Slide Ads

Showing posts with label فلسفة. Show all posts
Showing posts with label فلسفة. Show all posts

Tuesday, June 23, 2009

عمانوئيل كانط : الدين في حدود العقل او التنوير الناقص- محمد المزوغي

عمانوئيل كانط : الدين في حدود العقل او التنوير الناقص- محمد المزوغي

الجمعة 18 نيسان (أبريل) 2008، بقلم كتاب آخرون

طباعة المقال إبعث المقال عبر البريد الإلكتروني title=

كلمة الغلاف :

المهمة التي ينبري لها هذا الكتاب ليست يسيرة.

إنه يضع تعاليم كانط الأساسية ومواقفه من الدين، والعقل، والإيمان، والتنوير، على مشرحة النقد. ويستعرض المحاولات النظرية والعملية التي تجابه الفكر الديني كله، وتذهب به الاستنتاجات والتحليلات إلى تبيان وسطية كانط ومنحاه التوفيقي الذي يجمع بين الاتجاه العقلي والاتجاه الديني.

فماذا لو برهنت المقارنة مع الفلاسفة الماديين الفرنسيين أن كانط، وهو أحد آباء التنوير، ليس سوى متذبذب أقدم على تنازلات جد محرجة لحساب اللاهوت البروتستانتي؟

هذه القراءة النقدية للمشروع النقدي الكانطي من المنتظر أن يكون لها صداها في أوساط الدارسين والمؤرخين والمتابعين وذوي الاختصاص.

قراءة: عبدالله المطيري

الناشر: رابطة العقلانيين العرب ودار الساقي.

تاريخ النشر2007

عدد الصفحات: 220 صفحة .

*كانط منقودا!… هذه أول مرّة حسب علمي يصدر فيها باللغة العربية كتاب كامل لنقد الفيلسوف الألماني الكبير كانط صاحب النقد الشهير (نقد العقل المحض، نقد العقل العملي، نقد ملكة الحكم). وقد كنا قدمنا بمناسبة صدور الترجمة العربية لنقد ملكة الحكم في هذا الملحق أربع حلقات عن فيلسوف النقد إيمانويل كانط ابتداءا من 20أبريل 2006العدد 13814.مؤلف كتابنا اليوم هو محمد المزوغي مفكر تونسي مقيم في إيطاليا من مواليد 1961متخصص في الفلسفة وخصوصا في الفلسفة المسيحية فترة القرون الوسطى. وهو أستاذ الفلسفة الإسلامية منذ سنة 1998بالمعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية بروما. للمزوغي خط نقدي مستمر فقد قدم مجموعة كتب ذات روح نقدية سواء في الفلسفة الغربية ككتابه "نيتشه، هايدجر، فوكو. تفكيك ونقد". أو في الفكر العربي كدراساته عن ابن خلدون وكتابه الأخير في نقد مشروع محمد أركون "العقل بين الوعي والتاريخ" الصادر عن دار الجمل مؤخرا.

هذا الكتاب هو قراءة نقدية لمشروع كانط النقدي وعلى وجه الخصوص كتابه "الدين في حدود مجرد العقل". الكتاب الذي تظهر فيه بوضوح أفكار كانط فيما يتعلق بالدين. وهذا الموضوع أي علاقة الدين بالفلسفة أو الموقف من الدين بالنسبة للفيلسوف هو موضوع رئيس في طرح المزوغي ويمثل الأطروحة الكبرى في هذا الكتاب. مبكرا، وفي العنوان الرديف يصرّح المزوغي بنتيجة الكتاب وخلاصته "التنوير الناقص" الذي هو هنا تنوير كنط، فيلسوف التنوير الكبير. إن تنويره ناقص بحسب المزوغي بسبب موقفه المتردد في العلاقة مع الدين. هو تنوير ناقص مقارنة بتنوير الماديين الفرنسيين الذين كان لهم موقف حاسم وصريح من الدين. بينما بقي كانط كما يسميه المزوغي "فيلسوفا بروتستانتيا".

في البداية لا بد من الاتفاق مع المزوغي على مبدأ النقد الذي لا يستثنى منه أحدا. لا يجب أن يكون هناك أحد فوق النقد، أيا كان. بل إن الفلاسفة هم أولى الناس بالنقد، كونهم يطرحون أفكارهم ومناهجهم المؤثرة كثيرا والتي هي عرضة، بسبب قيمة الفلاسفة، لأن تؤخذ بالتسليم دون فحص وتفكر وهذا ما سيؤدي بها إلى التحول إلى دوغما ضررها أكبر من نفعها ستبقى حجر عثرة في طريق تطور الأفكار لأوقات ليست بالقليلة. حين نتفق على هذه الفكرة الأولى، فكرة النقد، ننتقل بعدها إلى التفكير في هذا النقد، في علميته، منهجيته. بمعنى القيام بمهمة نقد النقد. وهي مهمة في غاية الضرورة، ففيها خلق لحيوية عالية في التفكير واستمرار لأجواء الجدل والفعالية العقلية. المزوغي بعمله هذا ساهم بتحريك الكثير من العقول والأفكار في الوطن العربي. لقد أعادهم إلى طرح الكثير من الأسئلة المهمة والرئيسة.

