أفكار كانط فيما يتعلق بالدين. وهذا الموضوع أي علاقة الدين بالفلسفة أو الموقف من الدين بالنسبة للفيلسوف هو موضوع رئيس في طرح المزوغي ويمثل الأطروحة الكبرى في هذا الكتاب. مبكرا، وفي العنوان الرديف يصرّح المزوغي بنتيجة الكتاب وخلاصته "التنوير الناقص" الذي هو هنا تنوير كنط، فيلسوف التنوير الكبير. إن تنويره ناقص بحسب المزوغي بسبب موقفه المتردد في العلاقة مع الدين. هو تنوير ناقص مقارنة بتنوير الماديين الفرنسيين الذين كان لهم موقف حاسم وصريح من الدين. بينما بقي كانط كما يسميه المزوغي "فيلسوفا بروتستانتيا".

في البداية لا بد من الاتفاق مع المزوغي على مبدأ النقد الذي لا يستثنى منه أحدا. لا يجب أن يكون هناك أحد فوق النقد، أيا كان. بل إن الفلاسفة هم أولى الناس بالنقد، كونهم يطرحون أفكارهم ومناهجهم المؤثرة كثيرا والتي هي عرضة، بسبب قيمة الفلاسفة، لأن تؤخذ بالتسليم دون فحص وتفكر وهذا ما سيؤدي بها إلى التحول إلى دوغما ضررها أكبر من نفعها ستبقى حجر عثرة في طريق تطور الأفكار لأوقات ليست بالقليلة. حين نتفق على هذه الفكرة الأولى، فكرة النقد، ننتقل بعدها إلى التفكير في هذا النقد، في علميته، منهجيته. بمعنى القيام بمهمة نقد النقد. وهي مهمة في غاية الضرورة، ففيها خلق لحيوية عالية في التفكير واستمرار لأجواء الجدل والفعالية العقلية. المزوغي بعمله هذا ساهم بتحريك الكثير من العقول والأفكار في الوطن العربي. لقد أعادهم إلى طرح الكثير من الأسئلة المهمة والرئيسة.

"الدين في حدود مجرد العقل "هو أحد آخر الكتب التي ألفها كانط سنة 1793فقد تلا ثلاثية النقد التي فحص فيها العقل والأخلاق وفلسفة الجمال. ثم توّج هذا المشروع الكبير بفحص موضوع الدين. حيث إنه لن يكتمل مشروع النقد دون فحص الدين. بوصف أن التنوير كما يرى كانط هو تحمل الإنسان مسئولية تفكيره واستقلاله بها. ولن تحصل هذه الاستقلالية ولا يمكن القيام بهذه المسئولية دون اتخاذ موقف واضح من الدين الذي يقدم منظومة متكاملة من الأفكار والمواقف. تعرّض كانط للتهديد من الدولة فور صدور هذا الكتاب، الذي لم يترجم بعد للعربية!، ثم رد برسالة يوضح فيها أنه لم يهدف إلى رفض الدين أو تحقيره وأن كتابه غير مؤثر لأنه كتب للخاصة ولن يتأثر به العامة. لا يعتبر المزوغي موقف كانط المتناقض والمتردد من الدين نوعاً من التقية السياسية والاجتماعية بل هي تكمن في عمق تركيبة كانط الروحية. فهو تربى وعاش حياة بروتستانتية لم يستطع القطيعة معها. لكانط موقف صارم من الطقوس الدينية فهو يرى أنها نوع من النفاق والعبث ويرى أن الإرادة الإنسانية لا تحتاج إلى مشرع من خارجها. ولكن كانط يتراجع ويتناقض يقول المزوغي" لكن كانط لم يتمسك، كعادته، بأطروحته تلك، ولم يذهب بها إلى مداها الأقصى: لقد حدّ من خطرها، بل انقلب عليها وتبنّى نقيضها. مثلما فعل في نقد العقل الخالص، بعد أن سدّ الأبواب في وجه أي تعقّل ممكن للكيانات الغيبية الدينية من وجهة نظرية بحتة. إلا أنه أعاد تأهيلها على المستوى العملي وجعل منها ركيزة الفعل الأخلاقي والإيمان. يعود كانط ليناقض أطروحته التي تقول إن الأخلاق لا تحتاج إلى تمثّل أي غاية، بل هي استجابة للواجب، يناقضها بأطروحة أن الأخلاق لها علاقة ضرورية بغاية متمثلة. "وهذه الغاية تستلزم وجود إله توجه الأمور له. يرى المزوغي أن إدخال مقولات لاهوتية في منظومة الفيلسوف الفكرية هو خيانة للعقل وتذبذب في الموقف الذي يجب أن يقطع فيه الفيلسوف مع كل التصورات الماورائية اللاعقلية. ينطبق هذا الكلام في حدود العقل المحض وكذلك العقل العملي (مجال الأخلاق) يجب أن تكتمل المنظومة الفلسفية المستقلة. يقول المزوغي" ما هو الشرط الأساسي لبناء أخلاق إنسانية بحتة والقطع النهائي مع المرجع اللاهوتي؟ ليس ثمة شك في أن الشرط الأساسي هو الارتكاز على مبادئ فلسفية ماديّة… وإلا ستعود الأخلاق إلى أحضان اللاهوت والدين. لم يتحقق نظريا ذلك المشروع، أي مشروع فك الرباط بين الأخلاق والدين، العقل والإيمان، إلا في القرنين السادس والسابع عشر مع ثلّة من الفلاسفة الفرنسيين ذوي التوجه المادي الإلحادي الصريح".

