Slide Ads

Showing posts with label التنوير. Show all posts
Showing posts with label التنوير. Show all posts

Tuesday, June 23, 2009

عمانوئيل كانط : الدين في حدود العقل او التنوير الناقص- محمد المزوغي

عمانوئيل كانط : الدين في حدود العقل او التنوير الناقص- محمد المزوغي

الجمعة 18 نيسان (أبريل) 2008، بقلم كتاب آخرون

طباعة المقال إبعث المقال عبر البريد الإلكتروني title=

كلمة الغلاف :

المهمة التي ينبري لها هذا الكتاب ليست يسيرة.

إنه يضع تعاليم كانط الأساسية ومواقفه من الدين، والعقل، والإيمان، والتنوير، على مشرحة النقد. ويستعرض المحاولات النظرية والعملية التي تجابه الفكر الديني كله، وتذهب به الاستنتاجات والتحليلات إلى تبيان وسطية كانط ومنحاه التوفيقي الذي يجمع بين الاتجاه العقلي والاتجاه الديني.

فماذا لو برهنت المقارنة مع الفلاسفة الماديين الفرنسيين أن كانط، وهو أحد آباء التنوير، ليس سوى متذبذب أقدم على تنازلات جد محرجة لحساب اللاهوت البروتستانتي؟

هذه القراءة النقدية للمشروع النقدي الكانطي من المنتظر أن يكون لها صداها في أوساط الدارسين والمؤرخين والمتابعين وذوي الاختصاص.

قراءة: عبدالله المطيري

الناشر: رابطة العقلانيين العرب ودار الساقي.

تاريخ النشر2007

عدد الصفحات: 220 صفحة .

*كانط منقودا!… هذه أول مرّة حسب علمي يصدر فيها باللغة العربية كتاب كامل لنقد الفيلسوف الألماني الكبير كانط صاحب النقد الشهير (نقد العقل المحض، نقد العقل العملي، نقد ملكة الحكم). وقد كنا قدمنا بمناسبة صدور الترجمة العربية لنقد ملكة الحكم في هذا الملحق أربع حلقات عن فيلسوف النقد إيمانويل كانط ابتداءا من 20أبريل 2006العدد 13814.مؤلف كتابنا اليوم هو محمد المزوغي مفكر تونسي مقيم في إيطاليا من مواليد 1961متخصص في الفلسفة وخصوصا في الفلسفة المسيحية فترة القرون الوسطى. وهو أستاذ الفلسفة الإسلامية منذ سنة 1998بالمعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية بروما. للمزوغي خط نقدي مستمر فقد قدم مجموعة كتب ذات روح نقدية سواء في الفلسفة الغربية ككتابه "نيتشه، هايدجر، فوكو. تفكيك ونقد". أو في الفكر العربي كدراساته عن ابن خلدون وكتابه الأخير في نقد مشروع محمد أركون "العقل بين الوعي والتاريخ" الصادر عن دار الجمل مؤخرا.

هذا الكتاب هو قراءة نقدية لمشروع كانط النقدي وعلى وجه الخصوص كتابه "الدين في حدود مجرد العقل". الكتاب الذي تظهر فيه بوضوح أفكار كانط فيما يتعلق بالدين. وهذا الموضوع أي علاقة الدين بالفلسفة أو الموقف من الدين بالنسبة للفيلسوف هو موضوع رئيس في طرح المزوغي ويمثل الأطروحة الكبرى في هذا الكتاب. مبكرا، وفي العنوان الرديف يصرّح المزوغي بنتيجة الكتاب وخلاصته "التنوير الناقص" الذي هو هنا تنوير كنط، فيلسوف التنوير الكبير. إن تنويره ناقص بحسب المزوغي بسبب موقفه المتردد في العلاقة مع الدين. هو تنوير ناقص مقارنة بتنوير الماديين الفرنسيين الذين كان لهم موقف حاسم وصريح من الدين. بينما بقي كانط كما يسميه المزوغي "فيلسوفا بروتستانتيا".

في البداية لا بد من الاتفاق مع المزوغي على مبدأ النقد الذي لا يستثنى منه أحدا. لا يجب أن يكون هناك أحد فوق النقد، أيا كان. بل إن الفلاسفة هم أولى الناس بالنقد، كونهم يطرحون أفكارهم ومناهجهم المؤثرة كثيرا والتي هي عرضة، بسبب قيمة الفلاسفة، لأن تؤخذ بالتسليم دون فحص وتفكر وهذا ما سيؤدي بها إلى التحول إلى دوغما ضررها أكبر من نفعها ستبقى حجر عثرة في طريق تطور الأفكار لأوقات ليست بالقليلة. حين نتفق على هذه الفكرة الأولى، فكرة النقد، ننتقل بعدها إلى التفكير في هذا النقد، في علميته، منهجيته. بمعنى القيام بمهمة نقد النقد. وهي مهمة في غاية الضرورة، ففيها خلق لحيوية عالية في التفكير واستمرار لأجواء الجدل والفعالية العقلية. المزوغي بعمله هذا ساهم بتحريك الكثير من العقول والأفكار في الوطن العربي. لقد أعادهم إلى طرح الكثير من الأسئلة المهمة والرئيسة.