"الدين في حدود مجرد العقل "هو أحد آخر الكتب التي ألفها كانط سنة 1793فقد تلا ثلاثية النقد التي فحص فيها العقل والأخلاق وفلسفة الجمال. ثم توّج هذا المشروع الكبير بفحص موضوع الدين. حيث إنه لن يكتمل مشروع النقد دون فحص الدين. بوصف أن التنوير كما يرى كانط هو تحمل الإنسان مسئولية تفكيره واستقلاله بها. ولن تحصل هذه الاستقلالية ولا يمكن القيام بهذه المسئولية دون اتخاذ موقف واضح من الدين الذي يقدم منظومة متكاملة من الأفكار والمواقف. تعرّض كانط للتهديد من الدولة فور صدور هذا الكتاب، الذي لم يترجم بعد للعربية!، ثم رد برسالة يوضح فيها أنه لم يهدف إلى رفض الدين أو تحقيره وأن كتابه غير مؤثر لأنه كتب للخاصة ولن يتأثر به العامة. لا يعتبر المزوغي موقف كانط المتناقض والمتردد من الدين نوعاً من التقية السياسية والاجتماعية بل هي تكمن في عمق تركيبة كانط الروحية. فهو تربى وعاش حياة بروتستانتية لم يستطع القطيعة معها. لكانط موقف صارم من الطقوس الدينية فهو يرى أنها نوع من النفاق والعبث ويرى أن الإرادة الإنسانية لا تحتاج إلى مشرع من خارجها. ولكن كانط يتراجع ويتناقض يقول المزوغي" لكن كانط لم يتمسك، كعادته، بأطروحته تلك، ولم يذهب بها إلى مداها الأقصى: لقد حدّ من خطرها، بل انقلب عليها وتبنّى نقيضها. مثلما فعل في نقد العقل الخالص، بعد أن سدّ الأبواب في وجه أي تعقّل ممكن للكيانات الغيبية الدينية من وجهة نظرية بحتة. إلا أنه أعاد تأهيلها على المستوى العملي وجعل منها ركيزة الفعل الأخلاقي والإيمان. يعود كانط ليناقض أطروحته التي تقول إن الأخلاق لا تحتاج إلى تمثّل أي غاية، بل هي استجابة للواجب، يناقضها بأطروحة أن الأخلاق لها علاقة ضرورية بغاية متمثلة. "وهذه الغاية تستلزم وجود إله توجه الأمور له. يرى المزوغي أن إدخال مقولات لاهوتية في منظومة الفيلسوف الفكرية هو خيانة للعقل وتذبذب في الموقف الذي يجب أن يقطع فيه الفيلسوف مع كل التصورات الماورائية اللاعقلية. ينطبق هذا الكلام في حدود العقل المحض وكذلك العقل العملي (مجال الأخلاق) يجب أن تكتمل المنظومة الفلسفية المستقلة. يقول المزوغي" ما هو الشرط الأساسي لبناء أخلاق إنسانية بحتة والقطع النهائي مع المرجع اللاهوتي؟ ليس ثمة شك في أن الشرط الأساسي هو الارتكاز على مبادئ فلسفية ماديّة… وإلا ستعود الأخلاق إلى أحضان اللاهوت والدين. لم يتحقق نظريا ذلك المشروع، أي مشروع فك الرباط بين الأخلاق والدين، العقل والإيمان، إلا في القرنين السادس والسابع عشر مع ثلّة من الفلاسفة الفرنسيين ذوي التوجه المادي الإلحادي الصريح".

تاريخيا كان فلاسفة الأنوار الألمان (كانط، هيجل، شلنج…) نشأوا نشأة دينية مكثفة وواصلوا علاقتهم بالدين حتى بعد تفلسفهم. بالتأكيد أنهم لم يبقوا على التدين التقليدي الذي نشأوا عليه ولكنهم رغم كل النقد ورغم كل الخروج عن التعاليم الدينية إلا أنهم لم يقطعوا مع الدين نهائيا بمعنى أنهم لم يتبنوا المادية والإلحاد الصريح. كان نيتشه يسخر من قومه ويصف فيلسوفهم أنه قس بروتستانتي. الجيل التالي من الفلاسفة الألمان تجاوز هذا الوصف وقطع جزء منهم خصوصا اليسار مع الدين أمثال فيورباخ وماركس. في فرنسا وإنجلترا يختلف الوضع فالفلسفة المادية كان لها الريادة وتبنى الكثير من فلاسفة التنوير القطع مع الأفكار الدينية بشكل جذري. نتحدث عن أمثال هيوم وديدرو وروسو.