تاريخيا كان فلاسفة الأنوار الألمان (كانط، هيجل، شلنج…) نشأوا نشأة دينية مكثفة وواصلوا علاقتهم بالدين حتى بعد تفلسفهم. بالتأكيد أنهم لم يبقوا على التدين التقليدي الذي نشأوا عليه ولكنهم رغم كل النقد ورغم كل الخروج عن التعاليم الدينية إلا أنهم لم يقطعوا مع الدين نهائيا بمعنى أنهم لم يتبنوا المادية والإلحاد الصريح. كان نيتشه يسخر من قومه ويصف فيلسوفهم أنه قس بروتستانتي. الجيل التالي من الفلاسفة الألمان تجاوز هذا الوصف وقطع جزء منهم خصوصا اليسار مع الدين أمثال فيورباخ وماركس. في فرنسا وإنجلترا يختلف الوضع فالفلسفة المادية كان لها الريادة وتبنى الكثير من فلاسفة التنوير القطع مع الأفكار الدينية بشكل جذري. نتحدث عن أمثال هيوم وديدرو وروسو.

يستحضر المزوغي في نقده لكانط أبرز النقودات التي قدمت ضد مشروع كانط، يستحضر نقد هيجل وشلنج وهردر وفون كلايست إلا أن الإشكالية الكبرى في نقد المزوغي لكانط أنه يصل من خلال التناقضات والترددات في مشروع كانط إلى أنه ارتكاس وردّة فعل ضد إنسانوية التنوير وخيانة لمبادئ التحرر. وهذا بالتأكيد ظلم كبير لأحد أكبر فلاسفة التنوير، الفيلسوف الذي قدّم أحد أكبر مشاريع التفكير البشرية والتي تتأسس على مسئولية الإنسان تجاه تفكيره. هذه المسئولية التي جعلها كانط شعاراً للتنوير. أن يخرج الإنسان من حالة القصور التي هو فيها ليتحمل مسئولية تفكيره ويقوم بمهامه. قام كانط بهذا الدور بامتياز. أما أن فلسفته لم تقطع مع اللاهوت وأن تصوره للدين يبقيه في حدود العقل. فهذه قضية لا تناقض التنوير خصوصا في الفترة التي عاشها كانط، فأفكار كانط التي وضعت الدين في حدوده الخاصة وحاول حصر ما يمكن تعقّله فيه كان لها وقع كبير في تحريك الفكر الديني في وقته. يعلق البروفيسور الفرنسي جاك دوندت، صاحب الدراسات المهمة عن هيجل، على هذه القضية قائلا "إن هذه الأفكار الكانطية لم تعد تصدم رجال الدين في عصرنا الراهن. فقد سمعوا بمثلها وأكثر!… ولكن مهما تكن درجة التساهل التي سمح بها التنوير الألماني، فإن أفكار كانط لها وقع الزلزال على معاصريها، وبخاصة تلامذة اللاهوت".

إن مقولة التنوير الناقص التي يرادف بها المزوغي كانط تحتوي ضمنا على مقولة التنوير الكامل الذي يبقى أسطورة في العقول لا في الواقع. الواقع لم ولن يشهد تنويرا كاملا، باعتبار التنوير هو الوصول إلى المعاني الحقيقية للإنسان، إلى حريته وعقلانيته وفرديته. وبالتالي فإن كل تنوير هو ناقص بالضرورة لا انتقاصا منه ولكن إدراكا لمعنى أهداف التنوير وقيمتها. إذا كان التنوير شعاراً لمسيرة الإنسان الحقيقية للمعرفة فإن مشروع كانط النقدي ومجمل كتاباته هي في صميم التنوير. وليس الموقف من الدين هو من يحسم تنور الأفكار من عدمها بقدر ما هو العمل الجاد والصادق نحو الوصول للحقيقة والإخلاص لها. هو تحمل مسئولية التفكير والقيام بها.