"الدين في حدود مجرد العقل "هو أحد آخر الكتب التي ألفها كانط سنة 1793فقد تلا ثلاثية النقد التي فحص فيها العقل والأخلاق وفلسفة الجمال. ثم توّج هذا المشروع الكبير بفحص موضوع الدين. حيث إنه لن يكتمل مشروع النقد دون فحص الدين. بوصف أن التنوير كما يرى كانط هو تحمل الإنسان مسئولية تفكيره واستقلاله بها. ولن تحصل هذه الاستقلالية ولا يمكن القيام بهذه المسئولية دون اتخاذ موقف واضح من الدين الذي يقدم منظومة متكاملة من الأفكار والمواقف. تعرّض كانط للتهديد من الدولة فور صدور هذا الكتاب، الذي لم يترجم بعد للعربية!، ثم رد برسالة يوضح فيها أنه لم يهدف إلى رفض الدين أو تحقيره وأن كتابه غير مؤثر لأنه كتب للخاصة ولن يتأثر به العامة. لا يعتبر المزوغي موقف كانط المتناقض والمتردد من الدين نوعاً من التقية السياسية والاجتماعية بل هي تكمن في عمق تركيبة كانط الروحية. فهو تربى وعاش حياة بروتستانتية لم يستطع القطيعة معها. لكانط موقف صارم من الطقوس الدينية فهو يرى أنها نوع من النفاق والعبث ويرى أن الإرادة الإنسانية لا تحتاج إلى مشرع من خارجها. ولكن كانط يتراجع ويتناقض يقول المزوغي" لكن كانط لم يتمسك، كعادته، بأطروحته تلك، ولم يذهب بها إلى مداها الأقصى: لقد حدّ من خطرها، بل انقلب عليها وتبنّى نقيضها. مثلما فعل في نقد العقل الخالص، بعد أن سدّ الأبواب في وجه أي تعقّل ممكن للكيانات الغيبية الدينية من وجهة نظرية بحتة. إلا أنه أعاد تأهيلها على المستوى العملي وجعل منها ركيزة الفعل الأخلاقي والإيمان. يعود كانط ليناقض أطروحته التي تقول إن الأخلاق لا تحتاج إلى تمثّل أي غاية، بل هي استجابة للواجب، يناقضها بأطروحة أن الأخلاق لها علاقة ضرورية بغاية متمثلة. "وهذه الغاية تستلزم وجود إله توجه الأمور له. يرى المزوغي أن إدخال مقولات لاهوتية في منظومة الفيلسوف الفكرية هو خيانة للعقل وتذبذب في الموقف الذي يجب أن يقطع فيه الفيلسوف مع كل التصورات الماورائية اللاعقلية. ينطبق هذا الكلام في حدود العقل المحض وكذلك العقل العملي (مجال الأخلاق) يجب أن تكتمل المنظومة الفلسفية المستقلة. يقول المزوغي" ما هو الشرط الأساسي لبناء أخلاق إنسانية بحتة والقطع النهائي مع المرجع اللاهوتي؟ ليس ثمة شك في أن الشرط الأساسي هو الارتكاز على مبادئ فلسفية ماديّة… وإلا ستعود الأخلاق إلى أحضان اللاهوت والدين. لم يتحقق نظريا ذلك المشروع، أي مشروع فك الرباط بين الأخلاق والدين، العقل والإيمان، إلا في القرنين السادس والسابع عشر مع ثلّة من الفلاسفة الفرنسيين ذوي التوجه المادي الإلحادي الصريح".

تاريخيا كان فلاسفة الأنوار الألمان (كانط، هيجل، شلنج…) نشأوا نشأة دينية مكثفة وواصلوا علاقتهم بالدين حتى بعد تفلسفهم. بالتأكيد أنهم لم يبقوا على التدين التقليدي الذي نشأوا عليه ولكنهم رغم كل النقد ورغم كل الخروج عن التعاليم الدينية إلا أنهم لم يقطعوا مع الدين نهائيا بمعنى أنهم لم يتبنوا المادية والإلحاد الصريح. كان نيتشه يسخر من قومه ويصف فيلسوفهم أنه قس بروتستانتي. الجيل التالي من الفلاسفة الألمان تجاوز هذا الوصف وقطع جزء منهم خصوصا اليسار مع الدين أمثال فيورباخ وماركس. في فرنسا وإنجلترا يختلف الوضع فالفلسفة المادية كان لها الريادة وتبنى الكثير من فلاسفة التنوير القطع مع الأفكار الدينية بشكل جذري. نتحدث عن أمثال هيوم وديدرو وروسو.

يستحضر المزوغي في نقده لكانط أبرز النقودات التي قدمت ضد مشروع كانط، يستحضر نقد هيجل وشلنج وهردر وفون كلايست إلا أن الإشكالية الكبرى في نقد المزوغي لكانط أنه يصل من خلال التناقضات والترددات في مشروع كانط إلى أنه ارتكاس وردّة فعل ضد إنسانوية التنوير وخيانة لمبادئ التحرر. وهذا بالتأكيد ظلم كبير لأحد أكبر فلاسفة التنوير، الفيلسوف الذي قدّم أحد أكبر مشاريع التفكير البشرية والتي تتأسس على مسئولية الإنسان تجاه تفكيره. هذه المسئولية التي جعلها كانط شعاراً للتنوير. أن يخرج الإنسان من حالة القصور التي هو فيها ليتحمل مسئولية تفكيره ويقوم بمهامه. قام كانط بهذا الدور بامتياز. أما أن فلسفته لم تقطع مع اللاهوت وأن تصوره للدين يبقيه في حدود العقل. فهذه قضية لا تناقض التنوير خصوصا في الفترة التي عاشها كانط، فأفكار كانط التي وضعت الدين في حدوده الخاصة وحاول حصر ما يمكن تعقّله فيه كان لها وقع كبير في تحريك الفكر الديني في وقته. يعلق البروفيسور الفرنسي جاك دوندت، صاحب الدراسات المهمة عن هيجل، على هذه القضية قائلا "إن هذه الأفكار الكانطية لم تعد تصدم رجال الدين في عصرنا الراهن. فقد سمعوا بمثلها وأكثر!… ولكن مهما تكن درجة التساهل التي سمح بها التنوير الألماني، فإن أفكار كانط لها وقع الزلزال على معاصريها، وبخاصة تلامذة اللاهوت".

إن مقولة التنوير الناقص التي يرادف بها المزوغي كانط تحتوي ضمنا على مقولة التنوير الكامل الذي يبقى أسطورة في العقول لا في الواقع. الواقع لم ولن يشهد تنويرا كاملا، باعتبار التنوير هو الوصول إلى المعاني الحقيقية للإنسان، إلى حريته وعقلانيته وفرديته. وبالتالي فإن كل تنوير هو ناقص بالضرورة لا انتقاصا منه ولكن إدراكا لمعنى أهداف التنوير وقيمتها. إذا كان التنوير شعاراً لمسيرة الإنسان الحقيقية للمعرفة فإن مشروع كانط النقدي ومجمل كتاباته هي في صميم التنوير. وليس الموقف من الدين هو من يحسم تنور الأفكار من عدمها بقدر ما هو العمل الجاد والصادق نحو الوصول للحقيقة والإخلاص لها. هو تحمل مسئولية التفكير والقيام بها.