يستحضر المزوغي في نقده لكانط أبرز النقودات التي قدمت ضد مشروع كانط، يستحضر نقد هيجل وشلنج وهردر وفون كلايست إلا أن الإشكالية الكبرى في نقد المزوغي لكانط أنه يصل من خلال التناقضات والترددات في مشروع كانط إلى أنه ارتكاس وردّة فعل ضد إنسانوية التنوير وخيانة لمبادئ التحرر. وهذا بالتأكيد ظلم كبير لأحد أكبر فلاسفة التنوير، الفيلسوف الذي قدّم أحد أكبر مشاريع التفكير البشرية والتي تتأسس على مسئولية الإنسان تجاه تفكيره. هذه المسئولية التي جعلها كانط شعاراً للتنوير. أن يخرج الإنسان من حالة القصور التي هو فيها ليتحمل مسئولية تفكيره ويقوم بمهامه. قام كانط بهذا الدور بامتياز. أما أن فلسفته لم تقطع مع اللاهوت وأن تصوره للدين يبقيه في حدود العقل. فهذه قضية لا تناقض التنوير خصوصا في الفترة التي عاشها كانط، فأفكار كانط التي وضعت الدين في حدوده الخاصة وحاول حصر ما يمكن تعقّله فيه كان لها وقع كبير في تحريك الفكر الديني في وقته. يعلق البروفيسور الفرنسي جاك دوندت، صاحب الدراسات المهمة عن هيجل، على هذه القضية قائلا "إن هذه الأفكار الكانطية لم تعد تصدم رجال الدين في عصرنا الراهن. فقد سمعوا بمثلها وأكثر!… ولكن مهما تكن درجة التساهل التي سمح بها التنوير الألماني، فإن أفكار كانط لها وقع الزلزال على معاصريها، وبخاصة تلامذة اللاهوت".

إن مقولة التنوير الناقص التي يرادف بها المزوغي كانط تحتوي ضمنا على مقولة التنوير الكامل الذي يبقى أسطورة في العقول لا في الواقع. الواقع لم ولن يشهد تنويرا كاملا، باعتبار التنوير هو الوصول إلى المعاني الحقيقية للإنسان، إلى حريته وعقلانيته وفرديته. وبالتالي فإن كل تنوير هو ناقص بالضرورة لا انتقاصا منه ولكن إدراكا لمعنى أهداف التنوير وقيمتها. إذا كان التنوير شعاراً لمسيرة الإنسان الحقيقية للمعرفة فإن مشروع كانط النقدي ومجمل كتاباته هي في صميم التنوير. وليس الموقف من الدين هو من يحسم تنور الأفكار من عدمها بقدر ما هو العمل الجاد والصادق نحو الوصول للحقيقة والإخلاص لها. هو تحمل مسئولية التفكير والقيام بها.

يبقى الإنسان هو القيمة الأساسية في مشروع كانط النقدي وفي مجمل تفكيره ولم يتنازل عن هذه القيمة على طول الخط. كان لكانط ومع تطوره الفكري موقف وفهم خاص للدين فقد كان يرى الفصل الكامل بين الفلسفة والدين وبين العلم والدين ويرى أن المشكلات تظهر حين يحاول أحد منهم التدخل في الآخر وإخضاعه له. وقد رفض كنت جميع أشكال ما سمّي بنصرة الدين للفلسفة أو العكس، كما أنه رفض القول بلاهوت طبيعي مؤسس على معطيات عقلية. وعنده أن الفلسفة لا تحتاج إلى طقوس ولا تقشف ولا خلوة رهبانية عن طريق إماتة الجسد والزهد ليصل عليها الوصول إلى الحقيقة. إن قوانين ومبادئ العقل هي التي تكشف للإنسان ما يجب أن يؤمن به ويسلك بموجبه تجاه نفسه وتجاه الآخرين وتجاه الكائن الأسمى أيضا، مع الاحتفاظ الكامل بعقلانيته وحريته.

كان كنت رافضا بشكل كامل لسلطة رجال الدين. يذكر أنه كان من تقاليد الجامعات الألمانية أن يطوف الأساتذة والإداريون والطلاب في أول يوم دراسي "اليوم الأكاديمي" بالمدينة حتى يصلوا في الختام إلى كنيسة الجامعة حيث يصلي الجميع وينالوا بركة رجال الدين. كان كنت يطوف مع الموكب حتى إذا اقترب من الكنيسة انصرف عن الموكب واتجه لبيته.

هل يمكن أن نقول أن فولتير كان "مرتدا" عن التنوير أو "خائنا" له لأنه كان يقول إنه "لو لم يكن الله موجودا لوجب إيجاده"، لأنه لم يقطع نهائيا مع التصورات اللاهوتية. لا يمكن هذا وإلا وقعنا في الدوغما والوثوق. المزالق التي يمكن بسهولة أن يقع فيها دعاة التغيير والنهوض والتطوير. وهم بهذا يحكمون بالنهاية على مشاريعهم وأفكارهم. كان من أهم وأبرز النقد الموجه لعصر التنويرأن العقل فيه تحول إلى إله جديد، إله لم يعد أحد يستطيع مناقشته. أدى هذا إلى الوثوق بمبالغة في العقل البشري وإقصاء الجوانب الأخرى وإزاحتها مما أدى إلى الوقوع في الكثير من الشناعات.