يبقى الإنسان هو القيمة الأساسية في مشروع كانط النقدي وفي مجمل تفكيره ولم يتنازل عن هذه القيمة على طول الخط. كان لكانط ومع تطوره الفكري موقف وفهم خاص للدين فقد كان يرى الفصل الكامل بين الفلسفة والدين وبين العلم والدين ويرى أن المشكلات تظهر حين يحاول أحد منهم التدخل في الآخر وإخضاعه له. وقد رفض كنت جميع أشكال ما سمّي بنصرة الدين للفلسفة أو العكس، كما أنه رفض القول بلاهوت طبيعي مؤسس على معطيات عقلية. وعنده أن الفلسفة لا تحتاج إلى طقوس ولا تقشف ولا خلوة رهبانية عن طريق إماتة الجسد والزهد ليصل عليها الوصول إلى الحقيقة. إن قوانين ومبادئ العقل هي التي تكشف للإنسان ما يجب أن يؤمن به ويسلك بموجبه تجاه نفسه وتجاه الآخرين وتجاه الكائن الأسمى أيضا، مع الاحتفاظ الكامل بعقلانيته وحريته.

كان كنت رافضا بشكل كامل لسلطة رجال الدين. يذكر أنه كان من تقاليد الجامعات الألمانية أن يطوف الأساتذة والإداريون والطلاب في أول يوم دراسي "اليوم الأكاديمي" بالمدينة حتى يصلوا في الختام إلى كنيسة الجامعة حيث يصلي الجميع وينالوا بركة رجال الدين. كان كنت يطوف مع الموكب حتى إذا اقترب من الكنيسة انصرف عن الموكب واتجه لبيته.

هل يمكن أن نقول أن فولتير كان "مرتدا" عن التنوير أو "خائنا" له لأنه كان يقول إنه "لو لم يكن الله موجودا لوجب إيجاده"، لأنه لم يقطع نهائيا مع التصورات اللاهوتية. لا يمكن هذا وإلا وقعنا في الدوغما والوثوق. المزالق التي يمكن بسهولة أن يقع فيها دعاة التغيير والنهوض والتطوير. وهم بهذا يحكمون بالنهاية على مشاريعهم وأفكارهم. كان من أهم وأبرز النقد الموجه لعصر التنويرأن العقل فيه تحول إلى إله جديد، إله لم يعد أحد يستطيع مناقشته. أدى هذا إلى الوثوق بمبالغة في العقل البشري وإقصاء الجوانب الأخرى وإزاحتها مما أدى إلى الوقوع في الكثير من الشناعات.

في كتاب المزوغي الكثير من الجدية والعمل المتقن ولكنه في ذات الوقت يحتوي على الكثير من الوثوق والجزم والحدّة. لا يستطيع أحد أن ينكر أن الوبال العظيم الذي وقع على الفلاسفة إنما كان جلّه على يد رجال الدين تحديدا. فقد حاربوهم وحرّضوا عليهم الخاصة والعامة، ولكن هذا لا يعني أن يقف الفيلسوف موقفا عدائيا من الدين على هذه الخلفية التاريخية. بل يجب عليه أن يجعل الدين مفكرا فيه، بحرية وموضوعية. لن تكون الطرق أمامه سالكة خصوصا في العالم الإسلامي اليوم ولكن عليه ألا ينخرط دون وعي في معركة أيديولوجية يخسر فيها قيمته الحقيقية كونه مفكراً حراً يسعى جادا وصادقا للحقيقة.

عبادة ابن رشد : فلسفة التنوير النخبوي

عبادة ابن رشد : فلسفة التنوير النخبوي

منذ الستينيات، بل وحتى الآن إلى درجه كبيرة، تحوم فكرة ابن رشد كمفكر عقلانى فى أوساط المثقفين العرب وبعض المثقفين غير العرب أيضاً. فالبعض أعلن أنه مُفكّر تنويري أو مُبشِّر بالحداثة إن لم يكن بالفعل مُفكّرا حداثيا. نجد هذا المشروع عند مفكرين مثل عاطف العراقى ومراد وهبة، وبشكل أكثر جدة عند محمد عابد الجابرى. ولأن المثقفين فى الدول العربية محاصرون بين النظم السلطوية القمعية ومد التيارات الإسلامية، سواءً كانت تكفيرية أو تُظهر "التسامح"، مع إصرارها على أنها تمتلك "الحق" وفقا لمبدأ الحاكمية، فإن ضرورة طرح برنامج تنويرى ديمقراطى لفهم الذات أصبحت ملموسة.