يبقى الإنسان هو القيمة الأساسية في مشروع كانط النقدي وفي مجمل تفكيره ولم يتنازل عن هذه القيمة على طول الخط. كان لكانط ومع تطوره الفكري موقف وفهم خاص للدين فقد كان يرى الفصل الكامل بين الفلسفة والدين وبين العلم والدين ويرى أن المشكلات تظهر حين يحاول أحد منهم التدخل في الآخر وإخضاعه له. وقد رفض كنت جميع أشكال ما سمّي بنصرة الدين للفلسفة أو العكس، كما أنه رفض القول بلاهوت طبيعي مؤسس على معطيات عقلية. وعنده أن الفلسفة لا تحتاج إلى طقوس ولا تقشف ولا خلوة رهبانية عن طريق إماتة الجسد والزهد ليصل عليها الوصول إلى الحقيقة. إن قوانين ومبادئ العقل هي التي تكشف للإنسان ما يجب أن يؤمن به ويسلك بموجبه تجاه نفسه وتجاه الآخرين وتجاه الكائن الأسمى أيضا، مع الاحتفاظ الكامل بعقلانيته وحريته.

كان كنت رافضا بشكل كامل لسلطة رجال الدين. يذكر أنه كان من تقاليد الجامعات الألمانية أن يطوف الأساتذة والإداريون والطلاب في أول يوم دراسي "اليوم الأكاديمي" بالمدينة حتى يصلوا في الختام إلى كنيسة الجامعة حيث يصلي الجميع وينالوا بركة رجال الدين. كان كنت يطوف مع الموكب حتى إذا اقترب من الكنيسة انصرف عن الموكب واتجه لبيته.

هل يمكن أن نقول أن فولتير كان "مرتدا" عن التنوير أو "خائنا" له لأنه كان يقول إنه "لو لم يكن الله موجودا لوجب إيجاده"، لأنه لم يقطع نهائيا مع التصورات اللاهوتية. لا يمكن هذا وإلا وقعنا في الدوغما والوثوق. المزالق التي يمكن بسهولة أن يقع فيها دعاة التغيير والنهوض والتطوير. وهم بهذا يحكمون بالنهاية على مشاريعهم وأفكارهم. كان من أهم وأبرز النقد الموجه لعصر التنويرأن العقل فيه تحول إلى إله جديد، إله لم يعد أحد يستطيع مناقشته. أدى هذا إلى الوثوق بمبالغة في العقل البشري وإقصاء الجوانب الأخرى وإزاحتها مما أدى إلى الوقوع في الكثير من الشناعات.

في كتاب المزوغي الكثير من الجدية والعمل المتقن ولكنه في ذات الوقت يحتوي على الكثير من الوثوق والجزم والحدّة. لا يستطيع أحد أن ينكر أن الوبال العظيم الذي وقع على الفلاسفة إنما كان جلّه على يد رجال الدين تحديدا. فقد حاربوهم وحرّضوا عليهم الخاصة والعامة، ولكن هذا لا يعني أن يقف الفيلسوف موقفا عدائيا من الدين على هذه الخلفية التاريخية. بل يجب عليه أن يجعل الدين مفكرا فيه، بحرية وموضوعية. لن تكون الطرق أمامه سالكة خصوصا في العالم الإسلامي اليوم ولكن عليه ألا ينخرط دون وعي في معركة أيديولوجية يخسر فيها قيمته الحقيقية كونه مفكراً حراً يسعى جادا وصادقا للحقيقة.