في كتاب المزوغي الكثير من الجدية والعمل المتقن ولكنه في ذات الوقت يحتوي على الكثير من الوثوق والجزم والحدّة. لا يستطيع أحد أن ينكر أن الوبال العظيم الذي وقع على الفلاسفة إنما كان جلّه على يد رجال الدين تحديدا. فقد حاربوهم وحرّضوا عليهم الخاصة والعامة، ولكن هذا لا يعني أن يقف الفيلسوف موقفا عدائيا من الدين على هذه الخلفية التاريخية. بل يجب عليه أن يجعل الدين مفكرا فيه، بحرية وموضوعية. لن تكون الطرق أمامه سالكة خصوصا في العالم الإسلامي اليوم ولكن عليه ألا ينخرط دون وعي في معركة أيديولوجية يخسر فيها قيمته الحقيقية كونه مفكراً حراً يسعى جادا وصادقا للحقيقة.

عبادة ابن رشد : فلسفة التنوير النخبوي

عبادة ابن رشد : فلسفة التنوير النخبوي

منذ الستينيات، بل وحتى الآن إلى درجه كبيرة، تحوم فكرة ابن رشد كمفكر عقلانى فى أوساط المثقفين العرب وبعض المثقفين غير العرب أيضاً. فالبعض أعلن أنه مُفكّر تنويري أو مُبشِّر بالحداثة إن لم يكن بالفعل مُفكّرا حداثيا. نجد هذا المشروع عند مفكرين مثل عاطف العراقى ومراد وهبة، وبشكل أكثر جدة عند محمد عابد الجابرى. ولأن المثقفين فى الدول العربية محاصرون بين النظم السلطوية القمعية ومد التيارات الإسلامية، سواءً كانت تكفيرية أو تُظهر "التسامح"، مع إصرارها على أنها تمتلك "الحق" وفقا لمبدأ الحاكمية، فإن ضرورة طرح برنامج تنويرى ديمقراطى لفهم الذات أصبحت ملموسة.
ولكن فى رأيى أن ابن رشد ﻻ يمكن أن يساعدنا فى صياغة هذا البرنامج التنويرى البديل، لأنه ليس مفكراً تنويرياً. فمفهوم العقلانية عنده له طابع سابق على الحداثة، ينتمى إلى القرون الوسطى، ويختلف كثيرا عن مفهوم العقلانية عند مفكرى التنوير مثل إمانويل كانط كما سيتضح أدناه. والواقع أن فكرة الرجوع إلى ابن رشد من أجل صياغة برنامج تنويرى يراعى "خصوصيتنا الحضارية" ويكون نتاجاً "لتراثنا" ليست إلا بقايا البرنامج القومى العربى الذى يغالى فى تبنى خطاب تمايز الحضارات والثقافات، وكأن التنوير والعقلانية يتنوعان عرقياً وثقافياً. بالطبع من الضرورى أن ندخل فى حوار نقدى مع الماضى، ولكن هذا ﻻ يعنى أن نُغمض عيوننا عن ﻻعقلانيته أو أن نهبط بمعايير المشروع التنويرى لتتفق مع حدوده الضيقة.
فى البدء أتفق مع محمد عابد الجابرى على أن الحداثة بمعناها العام هى أن ﻻ تكون هناك مرجعية غير العقل (أنظر مقدمة الجابري لكتاب فصل المقال، عن مركز دراسات الوحدة العربية. ص٤٨). ولنلقى نظرة على ابن رشد لنرى إذا كان هذا ينطبق عليه. المشكلة كما أراها أن المرجعية عند ابن رشد ليست واحدة تتمثل فى العقل، وإنما هى مزدوجة: العقل الأرسطى والنص الدينى. ولأنه ﻻ يوجد "توافق" تلقائى بين المرجعيتين على المستوى الظاهر، جاءت الفكرة الرشدية لتفسير النص لتحل عقدة اللا توافق، ومؤداها أنه إذا استخلص "العقل" (وسنرى مفهوم هذا العقل بعد قليل) نتائج معينة، وكانت هذه النتائج تتعارض مع نص الشرع، يجب تأويل النص حتى ﻻ يتعارض معناه الباطن (أى المؤوَّل) مع "العقل"؛ على أساس أن هذا التعارض غير جائز من أساسه، أى أنه تعارض وهمى. ويُطمئننا ابن رشد قائلا إننا "معشر المسلمين نعلم على القطع أنه ﻻ يؤدى النظر البرهانى [:العقل] إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق ﻻ يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له" (فصل المقال. ص٩٦). فهناك إذن مرجعيتان للفكر الرشدى، ويكون دور التأويل أن يظهر أن الحقيقة النقلية، أو النص، تحتوى بشكل ضمنى على الحقيقة العقلية، والتى ﻻ نعرف فحواها بعد.