ولكن فى رأيى أن ابن رشد ﻻ يمكن أن يساعدنا فى صياغة هذا البرنامج التنويرى البديل، لأنه ليس مفكراً تنويرياً. فمفهوم العقلانية عنده له طابع سابق على الحداثة، ينتمى إلى القرون الوسطى، ويختلف كثيرا عن مفهوم العقلانية عند مفكرى التنوير مثل إمانويل كانط كما سيتضح أدناه. والواقع أن فكرة الرجوع إلى ابن رشد من أجل صياغة برنامج تنويرى يراعى "خصوصيتنا الحضارية" ويكون نتاجاً "لتراثنا" ليست إلا بقايا البرنامج القومى العربى الذى يغالى فى تبنى خطاب تمايز الحضارات والثقافات، وكأن التنوير والعقلانية يتنوعان عرقياً وثقافياً. بالطبع من الضرورى أن ندخل فى حوار نقدى مع الماضى، ولكن هذا ﻻ يعنى أن نُغمض عيوننا عن ﻻعقلانيته أو أن نهبط بمعايير المشروع التنويرى لتتفق مع حدوده الضيقة.
فى البدء أتفق مع محمد عابد الجابرى على أن الحداثة بمعناها العام هى أن ﻻ تكون هناك مرجعية غير العقل (أنظر مقدمة الجابري لكتاب فصل المقال، عن مركز دراسات الوحدة العربية. ص٤٨). ولنلقى نظرة على ابن رشد لنرى إذا كان هذا ينطبق عليه. المشكلة كما أراها أن المرجعية عند ابن رشد ليست واحدة تتمثل فى العقل، وإنما هى مزدوجة: العقل الأرسطى والنص الدينى. ولأنه ﻻ يوجد "توافق" تلقائى بين المرجعيتين على المستوى الظاهر، جاءت الفكرة الرشدية لتفسير النص لتحل عقدة اللا توافق، ومؤداها أنه إذا استخلص "العقل" (وسنرى مفهوم هذا العقل بعد قليل) نتائج معينة، وكانت هذه النتائج تتعارض مع نص الشرع، يجب تأويل النص حتى ﻻ يتعارض معناه الباطن (أى المؤوَّل) مع "العقل"؛ على أساس أن هذا التعارض غير جائز من أساسه، أى أنه تعارض وهمى. ويُطمئننا ابن رشد قائلا إننا "معشر المسلمين نعلم على القطع أنه ﻻ يؤدى النظر البرهانى [:العقل] إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق ﻻ يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له" (فصل المقال. ص٩٦). فهناك إذن مرجعيتان للفكر الرشدى، ويكون دور التأويل أن يظهر أن الحقيقة النقلية، أو النص، تحتوى بشكل ضمنى على الحقيقة العقلية، والتى ﻻ نعرف فحواها بعد.
مثل هذا المشروع الذى يقف عند هذا المنعطف إنما يعلن بلهجة الانتصار عن إفلاس قدراته التحليلية، لأنه لا يكفى أن نتكلم بصفة عامة عن "العقل" بدون توضيح محتوياته. وقد نوافق على أن هذا الطرح الذى يقبل تأويل النص الدينى أفضل من القراءة الحرفية له، وهى أسوأ شكل لمبدأ الحاكمية، ولكن هل هو بالضرورة تنوير؟ يجب أن نتذكر أن مشروع التنوير فى أساسه علمانى، بمعنى أنه مشروع يطالب بممارسة العقل بغض النظر عن النص الدينى. ﻻ تحتاج علمانية التنوير، التى تنادى بفصل المؤسسات الدينية عن السياسية والتى تجعل الإيمان شأنا خاصا بالأفراد الأحرار فى اختياراتهم، إلى النص الدينى لكى تكتسب مشروعيتها، وإلا اعترفت ضمنياً بهزيمتها. التنوير العلمانى ﻻ يحتاج إلى أن يعرف إن كان موقفه متوافقا مع نص دينى ما أم لا. فالتنوير يصِر على قيمته المستقلة عن أية أطروحات لتأويل النص وعن خطاب المعقول والمنقول. وعلى خلاف ذلك، فإن أطروحة الجابرى، بشأن ابن رشد، والتى تبدو ﻷول وهلة كأطروحة مضادة لحاكمية النص، تسلم فى النهاية بمرجعيته ولو بشكل غير مباشر.