عبادة ابن رشد : فلسفة التنوير النخبوي

عبادة ابن رشد : فلسفة التنوير النخبوي

منذ الستينيات، بل وحتى الآن إلى درجه كبيرة، تحوم فكرة ابن رشد كمفكر عقلانى فى أوساط المثقفين العرب وبعض المثقفين غير العرب أيضاً. فالبعض أعلن أنه مُفكّر تنويري أو مُبشِّر بالحداثة إن لم يكن بالفعل مُفكّرا حداثيا. نجد هذا المشروع عند مفكرين مثل عاطف العراقى ومراد وهبة، وبشكل أكثر جدة عند محمد عابد الجابرى. ولأن المثقفين فى الدول العربية محاصرون بين النظم السلطوية القمعية ومد التيارات الإسلامية، سواءً كانت تكفيرية أو تُظهر "التسامح"، مع إصرارها على أنها تمتلك "الحق" وفقا لمبدأ الحاكمية، فإن ضرورة طرح برنامج تنويرى ديمقراطى لفهم الذات أصبحت ملموسة.
ولكن فى رأيى أن ابن رشد ﻻ يمكن أن يساعدنا فى صياغة هذا البرنامج التنويرى البديل، لأنه ليس مفكراً تنويرياً. فمفهوم العقلانية عنده له طابع سابق على الحداثة، ينتمى إلى القرون الوسطى، ويختلف كثيرا عن مفهوم العقلانية عند مفكرى التنوير مثل إمانويل كانط كما سيتضح أدناه. والواقع أن فكرة الرجوع إلى ابن رشد من أجل صياغة برنامج تنويرى يراعى "خصوصيتنا الحضارية" ويكون نتاجاً "لتراثنا" ليست إلا بقايا البرنامج القومى العربى الذى يغالى فى تبنى خطاب تمايز الحضارات والثقافات، وكأن التنوير والعقلانية يتنوعان عرقياً وثقافياً. بالطبع من الضرورى أن ندخل فى حوار نقدى مع الماضى، ولكن هذا ﻻ يعنى أن نُغمض عيوننا عن ﻻعقلانيته أو أن نهبط بمعايير المشروع التنويرى لتتفق مع حدوده الضيقة.
فى البدء أتفق مع محمد عابد الجابرى على أن الحداثة بمعناها العام هى أن ﻻ تكون هناك مرجعية غير العقل (أنظر مقدمة الجابري لكتاب فصل المقال، عن مركز دراسات الوحدة العربية. ص٤٨). ولنلقى نظرة على ابن رشد لنرى إذا كان هذا ينطبق عليه. المشكلة كما أراها أن المرجعية عند ابن رشد ليست واحدة تتمثل فى العقل، وإنما هى مزدوجة: العقل الأرسطى والنص الدينى. ولأنه ﻻ يوجد "توافق" تلقائى بين المرجعيتين على المستوى الظاهر، جاءت الفكرة الرشدية لتفسير النص لتحل عقدة اللا توافق، ومؤداها أنه إذا استخلص "العقل" (وسنرى مفهوم هذا العقل بعد قليل) نتائج معينة، وكانت هذه النتائج تتعارض مع نص الشرع، يجب تأويل النص حتى ﻻ يتعارض معناه الباطن (أى المؤوَّل) مع "العقل"؛ على أساس أن هذا التعارض غير جائز من أساسه، أى أنه تعارض وهمى. ويُطمئننا ابن رشد قائلا إننا "معشر المسلمين نعلم على القطع أنه ﻻ يؤدى النظر البرهانى [:العقل] إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق ﻻ يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له" (فصل المقال. ص٩٦). فهناك إذن مرجعيتان للفكر الرشدى، ويكون دور التأويل أن يظهر أن الحقيقة النقلية، أو النص، تحتوى بشكل ضمنى على الحقيقة العقلية، والتى ﻻ نعرف فحواها بعد.
مثل هذا المشروع الذى يقف عند هذا المنعطف إنما يعلن بلهجة الانتصار عن إفلاس قدراته التحليلية، لأنه لا يكفى أن نتكلم بصفة عامة عن "العقل" بدون توضيح محتوياته. وقد نوافق على أن هذا الطرح الذى يقبل تأويل النص الدينى أفضل من القراءة الحرفية له، وهى أسوأ شكل لمبدأ الحاكمية، ولكن هل هو بالضرورة تنوير؟ يجب أن نتذكر أن مشروع التنوير فى أساسه علمانى، بمعنى أنه مشروع يطالب بممارسة العقل بغض النظر عن النص الدينى. ﻻ تحتاج علمانية التنوير، التى تنادى بفصل المؤسسات الدينية عن السياسية والتى تجعل الإيمان شأنا خاصا بالأفراد الأحرار فى اختياراتهم، إلى النص الدينى لكى تكتسب مشروعيتها، وإلا اعترفت ضمنياً بهزيمتها. التنوير العلمانى ﻻ يحتاج إلى أن يعرف إن كان موقفه متوافقا مع نص دينى ما أم لا. فالتنوير يصِر على قيمته المستقلة عن أية أطروحات لتأويل النص وعن خطاب المعقول والمنقول. وعلى خلاف ذلك، فإن أطروحة الجابرى، بشأن ابن رشد، والتى تبدو ﻷول وهلة كأطروحة مضادة لحاكمية النص، تسلم فى النهاية بمرجعيته ولو بشكل غير مباشر.
دعنا نسير مع طرح الجابرى خطوة أخرى، متناسين مؤقتا عدم كفاية أى مفهوم لتأويل النص لصياغة مشروع التنوير، ولنسأل عن محتوى "العقل" الرشدى. العقل هنا ليس سوى فلسفة أرسطو كمذهب ونظام كامل، وهو إذن مرجعية مُطلقة لمذهب معين. العقل عند ابن رشد ﻻ يعنى إذن المنهج أو الإجراء(procedure) النقدى، فهو بالأحرى نظام و مضمونى (substantive) كامل ومغلق. العقل الرشدى ﻻ يتميز بمنهج نقدى يصلح للتعامل مع معطيات ديناميكية، بل بالمضمون الثابت الذى انتهى التفكير فيه. فالعقل هنا ليست له دﻻﻻت تحررية بل هو اتباع نظام مغلق وكامل، وضعه أرسطو. وإذا كان "الحق ﻻ يعارض الحق" عنده، فإن هذا يرجع بالضبط إلى أن كل ما يقوله أرسطو نستطيع "نحن الفلاسفة" أن نجده فى النص أيضاً حتى لو اضطررنا إلى تفسير النص. العقل الرشدى ﻻ يفعل شيئا بشكل أساسى إﻻ "التوفيق" بين أفكار ومفاهيم انتهى التفكير فيها ولم تعد قابلة للنقد. وهكذا كان العقل الأرسطى والنص مرجعيتين مطلقتين، ولذلك لا تحتاج مقولة "الحق ﻻ يضاد الحق" إلى استنباط أو شروط، فهى حقيقة قبلية (أى معطاة سلفا)، كما أن أرسطو شخصيا، فى قول ابن رشد، "مخلوق ومُعطى لنا من العناية الإلهية حتى ﻻ نظل جاهلين بما يمكن أن نعلم" (من تعليقه على كتابات أرسطو فى علم الأحياء).
ويستخدم الجابرى أحياناً تعبيرات ممتعة عن مفاهيم أقل إمتاعا: فمحتوى العقل الرشدى، والذى بطله أرسطو، فى نظره، هو "إدراك الأسباب". ولكن "إدراك الأسباب" و"الاعتبار" ليست منهجا مؤسسا للمعرفة، وإنما هى وظائف فى نظام فلسفى مبنى بإحكام حول "حقائق أولية" وبديهيات ﻻ يجوز فحصها، وهو نظام يوظف العقل بدوره فى مهمة إثبات الرب كصانع وعلة أولى. وهكذا يقول ابن رشد فى بداية فصل المقال أن اعتبار الموجودات هو من حيث هي مصنوعة، وبالتالى تدل على صانع. بما يعنى أن مشروعية العقل الرشدى تعتمد بشكل أساسى على الغاية أو النهاية المعطاة بشكل قَبْلِى للعقل، وهو ما يمثل الخاصية الأساسية لمفهوم القرون الوسطى المحدود والمغلق للعقل؛ أو كما يقول الفيلسوف الألمانى هانز بلومنبرج (1920-1996)، أن العقل التنويرى الذى يرى لا نهائيته كانعكاس للانهائية الكون المفتوح يُعتبر من وجهة نظر القرون الوسطى مجرد "فضُول نَظرى"، بينما العقل التنويرى ﻻ يطرح على نفسه مهمة إثبات حقائق الميتافيزيقا أصلا، ﻷن لديه قوانين مستقلة ووظيفة اجتماعية وسياسية.