مثل هذا المشروع الذى يقف عند هذا المنعطف إنما يعلن بلهجة الانتصار عن إفلاس قدراته التحليلية، لأنه لا يكفى أن نتكلم بصفة عامة عن "العقل" بدون توضيح محتوياته. وقد نوافق على أن هذا الطرح الذى يقبل تأويل النص الدينى أفضل من القراءة الحرفية له، وهى أسوأ شكل لمبدأ الحاكمية، ولكن هل هو بالضرورة تنوير؟ يجب أن نتذكر أن مشروع التنوير فى أساسه علمانى، بمعنى أنه مشروع يطالب بممارسة العقل بغض النظر عن النص الدينى. ﻻ تحتاج علمانية التنوير، التى تنادى بفصل المؤسسات الدينية عن السياسية والتى تجعل الإيمان شأنا خاصا بالأفراد الأحرار فى اختياراتهم، إلى النص الدينى لكى تكتسب مشروعيتها، وإلا اعترفت ضمنياً بهزيمتها. التنوير العلمانى ﻻ يحتاج إلى أن يعرف إن كان موقفه متوافقا مع نص دينى ما أم لا. فالتنوير يصِر على قيمته المستقلة عن أية أطروحات لتأويل النص وعن خطاب المعقول والمنقول. وعلى خلاف ذلك، فإن أطروحة الجابرى، بشأن ابن رشد، والتى تبدو ﻷول وهلة كأطروحة مضادة لحاكمية النص، تسلم فى النهاية بمرجعيته ولو بشكل غير مباشر.
دعنا نسير مع طرح الجابرى خطوة أخرى، متناسين مؤقتا عدم كفاية أى مفهوم لتأويل النص لصياغة مشروع التنوير، ولنسأل عن محتوى "العقل" الرشدى. العقل هنا ليس سوى فلسفة أرسطو كمذهب ونظام كامل، وهو إذن مرجعية مُطلقة لمذهب معين. العقل عند ابن رشد ﻻ يعنى إذن المنهج أو الإجراء(procedure) النقدى، فهو بالأحرى نظام و مضمونى (substantive) كامل ومغلق. العقل الرشدى ﻻ يتميز بمنهج نقدى يصلح للتعامل مع معطيات ديناميكية، بل بالمضمون الثابت الذى انتهى التفكير فيه. فالعقل هنا ليست له دﻻﻻت تحررية بل هو اتباع نظام مغلق وكامل، وضعه أرسطو. وإذا كان "الحق ﻻ يعارض الحق" عنده، فإن هذا يرجع بالضبط إلى أن كل ما يقوله أرسطو نستطيع "نحن الفلاسفة" أن نجده فى النص أيضاً حتى لو اضطررنا إلى تفسير النص. العقل الرشدى ﻻ يفعل شيئا بشكل أساسى إﻻ "التوفيق" بين أفكار ومفاهيم انتهى التفكير فيها ولم تعد قابلة للنقد. وهكذا كان العقل الأرسطى والنص مرجعيتين مطلقتين، ولذلك لا تحتاج مقولة "الحق ﻻ يضاد الحق" إلى استنباط أو شروط، فهى حقيقة قبلية (أى معطاة سلفا)، كما أن أرسطو شخصيا، فى قول ابن رشد، "مخلوق ومُعطى لنا من العناية الإلهية حتى ﻻ نظل جاهلين بما يمكن أن نعلم" (من تعليقه على كتابات أرسطو فى علم الأحياء).
ويستخدم الجابرى أحياناً تعبيرات ممتعة عن مفاهيم أقل إمتاعا: فمحتوى العقل الرشدى، والذى بطله أرسطو، فى نظره، هو "إدراك الأسباب". ولكن "إدراك الأسباب" و"الاعتبار" ليست منهجا مؤسسا للمعرفة، وإنما هى وظائف فى نظام فلسفى مبنى بإحكام حول "حقائق أولية" وبديهيات ﻻ يجوز فحصها، وهو نظام يوظف العقل بدوره فى مهمة إثبات الرب كصانع وعلة أولى. وهكذا يقول ابن رشد فى بداية فصل المقال أن اعتبار الموجودات هو من حيث هي مصنوعة، وبالتالى تدل على صانع. بما يعنى أن مشروعية العقل الرشدى تعتمد بشكل أساسى على الغاية أو النهاية المعطاة بشكل قَبْلِى للعقل، وهو ما يمثل الخاصية الأساسية لمفهوم القرون الوسطى المحدود والمغلق للعقل؛ أو كما يقول الفيلسوف الألمانى هانز بلومنبرج (1920-1996)، أن العقل التنويرى الذى يرى لا نهائيته كانعكاس للانهائية الكون المفتوح يُعتبر من وجهة نظر القرون الوسطى مجرد "فضُول نَظرى"، بينما العقل التنويرى ﻻ يطرح على نفسه مهمة إثبات حقائق الميتافيزيقا أصلا، ﻷن لديه قوانين مستقلة ووظيفة اجتماعية وسياسية.