دعنا نسير مع طرح الجابرى خطوة أخرى، متناسين مؤقتا عدم كفاية أى مفهوم لتأويل النص لصياغة مشروع التنوير، ولنسأل عن محتوى "العقل" الرشدى. العقل هنا ليس سوى فلسفة أرسطو كمذهب ونظام كامل، وهو إذن مرجعية مُطلقة لمذهب معين. العقل عند ابن رشد ﻻ يعنى إذن المنهج أو الإجراء(procedure) النقدى، فهو بالأحرى نظام و مضمونى (substantive) كامل ومغلق. العقل الرشدى ﻻ يتميز بمنهج نقدى يصلح للتعامل مع معطيات ديناميكية، بل بالمضمون الثابت الذى انتهى التفكير فيه. فالعقل هنا ليست له دﻻﻻت تحررية بل هو اتباع نظام مغلق وكامل، وضعه أرسطو. وإذا كان "الحق ﻻ يعارض الحق" عنده، فإن هذا يرجع بالضبط إلى أن كل ما يقوله أرسطو نستطيع "نحن الفلاسفة" أن نجده فى النص أيضاً حتى لو اضطررنا إلى تفسير النص. العقل الرشدى ﻻ يفعل شيئا بشكل أساسى إﻻ "التوفيق" بين أفكار ومفاهيم انتهى التفكير فيها ولم تعد قابلة للنقد. وهكذا كان العقل الأرسطى والنص مرجعيتين مطلقتين، ولذلك لا تحتاج مقولة "الحق ﻻ يضاد الحق" إلى استنباط أو شروط، فهى حقيقة قبلية (أى معطاة سلفا)، كما أن أرسطو شخصيا، فى قول ابن رشد، "مخلوق ومُعطى لنا من العناية الإلهية حتى ﻻ نظل جاهلين بما يمكن أن نعلم" (من تعليقه على كتابات أرسطو فى علم الأحياء).
ويستخدم الجابرى أحياناً تعبيرات ممتعة عن مفاهيم أقل إمتاعا: فمحتوى العقل الرشدى، والذى بطله أرسطو، فى نظره، هو "إدراك الأسباب". ولكن "إدراك الأسباب" و"الاعتبار" ليست منهجا مؤسسا للمعرفة، وإنما هى وظائف فى نظام فلسفى مبنى بإحكام حول "حقائق أولية" وبديهيات ﻻ يجوز فحصها، وهو نظام يوظف العقل بدوره فى مهمة إثبات الرب كصانع وعلة أولى. وهكذا يقول ابن رشد فى بداية فصل المقال أن اعتبار الموجودات هو من حيث هي مصنوعة، وبالتالى تدل على صانع. بما يعنى أن مشروعية العقل الرشدى تعتمد بشكل أساسى على الغاية أو النهاية المعطاة بشكل قَبْلِى للعقل، وهو ما يمثل الخاصية الأساسية لمفهوم القرون الوسطى المحدود والمغلق للعقل؛ أو كما يقول الفيلسوف الألمانى هانز بلومنبرج (1920-1996)، أن العقل التنويرى الذى يرى لا نهائيته كانعكاس للانهائية الكون المفتوح يُعتبر من وجهة نظر القرون الوسطى مجرد "فضُول نَظرى"، بينما العقل التنويرى ﻻ يطرح على نفسه مهمة إثبات حقائق الميتافيزيقا أصلا، ﻷن لديه قوانين مستقلة ووظيفة اجتماعية وسياسية.
بالمقارنة مع هذه النظرة قال كانط، وهو المفكر النموذجى للتنوير اﻷوربى فى رأيى، أن مهمة العقل الأساسية وقبل أن ينشغل بالحقائق البديهية الأولى هى التفكير في مُسَلَّمَاته وافتراضاته وفى الحدود التى ﻻ يمكن للعقل أن يتخطاها إذا أراد أن يظل عقلانياً (وأشهر استنتاج يترتب على هذه الفكرة هو أن الإثبات النظرى لعلة أولى، أو صانع وخالق أول، على طريقة القرون الوسطى غير ممكن وليست له أسس بديهية). وهذا بالضبط هو النقد الذى يجب أن يسبق أى صياغة لمذهب أو نظام يمكن أن يوصف بأنه عقلانى تنويرى. فالعقل التنويرى هو نقد العقل لذاته بهذا المعنى الكانطى للنقد، والذى يغيب مفهومه تماما فى فكر ابن رشد (و أرسطو). بالمقابل يقر الأخير بكل المُسَلَّمَات الأرسطية ليواصل تبنى بقية نظامه الفلسفى، وحتى عندما يخالف أرسطو فيكون ذلك بهدف إنقاذ النظام الأرسطى. وتغيب إذن عن العقل الرشدى فكرة وضع المُسَلَّمَات والبديهيات أمام محكمة العقل، وبالتالى يصبح العقل عنده شيئا ميتا ومتحجرا، وتكون اﻷولوية للفكر فقط من حيث هو شىء أو نظام مكتمل ومنتهى، لا من حيث هو لحظة النقد التى تطرح على نفسها إثبات مشروعية وصلاحية المُسَلّم والبديهى، أو عدم مشروعيته ولا بديهيته.