بالمقارنة مع هذه النظرة قال كانط، وهو المفكر النموذجى للتنوير اﻷوربى فى رأيى، أن مهمة العقل الأساسية وقبل أن ينشغل بالحقائق البديهية الأولى هى التفكير في مُسَلَّمَاته وافتراضاته وفى الحدود التى ﻻ يمكن للعقل أن يتخطاها إذا أراد أن يظل عقلانياً (وأشهر استنتاج يترتب على هذه الفكرة هو أن الإثبات النظرى لعلة أولى، أو صانع وخالق أول، على طريقة القرون الوسطى غير ممكن وليست له أسس بديهية). وهذا بالضبط هو النقد الذى يجب أن يسبق أى صياغة لمذهب أو نظام يمكن أن يوصف بأنه عقلانى تنويرى. فالعقل التنويرى هو نقد العقل لذاته بهذا المعنى الكانطى للنقد، والذى يغيب مفهومه تماما فى فكر ابن رشد (و أرسطو). بالمقابل يقر الأخير بكل المُسَلَّمَات الأرسطية ليواصل تبنى بقية نظامه الفلسفى، وحتى عندما يخالف أرسطو فيكون ذلك بهدف إنقاذ النظام الأرسطى. وتغيب إذن عن العقل الرشدى فكرة وضع المُسَلَّمَات والبديهيات أمام محكمة العقل، وبالتالى يصبح العقل عنده شيئا ميتا ومتحجرا، وتكون اﻷولوية للفكر فقط من حيث هو شىء أو نظام مكتمل ومنتهى، لا من حيث هو لحظة النقد التى تطرح على نفسها إثبات مشروعية وصلاحية المُسَلّم والبديهى، أو عدم مشروعيته ولا بديهيته.
تغيب عن الجابرى فى الحقيقة فكرة مهمة، وهى أن التنوير الأوروبى – فى القرن الثامن عشر - مبنى بشكل أساسى على نقض سلطة أرسطو. كما يعقد الجابرى مقارنة بين عصر النهضة الأوروبى أو عصر "إعادة الإحياء" (Renaissance) – من القرن الثالث عشر وحتى الخامس عشر - ومشروعه فى إعادة إحياء ابن رشد. هذه الإشكالية لا أستطيع الخوض فيها فى هذا المقال، و لكن يمكن القول أن عصر النهضة الأوروبى قدم فكرة خاطئة عن نفسه عندما صور النهضة كإعادة إحياء لأفكار معينة. كان الرجوع إلى أفلاطون فى الحقيقة ما هو إلا إجراء لإضفاء المشروعية على فلسفة فى مرحلة التحرر, ليس فقط من أرسطو و لكن من أفلاطون أيضاً. فلم يقل أفلاطون مثلاً (أو أرسطو) بلانهائية الكون، وهى فكرة محورية فى فكر عصر النهضة كمل يتضح من كتابات الفيلسوف الإيطالى جورديانو برونو(١٥٤٨-١٦٠٠). النهضة لم تكن إحياء لأفكار تم اكتشافها فى ما قبل و لكنها اندثرت فى عصور مظلمة، بل إنها طوّرت أفكار جديدة و مختلفة شكلاً و موضوعاً عن سابقها.
لعرض المشكلة بشكل أوسع, كان عصر الحداثة الأوروبى مرهوناً بنقض الفلسفة الأرسطية التى تبنتها مدارس القرون الوسطى. كما أن النقض الكانطى الموجه للفلسفات قبل النقدية موجه أيضاً إلى أرسطو ومدارس القرون الوسطى. قطع كانط رأس الحية بشكل جذرى عندما قال باستحالة البرهان النظرى على علة أولى أو محرك أول، وهو نقد ليس موجها فقط لفلاسفة القرون الوسطى الذين قالوا بعدم اختلاف هذه العلة الأولى عن الرب فى الديانات السماوية، و لكنه موجه بالضرورة إلى أرسطو أيضاً، فهو الذى قال بفكرة العلة الأولى فى الأصل. كما لم تعد مشروعية الفلسفة مبنية على غاية نهائية مطروحة مسبقاً، وهى الإثبات النظرى لعلة أولى. كما أن تركيز كانط على فكرة تحليل المسلمات و البديهيات وقوله بأن تحليل كيفية إدراكنا لها يسبق صياغة أى نظام فلسفى، لأنه يحدد معايير وحدود معينة للعقل، نقد ليس موجها فقط إلى ديكارت مثلاً بل إلى أرسطو والمدارس الأرسطية أيضاً. بالتالى لا يمكن لأى فلسفة تستقى إلهامها من أرسطو أو من ابن رشد (كمفكر أرسطى) أن تكون حداثية أو تنويرية فى وجهة نظرى، لأن التناقضات بينهما ليست سطحية علىالإطلاق. وعلى الأقل يتمتع الفلاسفة الأرسطيين الجدد فى أمريكا بقدر من الشفافية والفهم الموضوعى للذات عندما يقدمون فلسفتهم كفلسفة ما قبل حداثية (أو على الأقل كفلسفة لاحداثية) بشكل أساسى.
كذلك ﻻ يعير الجابرى اهتماما حقيقياً لمشكلة أخرى، ربما لأنها تسبب ارتباكا فى نظرته عن العقلانية الرشدية؛ وهى أن التنوير، فى أحسن أحواله، مشروع تحَرُّرى إنسانى عام للخروج من حالة القصور التى يفرضها البشر على أنفسهم ليصلوا إلى تطوير واستعمال قدراتهم. أود أن أشدّد على "إنسانى" هذه، لأنه مشروع ﻻ يتعلق بالنخبة والعلماء بل بالبشر فى عمومهم، وهو أيضاً مشروع عملى سياسى، وليس نظريا بحتا. بالمقابل نجد أن ابن رشد، بعد أن شرح فكرته عن تأويل النص، اتضح له أن هذا النوع من "العقل" ﻻ يمكن أن يظل مفتوحاً أمام الجميع. فلأن العقل هنا ﻻ يعنى ممارسة قدراتنا العقلية بل التوصل إلى استنتاجات صحيحة مبنية على مفاهيم عقلية أرسطية أولى، وجب على ابن رشد أن يضيف أن هذه الممارسة غير مباحة إلا للفلاسفة المتمرسين على المنطق الأرسطى. ويطرح ابن رشد فكرته هذه فى لغة القرون الوسطى المميزة، فهناك منازل ومراتب: يوجد ثلاثة أنواع أو "طبائع" للبشر؛ فالبعض يصدق بالبرهان، والبعض اﻵخر بالأقاويل الجدلية، وآخرون بالأقاويل الخطابية. ويسمح المضمون المركّب للنص الدينى بأن يصدق كل نوع وفقا لطبيعته. وبالتالى يجب أن يقْنَع عامة الشعب بالتأويل الخطابى والحرفى للنص الدينى، بينما يحتفظ الفلاسفة المتمرِّسين فى القياس المنطقى الأرسطى "بالحق" فى التأويل لاستخلاص المعنى الباطن للنص، والذى ﻻ يمكن من حيث المبدأ أن يتعارض مع النظام الأرسطى. فماذا يحدث لو تطاول واحد من عامة الشعب على هذا التقسيم وفقاً "للطبائع البشرية" وقرر تأويل النص؟ يجيب ابن رشد، مفكرنا التنويرى الكبير وقائد حداثتنا، أن هذا يؤدى إلى الكفر، وما يؤدى إلى الكفر فهو كفر، وبالتالى يجب على من ليس من أهل العلم (أى ليس من الفلاسفة الدارسين لأساليب القياس الأرسطية) أن يأخذ بظاهر النص، كما أن من يصرِّح من أهل العلم بتأويلاته الفلسفية للجمهور كافر لأن فعله يؤدى إلى الكفر. وباختصار يجب أن يلتزم كل فرد "بالطبيعة" و"الاستعداد" الخاصين به وألا يتخطَى حدوده فى التأويل لأن هذا يسبب بلبلة وفتنة بين الجمهور (المصدر السابق. ص ١١٩-١٢٤). واتساقا مع ذلك يرى ابن رشد ضرورة اتخاذ إجراءات لمنع وصول كتب التأويل الفلسفى إلى هذا الجمهور. السؤال اﻵن هو كيف تحول التفكير "التنويرى" إلى هذه الدرجة من المحافظة والنخبوية؟ ذلك أن ابن رشد يريد فقط أن يحتفظ بحق الفلاسفة فى التفلسف بغير خوف من الاضطهاد، وهو حق له مشروعيته، ولكن فى سياق حقوق البشر عامةً، وليس الفلاسفة وحدهم، وليس بثمن فرض حجر على المعرفة وممارسة العقل على الجمهور ككل، بتحديد نطاق ضيق للتأويل وحظر تداوله. فـ"التنوير" هنا، على محدوديته الأصلية بفلسفة أرسطو وبهدف محدد سلفا يتمثل فى التوفيق بينها وبين النص، لا يختص بشيء غير النخبة وحقها فى التفلسف عن العلل اﻷولى بدون مسائلة من السلطة. ولكن أين غابت الرسالة التقدمية الاجتماعية والسياسية؟
أعتقد أن الصورة أوضح اﻵن. مر الجابرى بسرعة على فقرات طويلة ومحرجة هنا، وفسَّر نظرة ابن رشد عن حظر التأويلات علناً بأنه كان يشك فى مبدأ العلنية publicity، خشية أن يكون إفشاء التأويل للجمهور بـ"أغراض سياسية" (المصدر السابق. ص٧٥). ولكن أليست هيمنة الفلاسفة المقربين من الأمراء والخلفاء بطبيعة وضعهم الاجتماعى على المعنى وعلى التأويل سياسة من الدرجة الأولى؟ كما أن السياسة الجماهيرية mass politics فى الواقع، وبدون أى انتقاص من قيمتها، عبارة عن محاكمة الأفكار والأطروحات علناً أمام الجمهور، لا السلطوية القائمة على مبدأ الرعاية الأبوية للشعب بما تتضمنه من حظر إطلاعه على أية منشورات قد يُرى أنها قد تثير الفتنة. ولم يحاول عاطف العراقى حتى إعطاء أية تبريرات لهذه الفكرة، فيبدو أنه يقبل بسلاسة فكرة وجود ثلاثة "أنواع" من البشر، ولا يبقى إلا أن يسأل كلٌ منا اﻵخر، كما نقول بالعامية، "أنت نوعك إيه؟" فالسلطوية أصبحت طبيعة ثانية لبعض "مفكرى التنوير" عندنا.
وبغض النظر عن إدانة هذا الموقف باعتباره سلطويا أو رعويا، فإنه فى كل الأحوال نقيض الموقف التنويرى الديمقراطى. ودعنا مرة أخرى نلقى نظرة إلى كانط على سبيل المقارنة. ﻻ يتطلب التنوير بالنسبة لكانط إلا حرية الممارسة النقدية العلنية للعقل. فالكل له حرية النقد والتفكير فى القوانين أو النصوص والتأويلات الدينية أو أى مجال آخر كمفكر يخاطب الجمهور علناً. ويعطى هذا النوع من النقد العلنى دفعة لعملية تكتسب فيها القوانين والقيم والمُسلّمات المشروعية والصلاحية اللازمتين لها من خلال المحاكمة العقلية. ومن هنا أتى دفاع كانط القوى عن حرية القلم، فالعلنية بالنسبة له تلعب دورا اجتماعيا وسياسيا فى مهمة التفكير الدائمة فى الذات، والتى هى شرط أساسى للتنوير، ولذلك ﻻ يمكن أن تكون هناك فى الموقف التنويرى حقائق أو قوانين ذو حصانة نقدية. وباختصار، يجب أن تكون ممارسة العقل، سواء تأويلا أو نقدا، عامة وعلنية لأن هدف التنوير الأساسي هدف يخص الإنسان فى عمومه وليس امتيازا لفرد أو لخاصة. وبينما نجد أن ما أُطلق عليه "تنوير" ابن رشد، معاديا صراحة للعلنية، وينصب هدفه على تحصيل العلم النظرى، فإن العلنية عند كانط كانت لها وظيفة إصلاحية اجتماعية وسياسية ذات مضمون ديمقراطى، وناتجة عن الحوار النقدى الذى ﻻ يستثنى من حيث المبدأ أحدا. وكما يقول يورجن هابرماس أحد أهم المُنظّرين لمفهوم العلنية عند كانط، "أن تفكر يعنى أن تفكر بصوت عالٍ". الوظيفة الديمقراطية للعلنية هى توسيع المجال لفئات أكثر من المواطنين في عملية اتخاذ القرار وسن القوانين عن طريق الحوار النقدى الذى يضفى على هذه القرارات والقوانين مشروعيتها وصلاحيتها.
ليس تأويل النص إذن تنويرا أو حداثة، بل كان موقف ابن رشد ﻻديمقراطيا فى جذوره كما رأينا. وفى النهاية يبقى أن نسأل عن الرغبة فى صياغة "تنويرنا" أو "حداثتنا" أو "ديمقراطيتنا": لا شك أن التفكير النقدى فى الماضى ضرورة، ولكنه ﻻ يجب أن يؤدي إلى طائفية فكرية. فالتنوير ليس ملكية خاصة للغرب لمجرد أنه بدأ تاريخياً ولأسباب اجتماعية وسياسية كحركة أوربية. فلا أحد يقول أن الرياضيات عربية لأنها تأثرت بشكل عميق بالعرب فى القرون الوسطى، أو أن الديمقراطية تنتمى إلى الحضارة اليونانية القديمة، أو أن الكتابة تنتمى إلى حضارات العراق القديمة. الخطاب القومى العربي يتميز بالتبسيط، فهو يتعامل مع الهوية العربية كمُسلمة مُتفق عليها، ويعتبرها هوية أحادية ومتميزة بشكل مطلق بما تستدعى "تفصيل" مشروع تنويرى يخصها. أضف إلى ذلك أن هذه الهوية المفروضة تستدعى طمس كل الاختلافات الداخلية بين "الهويات العربية"، وتجاهل أن تحديد معايير الهوية فى حد ذاته جهد سياسى وإيديولوجى من الدرجة الأولى، لا مجرد تعبير بسيط عن شىء معطى سلفا. أما إذا كان رفض التنوير "الغربى" يأتى من منطلق عدم توافق الظروف المادية العربية الراهنة مع مثيلتها التى صاحبت التنوير الغربى، فربما لا يبرر بدوره هذا "الاستقاء" من ينابيع تاريخية محلية، لأنه قد يمكن القول من باب أولى أن ظروفنا الراهنة أقرب مع ذلك إلى مثيلتها الأوربية منها إلى الظروف المادية للمغرب العربى فى القرن الثانى عشر، على اﻷقل من الناحية البنيوية؟ هذه أسئلة ﻻ نستطيع الخوض فيها فى هذا المقال، ولكن المهم، وبغض النظر عن "منشأ" الأفكار والمفاهيم، أن الحرية والعدالة والمساواة فى الفكر التنويرى مطالب عالمية. بالتأكيد سوف تختلف المظاهر الواقعية والعملية لتمازج هذه القيم بالممارسات البشرية فى البرازيل عن مصر مثلاً، ولكن هذه الإشكالية تخرج عن نطاق النظرية البحتة. "التنوير العربى" مثل "الحقوق العربية للإنسان" تعبير متناقض واسم مُستعار للاّ تنوير وتقليص الحقوق باسم الثوابت والمقدسات.