بالمقارنة مع هذه النظرة قال كانط، وهو المفكر النموذجى للتنوير اﻷوربى فى رأيى، أن مهمة العقل الأساسية وقبل أن ينشغل بالحقائق البديهية الأولى هى التفكير في مُسَلَّمَاته وافتراضاته وفى الحدود التى ﻻ يمكن للعقل أن يتخطاها إذا أراد أن يظل عقلانياً (وأشهر استنتاج يترتب على هذه الفكرة هو أن الإثبات النظرى لعلة أولى، أو صانع وخالق أول، على طريقة القرون الوسطى غير ممكن وليست له أسس بديهية). وهذا بالضبط هو النقد الذى يجب أن يسبق أى صياغة لمذهب أو نظام يمكن أن يوصف بأنه عقلانى تنويرى. فالعقل التنويرى هو نقد العقل لذاته بهذا المعنى الكانطى للنقد، والذى يغيب مفهومه تماما فى فكر ابن رشد (و أرسطو). بالمقابل يقر الأخير بكل المُسَلَّمَات الأرسطية ليواصل تبنى بقية نظامه الفلسفى، وحتى عندما يخالف أرسطو فيكون ذلك بهدف إنقاذ النظام الأرسطى. وتغيب إذن عن العقل الرشدى فكرة وضع المُسَلَّمَات والبديهيات أمام محكمة العقل، وبالتالى يصبح العقل عنده شيئا ميتا ومتحجرا، وتكون اﻷولوية للفكر فقط من حيث هو شىء أو نظام مكتمل ومنتهى، لا من حيث هو لحظة النقد التى تطرح على نفسها إثبات مشروعية وصلاحية المُسَلّم والبديهى، أو عدم مشروعيته ولا بديهيته.
تغيب عن الجابرى فى الحقيقة فكرة مهمة، وهى أن التنوير الأوروبى – فى القرن الثامن عشر - مبنى بشكل أساسى على نقض سلطة أرسطو. كما يعقد الجابرى مقارنة بين عصر النهضة الأوروبى أو عصر "إعادة الإحياء" (Renaissance) – من القرن الثالث عشر وحتى الخامس عشر - ومشروعه فى إعادة إحياء ابن رشد. هذه الإشكالية لا أستطيع الخوض فيها فى هذا المقال، و لكن يمكن القول أن عصر النهضة الأوروبى قدم فكرة خاطئة عن نفسه عندما صور النهضة كإعادة إحياء لأفكار معينة. كان الرجوع إلى أفلاطون فى الحقيقة ما هو إلا إجراء لإضفاء المشروعية على فلسفة فى مرحلة التحرر, ليس فقط من أرسطو و لكن من أفلاطون أيضاً. فلم يقل أفلاطون مثلاً (أو أرسطو) بلانهائية الكون، وهى فكرة محورية فى فكر عصر النهضة كمل يتضح من كتابات الفيلسوف الإيطالى جورديانو برونو(١٥٤٨-١٦٠٠). النهضة لم تكن إحياء لأفكار تم اكتشافها فى ما قبل و لكنها اندثرت فى عصور مظلمة، بل إنها طوّرت أفكار جديدة و مختلفة شكلاً و موضوعاً عن سابقها.
لعرض المشكلة بشكل أوسع, كان عصر الحداثة الأوروبى مرهوناً بنقض الفلسفة الأرسطية التى تبنتها مدارس القرون الوسطى. كما أن النقض الكانطى الموجه للفلسفات قبل النقدية موجه أيضاً إلى أرسطو ومدارس القرون الوسطى. قطع كانط رأس الحية بشكل جذرى عندما قال باستحالة البرهان النظرى على علة أولى أو محرك أول، وهو نقد ليس موجها فقط لفلاسفة القرون الوسطى الذين قالوا بعدم اختلاف هذه العلة الأولى عن الرب فى الديانات السماوية، و لكنه موجه بالضرورة إلى أرسطو أيضاً، فهو الذى قال بفكرة العلة الأولى فى الأصل. كما لم تعد مشروعية الفلسفة مبنية على غاية نهائية مطروحة مسبقاً، وهى الإثبات النظرى لعلة أولى. كما أن تركيز كانط على فكرة تحليل المسلمات و البديهيات وقوله بأن تحليل كيفية إدراكنا لها يسبق صياغة أى نظام فلسفى، لأنه يحدد معايير وحدود معينة للعقل، نقد ليس موجها فقط إلى ديكارت مثلاً بل إلى أرسطو والمدارس الأرسطية أيضاً. بالتالى لا يمكن لأى فلسفة تستقى إلهامها من أرسطو أو من ابن رشد (كمفكر أرسطى) أن تكون حداثية أو تنويرية فى وجهة نظرى، لأن التناقضات بينهما ليست سطحية علىالإطلاق. وعلى الأقل يتمتع الفلاسفة الأرسطيين الجدد فى أمريكا بقدر من الشفافية والفهم الموضوعى للذات عندما يقدمون فلسفتهم كفلسفة ما قبل حداثية (أو على الأقل كفلسفة لاحداثية) بشكل أساسى.