تغيب عن الجابرى فى الحقيقة فكرة مهمة، وهى أن التنوير الأوروبى – فى القرن الثامن عشر - مبنى بشكل أساسى على نقض سلطة أرسطو. كما يعقد الجابرى مقارنة بين عصر النهضة الأوروبى أو عصر "إعادة الإحياء" (Renaissance) – من القرن الثالث عشر وحتى الخامس عشر - ومشروعه فى إعادة إحياء ابن رشد. هذه الإشكالية لا أستطيع الخوض فيها فى هذا المقال، و لكن يمكن القول أن عصر النهضة الأوروبى قدم فكرة خاطئة عن نفسه عندما صور النهضة كإعادة إحياء لأفكار معينة. كان الرجوع إلى أفلاطون فى الحقيقة ما هو إلا إجراء لإضفاء المشروعية على فلسفة فى مرحلة التحرر, ليس فقط من أرسطو و لكن من أفلاطون أيضاً. فلم يقل أفلاطون مثلاً (أو أرسطو) بلانهائية الكون، وهى فكرة محورية فى فكر عصر النهضة كمل يتضح من كتابات الفيلسوف الإيطالى جورديانو برونو(١٥٤٨-١٦٠٠). النهضة لم تكن إحياء لأفكار تم اكتشافها فى ما قبل و لكنها اندثرت فى عصور مظلمة، بل إنها طوّرت أفكار جديدة و مختلفة شكلاً و موضوعاً عن سابقها.
لعرض المشكلة بشكل أوسع, كان عصر الحداثة الأوروبى مرهوناً بنقض الفلسفة الأرسطية التى تبنتها مدارس القرون الوسطى. كما أن النقض الكانطى الموجه للفلسفات قبل النقدية موجه أيضاً إلى أرسطو ومدارس القرون الوسطى. قطع كانط رأس الحية بشكل جذرى عندما قال باستحالة البرهان النظرى على علة أولى أو محرك أول، وهو نقد ليس موجها فقط لفلاسفة القرون الوسطى الذين قالوا بعدم اختلاف هذه العلة الأولى عن الرب فى الديانات السماوية، و لكنه موجه بالضرورة إلى أرسطو أيضاً، فهو الذى قال بفكرة العلة الأولى فى الأصل. كما لم تعد مشروعية الفلسفة مبنية على غاية نهائية مطروحة مسبقاً، وهى الإثبات النظرى لعلة أولى. كما أن تركيز كانط على فكرة تحليل المسلمات و البديهيات وقوله بأن تحليل كيفية إدراكنا لها يسبق صياغة أى نظام فلسفى، لأنه يحدد معايير وحدود معينة للعقل، نقد ليس موجها فقط إلى ديكارت مثلاً بل إلى أرسطو والمدارس الأرسطية أيضاً. بالتالى لا يمكن لأى فلسفة تستقى إلهامها من أرسطو أو من ابن رشد (كمفكر أرسطى) أن تكون حداثية أو تنويرية فى وجهة نظرى، لأن التناقضات بينهما ليست سطحية علىالإطلاق. وعلى الأقل يتمتع الفلاسفة الأرسطيين الجدد فى أمريكا بقدر من الشفافية والفهم الموضوعى للذات عندما يقدمون فلسفتهم كفلسفة ما قبل حداثية (أو على الأقل كفلسفة لاحداثية) بشكل أساسى.