"التنوير العربي" ما مصيره؟



"التنوير العربي" ما مصيره؟




سعود البلوي

هل هناك تنوير عربي؟ هل فشل هذا التنوير؟ ما هذا النكوص إلى مزيد من الجهل، والتعصب، والتزمت في الثقافة العربية؟!
كل هذه التساؤلات القلقة تقفز إلى ذهني كلما تذكرتُ الجهود التي قام بها بعض المثقفين العرب في القرن التاسع عشر، وهذا ما يجعلنا بحاجة إلى تتبع تاريخي لمرحلة مهمة في الثقافة العربية، خاصة في مصر التي كانت مركز الحراك الثقافي العربي. ولعل الأرضية التي أسست لأفكار كثير من المثقفين العرب تهيأت مع الحملة الفرنسية (نابليون) إلى مصر؛ مما نتج عنه اختراق أفكار الثورة الفرنسية لبنية الفكر العربي، كما تشير الباحثة فهميّة شرف الدين.

صحيح أن هناك محاولات إصلاحية لكثير من المثقفين الرواد أمثال الطهطاوي، والأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، وجورجي زيدان وغيرهم، لكنها لم تستمر كثيراً بعدهم؛ حيث لم تتماسك المحاولات التنويرية لبعض المثقفين والمبدعين العرب في فترة لاحقة، ومنهم طه حسين، وسلامة موسى، ومحمد حسين هيكل، وأحمد أمين، وأحمد لطفي السيد، ونجيب محفوظ، وغيرهم.

ومن حق أولئك المثقفين ألاّ نبخسهم جهودهم التي قدموها في سبيل الارتقاء بالثقافة العربية رغم السلبيات. ولكن من المهم أيضاً أن ينظَر لتلك الجهود داخل سياقها التاريخي؛ فليس منطقياً أن نحكم بالفشل على بدايات تجربة "التنوير" العربية التي لم تتضح لنا تماماً، ولم تستمر، ولم تكتمل، إذ كانت الجهود أشبه بالفردية، فلم يشكّل التنويريون تياراً مترابطاً يرتكز على إنتاج معرفة جديدة انطلاقاً من توجهات فلسفية. فالقاسم المشترك بين كثير منهم هو تأثرهم بالثقافة الغربية، خاصة الفرنسية، وبالتالي بفلسفة الأنوار الأوروبية. إلا أنهم لم يمارسوا القطيعة المعرفية التي تؤدي لنقد عميق للإرث الثقافي وشوائبه، على الرغم من جهود بعضهم في الترجمة، وفي محاولة إدخال وتطبيق بعض المناهج الفلسفية على بعض جوانب الثقافة العربية، مثلما فعل الدكتور طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" مستفيداً من المنهج الفلسفي الشكّي (الديكارتي)، إذ كانت تجربته تلك بمثابة هزة قوية لبعض مسلّمات التراث، ولكن الأمر آل إلى مصادرة الكتاب ورفع قضية ضد صاحبه انتهت "بحفظ الأوراق إدارياً" بطلب من رئيس نيابة مصر!