كذلك ﻻ يعير الجابرى اهتماما حقيقياً لمشكلة أخرى، ربما لأنها تسبب ارتباكا فى نظرته عن العقلانية الرشدية؛ وهى أن التنوير، فى أحسن أحواله، مشروع تحَرُّرى إنسانى عام للخروج من حالة القصور التى يفرضها البشر على أنفسهم ليصلوا إلى تطوير واستعمال قدراتهم. أود أن أشدّد على "إنسانى" هذه، لأنه مشروع ﻻ يتعلق بالنخبة والعلماء بل بالبشر فى عمومهم، وهو أيضاً مشروع عملى سياسى، وليس نظريا بحتا. بالمقابل نجد أن ابن رشد، بعد أن شرح فكرته عن تأويل النص، اتضح له أن هذا النوع من "العقل" ﻻ يمكن أن يظل مفتوحاً أمام الجميع. فلأن العقل هنا ﻻ يعنى ممارسة قدراتنا العقلية بل التوصل إلى استنتاجات صحيحة مبنية على مفاهيم عقلية أرسطية أولى، وجب على ابن رشد أن يضيف أن هذه الممارسة غير مباحة إلا للفلاسفة المتمرسين على المنطق الأرسطى. ويطرح ابن رشد فكرته هذه فى لغة القرون الوسطى المميزة، فهناك منازل ومراتب: يوجد ثلاثة أنواع أو "طبائع" للبشر؛ فالبعض يصدق بالبرهان، والبعض اﻵخر بالأقاويل الجدلية، وآخرون بالأقاويل الخطابية. ويسمح المضمون المركّب للنص الدينى بأن يصدق كل نوع وفقا لطبيعته. وبالتالى يجب أن يقْنَع عامة الشعب بالتأويل الخطابى والحرفى للنص الدينى، بينما يحتفظ الفلاسفة المتمرِّسين فى القياس المنطقى الأرسطى "بالحق" فى التأويل لاستخلاص المعنى الباطن للنص، والذى ﻻ يمكن من حيث المبدأ أن يتعارض مع النظام الأرسطى. فماذا يحدث لو تطاول واحد من عامة الشعب على هذا التقسيم وفقاً "للطبائع البشرية" وقرر تأويل النص؟ يجيب ابن رشد، مفكرنا التنويرى الكبير وقائد حداثتنا، أن هذا يؤدى إلى الكفر، وما يؤدى إلى الكفر فهو كفر، وبالتالى يجب على من ليس من أهل العلم (أى ليس من الفلاسفة الدارسين لأساليب القياس الأرسطية) أن يأخذ بظاهر النص، كما أن من يصرِّح من أهل العلم بتأويلاته الفلسفية للجمهور كافر لأن فعله يؤدى إلى الكفر. وباختصار يجب أن يلتزم كل فرد "بالطبيعة" و"الاستعداد" الخاصين به وألا يتخطَى حدوده فى التأويل لأن هذا يسبب بلبلة وفتنة بين الجمهور (المصدر السابق. ص ١١٩-١٢٤). واتساقا مع ذلك يرى ابن رشد ضرورة اتخاذ إجراءات لمنع وصول كتب التأويل الفلسفى إلى هذا الجمهور. السؤال اﻵن هو كيف تحول التفكير "التنويرى" إلى هذه الدرجة من المحافظة والنخبوية؟ ذلك أن ابن رشد يريد فقط أن يحتفظ بحق الفلاسفة فى التفلسف بغير خوف من الاضطهاد، وهو حق له مشروعيته، ولكن فى سياق حقوق البشر عامةً، وليس الفلاسفة وحدهم، وليس بثمن فرض حجر على المعرفة وممارسة العقل على الجمهور ككل، بتحديد نطاق ضيق للتأويل وحظر تداوله. فـ"التنوير" هنا، على محدوديته الأصلية بفلسفة أرسطو وبهدف محدد سلفا يتمثل فى التوفيق بينها وبين النص، لا يختص بشيء غير النخبة وحقها فى التفلسف عن العلل اﻷولى بدون مسائلة من السلطة. ولكن أين غابت الرسالة التقدمية الاجتماعية والسياسية؟
أعتقد أن الصورة أوضح اﻵن. مر الجابرى بسرعة على فقرات طويلة ومحرجة هنا، وفسَّر نظرة ابن رشد عن حظر التأويلات علناً بأنه كان يشك فى مبدأ العلنية publicity، خشية أن يكون إفشاء التأويل للجمهور بـ"أغراض سياسية" (المصدر السابق. ص٧٥). ولكن أليست هيمنة الفلاسفة المقربين من الأمراء والخلفاء بطبيعة وضعهم الاجتماعى على المعنى وعلى التأويل سياسة من الدرجة الأولى؟ كما أن السياسة الجماهيرية mass politics فى الواقع، وبدون أى انتقاص من قيمتها، عبارة عن محاكمة الأفكار والأطروحات علناً أمام الجمهور، لا السلطوية القائمة على مبدأ الرعاية الأبوية للشعب بما تتضمنه من حظر إطلاعه على أية منشورات قد يُرى أنها قد تثير الفتنة. ولم يحاول عاطف العراقى حتى إعطاء أية تبريرات لهذه الفكرة، فيبدو أنه يقبل بسلاسة فكرة وجود ثلاثة "أنواع" من البشر، ولا يبقى إلا أن يسأل كلٌ منا اﻵخر، كما نقول بالعامية، "أنت نوعك إيه؟" فالسلطوية أصبحت طبيعة ثانية لبعض "مفكرى التنوير" عندنا.