كذلك ﻻ يعير الجابرى اهتماما حقيقياً لمشكلة أخرى، ربما لأنها تسبب ارتباكا فى نظرته عن العقلانية الرشدية؛ وهى أن التنوير، فى أحسن أحواله، مشروع تحَرُّرى إنسانى عام للخروج من حالة القصور التى يفرضها البشر على أنفسهم ليصلوا إلى تطوير واستعمال قدراتهم. أود أن أشدّد على "إنسانى" هذه، لأنه مشروع ﻻ يتعلق بالنخبة والعلماء بل بالبشر فى عمومهم، وهو أيضاً مشروع عملى سياسى، وليس نظريا بحتا. بالمقابل نجد أن ابن رشد، بعد أن شرح فكرته عن تأويل النص، اتضح له أن هذا النوع من "العقل" ﻻ يمكن أن يظل مفتوحاً أمام الجميع. فلأن العقل هنا ﻻ يعنى ممارسة قدراتنا العقلية بل التوصل إلى استنتاجات صحيحة مبنية على مفاهيم عقلية أرسطية أولى، وجب على ابن رشد أن يضيف أن هذه الممارسة غير مباحة إلا للفلاسفة المتمرسين على المنطق الأرسطى. ويطرح ابن رشد فكرته هذه فى لغة القرون الوسطى المميزة، فهناك منازل ومراتب: يوجد ثلاثة أنواع أو "طبائع" للبشر؛ فالبعض يصدق بالبرهان، والبعض اﻵخر بالأقاويل الجدلية، وآخرون بالأقاويل الخطابية. ويسمح المضمون المركّب للنص الدينى بأن يصدق كل نوع وفقا لطبيعته. وبالتالى يجب أن يقْنَع عامة الشعب بالتأويل الخطابى والحرفى للنص الدينى، بينما يحتفظ الفلاسفة المتمرِّسين فى القياس المنطقى الأرسطى "بالحق" فى التأويل لاستخلاص المعنى الباطن للنص، والذى ﻻ يمكن من حيث المبدأ أن يتعارض مع النظام الأرسطى. فماذا يحدث لو تطاول واحد من عامة الشعب على هذا التقسيم وفقاً "للطبائع البشرية" وقرر تأويل النص؟ يجيب ابن رشد، مفكرنا التنويرى الكبير وقائد حداثتنا، أن هذا يؤدى إلى الكفر، وما يؤدى إلى الكفر فهو كفر، وبالتالى يجب على من ليس من أهل العلم (أى ليس من الفلاسفة الدارسين لأساليب القياس الأرسطية) أن يأخذ بظاهر النص، كما أن من يصرِّح من أهل العلم بتأويلاته الفلسفية للجمهور كافر لأن فعله يؤدى إلى الكفر. وباختصار يجب أن يلتزم كل فرد "بالطبيعة" و"الاستعداد" الخاصين به وألا يتخطَى حدوده فى التأويل لأن هذا يسبب بلبلة وفتنة بين الجمهور (المصدر السابق. ص ١١٩-١٢٤). واتساقا مع ذلك يرى ابن رشد ضرورة اتخاذ إجراءات لمنع وصول كتب التأويل الفلسفى إلى هذا الجمهور. السؤال اﻵن هو كيف تحول التفكير "التنويرى" إلى هذه الدرجة من المحافظة والنخبوية؟ ذلك أن ابن رشد يريد فقط أن يحتفظ بحق الفلاسفة فى التفلسف بغير خوف من الاضطهاد، وهو حق له مشروعيته، ولكن فى سياق حقوق البشر عامةً، وليس الفلاسفة وحدهم، وليس بثمن فرض حجر على المعرفة وممارسة العقل على الجمهور ككل، بتحديد نطاق ضيق للتأويل وحظر تداوله. فـ"التنوير" هنا، على محدوديته الأصلية بفلسفة أرسطو وبهدف محدد سلفا يتمثل فى التوفيق بينها وبين النص، لا يختص بشيء غير النخبة وحقها فى التفلسف عن العلل اﻷولى بدون مسائلة من السلطة. ولكن أين غابت الرسالة التقدمية الاجتماعية والسياسية؟
أعتقد أن الصورة أوضح اﻵن. مر الجابرى بسرعة على فقرات طويلة ومحرجة هنا، وفسَّر نظرة ابن رشد عن حظر التأويلات علناً بأنه كان يشك فى مبدأ العلنية publicity، خشية أن يكون إفشاء التأويل للجمهور بـ"أغراض سياسية" (المصدر السابق. ص٧٥). ولكن أليست هيمنة الفلاسفة المقربين من الأمراء والخلفاء بطبيعة وضعهم الاجتماعى على المعنى وعلى التأويل سياسة من الدرجة الأولى؟ كما أن السياسة الجماهيرية mass politics فى الواقع، وبدون أى انتقاص من قيمتها، عبارة عن محاكمة الأفكار والأطروحات علناً أمام الجمهور، لا السلطوية القائمة على مبدأ الرعاية الأبوية للشعب بما تتضمنه من حظر إطلاعه على أية منشورات قد يُرى أنها قد تثير الفتنة. ولم يحاول عاطف العراقى حتى إعطاء أية تبريرات لهذه الفكرة، فيبدو أنه يقبل بسلاسة فكرة وجود ثلاثة "أنواع" من البشر، ولا يبقى إلا أن يسأل كلٌ منا اﻵخر، كما نقول بالعامية، "أنت نوعك إيه؟" فالسلطوية أصبحت طبيعة ثانية لبعض "مفكرى التنوير" عندنا.