اتبع كثير من المثقفين بشكل ملحوظ أسلوب الاقتراب من الخطاب الإسلامي بطرح الموضوعات الإسلامية، ومن أولئك: طه حسين ومحمد حسين هيكل وأحمد أمين وعباس محمود العقاد وغيرهم. مما خلق أزمة في التوجه الفكري لديهم. ويشير الباحث الألماني (يورغن فازلا) إلى جدل بين بعض الباحثين الغربيين حول هذه الأزمة: فهناك من فسّرها بتخلي المثقفين الليبراليين عن قيمهم "التقدمية" التي يتبنونها، واتخاذهم موقفاً (إسلامياً) رومانسياً غير واضح المعالم. غير أنّ هناك من عارض هذا الرأي مشيراً إلى أن موقف المثقفين الليبراليين لم يتغير، حيث إن المؤلفات ذات الصبغة الإسلامية لبعض المثقفين لم تكن موجهة للنخبة المثقفة بقدر ما كانت موجهة لعامة الناس إرضاءً لذوقهم، وكذلك تفادياً لردود الأفعال الرسمية والشعبية كالتي حدثت لعلي عبدالرزاق أو طه حسين، معتبرين أن تلك الاتجاهات فرضتها حاجة المجتمع والوضع السائد آنذاك. ولكن هناك تحولات أخرى، اقتصادية واجتماعية وسياسية، أثّرت على المجتمع المصري عامة، ومنها تنامي حركة الجماهير المعتمدة على الحماسة والعاطفة، فتحول توجه بعض المثقفين من الصالونات الأدبية ودوائر النقاش إلى "الشارع" بعد أن ظهرت حاجة المجتمع المتزايدة إلى هوية مخالفة للنموذج الغربي الذي كرس - في المرحلة الاستعمارية - صورة المغتصب والمناقض للدين والقيم العربية، فكان مشروع الهوية "الإسلامية" مرشحاً للبروز في ظل تنامي التوجهات السلفية، فأصبحت جماعة "الإخوان المسلمين" في أربعينيات القرن الماضي من أهم عوامل التأثير الاجتماعي والسياسي في مصر.

ولكن المحك الرئيس يكمن في المثقف ذي التوجه التنويري، حيث لم يستطع (التحول) إلى أسلوب جديد أكثر فاعلية ليقوم بدوره الثقافي في ظل هذه التغيرات، فالصفة "النخبوية" والدور "الطليعي" المتوهم بقيا في الذهن فنتج عن ذلك ازدياد العزلة والانسلاخ، فتعمقت الهوة بينه وبين المجتمع لعقود، وخاصة بعد تغير الأنظمة السياسية بفعل الانقلابات العسكرية المسماة بـ"الثورات" العربية، حيث توجه كثير من المثقفين العرب إلى الفكر اليساري، فكانت "الأصولية" الإسلامية مستمرة في أخذ موقعها كبديل أيديولوجي. وازداد هذا الشعور بعد الهزيمة العربية في حرب 67 التي أحدثت فراغاً وجدانياً جماهيرياً، وبالتالي نمتْ فكرة الهوية الإسلامية لصالح بعض جماعات "الإسلام السياسي" فتمكنت من التغلغل في المؤسسات والنقابات المهنية. وبعد تنامي نشاط الجماعات الإسلامية وسيطرتها على عقول كثير من أفراد المجتمع، وتهديدها لموقع السلطة السياسية في مصر وغيرها، تطورت الأمور إلى إلصاق وصف "إسلامي" بكثير من مجالات الحياة الاجتماعية، فأصبح من السهل تحويل أي خلاف اجتماعي أو سياسي، إلى خلاف ديني؛ وبذلك لم يبق مكان للنقد الذاتي الإسلامي، فظهر التعصب والتطرف في المجتمع بشكل واضح، حتى إن بعض السلطات السياسية بدأت تزايد على التمسك بالدين فتستعمل قوتها لمعاقبة منتقدي الفكر الديني بصرف عن النظر عن (السلبيات) في طروحاتهم.

فبخلاف قضايا أخرى-كإهدار دم نصر حامد أبو زيد، وطعن نجيب محفوظ- نجد مثلاً أن قضية سجن الكاتب المصري علاء حامد ثمان سنوات، سبقها حملة ضد الكتاب مدعومة من الأزهر. وعندما تأخرت الداخلية المصرية في تصديق الحكم دعت السلطات العليا إلى تنفيذ الحكم صراحة. أما اغتيال الكاتب فرج فودة عام 92، فقد قابله تأييد من قبل الشيخ محمد الغزالي، إذ أكد أن (مثل هذا الشخص يستحق عقوبة الإعدام التي يتوجب على الدولة تنفيذها، وعندما لا تقوم الدولة بتنفيذ العقوبة ويقوم أحد المواطنين بأداء هذه المهمة، فلا يوجد في الإسلام عقوبة على هذا الفعل)!

يتضح لي أنّ أوضاع المثقفين العرب في أواخر القرن العشرين، وبدايات الحادي والعشرين، لم تكن أفضل حالاً من أوضاع نظرائهم في القرن التاسع عشر إنْ لم تكن ازدادت سوءاً. ولذا أقول: إنّ التنوير العربي لم ينتهِ ولم يفشل؛ لأنه لم يبدأ أصلاً! فالمئة سنة الماضية، بكل جهود مثقفيها، قد تكون مهّدت للتنوير - سواء بخطوة أو بعدة خطوات - لكنها بالتأكيد غير كافية. وعلى الرغم مما نشهده من طروحات نقدية لبعض المفكرين العرب المبنية على المناهج العلمية الحديثة. فمعركة التنوير مع الجهل العربي تحتاج - عدا الجهد والتضحية - إلى الكثير من الوقت!

نقلا عن جريدة "الوطن" السعودية