وبغض النظر عن إدانة هذا الموقف باعتباره سلطويا أو رعويا، فإنه فى كل الأحوال نقيض الموقف التنويرى الديمقراطى. ودعنا مرة أخرى نلقى نظرة إلى كانط على سبيل المقارنة. ﻻ يتطلب التنوير بالنسبة لكانط إلا حرية الممارسة النقدية العلنية للعقل. فالكل له حرية النقد والتفكير فى القوانين أو النصوص والتأويلات الدينية أو أى مجال آخر كمفكر يخاطب الجمهور علناً. ويعطى هذا النوع من النقد العلنى دفعة لعملية تكتسب فيها القوانين والقيم والمُسلّمات المشروعية والصلاحية اللازمتين لها من خلال المحاكمة العقلية. ومن هنا أتى دفاع كانط القوى عن حرية القلم، فالعلنية بالنسبة له تلعب دورا اجتماعيا وسياسيا فى مهمة التفكير الدائمة فى الذات، والتى هى شرط أساسى للتنوير، ولذلك ﻻ يمكن أن تكون هناك فى الموقف التنويرى حقائق أو قوانين ذو حصانة نقدية. وباختصار، يجب أن تكون ممارسة العقل، سواء تأويلا أو نقدا، عامة وعلنية لأن هدف التنوير الأساسي هدف يخص الإنسان فى عمومه وليس امتيازا لفرد أو لخاصة. وبينما نجد أن ما أُطلق عليه "تنوير" ابن رشد، معاديا صراحة للعلنية، وينصب هدفه على تحصيل العلم النظرى، فإن العلنية عند كانط كانت لها وظيفة إصلاحية اجتماعية وسياسية ذات مضمون ديمقراطى، وناتجة عن الحوار النقدى الذى ﻻ يستثنى من حيث المبدأ أحدا. وكما يقول يورجن هابرماس أحد أهم المُنظّرين لمفهوم العلنية عند كانط، "أن تفكر يعنى أن تفكر بصوت عالٍ". الوظيفة الديمقراطية للعلنية هى توسيع المجال لفئات أكثر من المواطنين في عملية اتخاذ القرار وسن القوانين عن طريق الحوار النقدى الذى يضفى على هذه القرارات والقوانين مشروعيتها وصلاحيتها.
ليس تأويل النص إذن تنويرا أو حداثة، بل كان موقف ابن رشد ﻻديمقراطيا فى جذوره كما رأينا. وفى النهاية يبقى أن نسأل عن الرغبة فى صياغة "تنويرنا" أو "حداثتنا" أو "ديمقراطيتنا": لا شك أن التفكير النقدى فى الماضى ضرورة، ولكنه ﻻ يجب أن يؤدي إلى طائفية فكرية. فالتنوير ليس ملكية خاصة للغرب لمجرد أنه بدأ تاريخياً ولأسباب اجتماعية وسياسية كحركة أوربية. فلا أحد يقول أن الرياضيات عربية لأنها تأثرت بشكل عميق بالعرب فى القرون الوسطى، أو أن الديمقراطية تنتمى إلى الحضارة اليونانية القديمة، أو أن الكتابة تنتمى إلى حضارات العراق القديمة. الخطاب القومى العربي يتميز بالتبسيط، فهو يتعامل مع الهوية العربية كمُسلمة مُتفق عليها، ويعتبرها هوية أحادية ومتميزة بشكل مطلق بما تستدعى "تفصيل" مشروع تنويرى يخصها. أضف إلى ذلك أن هذه الهوية المفروضة تستدعى طمس كل الاختلافات الداخلية بين "الهويات العربية"، وتجاهل أن تحديد معايير الهوية فى حد ذاته جهد سياسى وإيديولوجى من الدرجة الأولى، لا مجرد تعبير بسيط عن شىء معطى سلفا. أما إذا كان رفض التنوير "الغربى" يأتى من منطلق عدم توافق الظروف المادية العربية الراهنة مع مثيلتها التى صاحبت التنوير الغربى، فربما لا يبرر بدوره هذا "الاستقاء" من ينابيع تاريخية محلية، لأنه قد يمكن القول من باب أولى أن ظروفنا الراهنة أقرب مع ذلك إلى مثيلتها الأوربية منها إلى الظروف المادية للمغرب العربى فى القرن الثانى عشر، على اﻷقل من الناحية البنيوية؟ هذه أسئلة ﻻ نستطيع الخوض فيها فى هذا المقال، ولكن المهم، وبغض النظر عن "منشأ" الأفكار والمفاهيم، أن الحرية والعدالة والمساواة فى الفكر التنويرى مطالب عالمية. بالتأكيد سوف تختلف المظاهر الواقعية والعملية لتمازج هذه القيم بالممارسات البشرية فى البرازيل عن مصر مثلاً، ولكن هذه الإشكالية تخرج عن نطاق النظرية البحتة. "التنوير العربى" مثل "الحقوق العربية للإنسان" تعبير متناقض واسم مُستعار للاّ تنوير وتقليص الحقوق باسم الثوابت والمقدسات.