وبغض النظر عن إدانة هذا الموقف باعتباره سلطويا أو رعويا، فإنه فى كل الأحوال نقيض الموقف التنويرى الديمقراطى. ودعنا مرة أخرى نلقى نظرة إلى كانط على سبيل المقارنة. ﻻ يتطلب التنوير بالنسبة لكانط إلا حرية الممارسة النقدية العلنية للعقل. فالكل له حرية النقد والتفكير فى القوانين أو النصوص والتأويلات الدينية أو أى مجال آخر كمفكر يخاطب الجمهور علناً. ويعطى هذا النوع من النقد العلنى دفعة لعملية تكتسب فيها القوانين والقيم والمُسلّمات المشروعية والصلاحية اللازمتين لها من خلال المحاكمة العقلية. ومن هنا أتى دفاع كانط القوى عن حرية القلم، فالعلنية بالنسبة له تلعب دورا اجتماعيا وسياسيا فى مهمة التفكير الدائمة فى الذات، والتى هى شرط أساسى للتنوير، ولذلك ﻻ يمكن أن تكون هناك فى الموقف التنويرى حقائق أو قوانين ذو حصانة نقدية. وباختصار، يجب أن تكون ممارسة العقل، سواء تأويلا أو نقدا، عامة وعلنية لأن هدف التنوير الأساسي هدف يخص الإنسان فى عمومه وليس امتيازا لفرد أو لخاصة. وبينما نجد أن ما أُطلق عليه "تنوير" ابن رشد، معاديا صراحة للعلنية، وينصب هدفه على تحصيل العلم النظرى، فإن العلنية عند كانط كانت لها وظيفة إصلاحية اجتماعية وسياسية ذات مضمون ديمقراطى، وناتجة عن الحوار النقدى الذى ﻻ يستثنى من حيث المبدأ أحدا. وكما يقول يورجن هابرماس أحد أهم المُنظّرين لمفهوم العلنية عند كانط، "أن تفكر يعنى أن تفكر بصوت عالٍ". الوظيفة الديمقراطية للعلنية هى توسيع المجال لفئات أكثر من المواطنين في عملية اتخاذ القرار وسن القوانين عن طريق الحوار النقدى الذى يضفى على هذه القرارات والقوانين مشروعيتها وصلاحيتها.
ليس تأويل النص إذن تنويرا أو حداثة، بل كان موقف ابن رشد ﻻديمقراطيا فى جذوره كما رأينا. وفى النهاية يبقى أن نسأل عن الرغبة فى صياغة "تنويرنا" أو "حداثتنا" أو "ديمقراطيتنا": لا شك أن التفكير النقدى فى الماضى ضرورة، ولكنه ﻻ يجب أن يؤدي إلى طائفية فكرية. فالتنوير ليس ملكية خاصة للغرب لمجرد أنه بدأ تاريخياً ولأسباب اجتماعية وسياسية كحركة أوربية. فلا أحد يقول أن الرياضيات عربية لأنها تأثرت بشكل عميق بالعرب فى القرون الوسطى، أو أن الديمقراطية تنتمى إلى الحضارة اليونانية القديمة، أو أن الكتابة تنتمى إلى حضارات العراق القديمة. الخطاب القومى العربي يتميز بالتبسيط، فهو يتعامل مع الهوية العربية كمُسلمة مُتفق عليها، ويعتبرها هوية أحادية ومتميزة بشكل مطلق بما تستدعى "تفصيل" مشروع تنويرى يخصها. أضف إلى ذلك أن هذه الهوية المفروضة تستدعى طمس كل الاختلافات الداخلية بين "الهويات العربية"، وتجاهل أن تحديد معايير الهوية فى حد ذاته جهد سياسى وإيديولوجى من الدرجة الأولى، لا مجرد تعبير بسيط عن شىء معطى سلفا. أما إذا كان رفض التنوير "الغربى" يأتى من منطلق عدم توافق الظروف المادية العربية الراهنة مع مثيلتها التى صاحبت التنوير الغربى، فربما لا يبرر بدوره هذا "الاستقاء" من ينابيع تاريخية محلية، لأنه قد يمكن القول من باب أولى أن ظروفنا الراهنة أقرب مع ذلك إلى مثيلتها الأوربية منها إلى الظروف المادية للمغرب العربى فى القرن الثانى عشر، على اﻷقل من الناحية البنيوية؟ هذه أسئلة ﻻ نستطيع الخوض فيها فى هذا المقال، ولكن المهم، وبغض النظر عن "منشأ" الأفكار والمفاهيم، أن الحرية والعدالة والمساواة فى الفكر التنويرى مطالب عالمية. بالتأكيد سوف تختلف المظاهر الواقعية والعملية لتمازج هذه القيم بالممارسات البشرية فى البرازيل عن مصر مثلاً، ولكن هذه الإشكالية تخرج عن نطاق النظرية البحتة. "التنوير العربى" مثل "الحقوق العربية للإنسان" تعبير متناقض واسم مُستعار للاّ تنوير وتقليص الحقوق باسم الثوابت والمقدسات.

سقراط ، أفلاطون ، أرسطو

اقدم لكم نبذه صغيرة على تلاته من اعظم الفلاسفه فى التاريخ


اولا : سقراط
سقراط (469 ـ 399 ق.م). فيلسوف ومعلم يوناني جعلت منه حياته وآراؤه وطريقة موته الشجاعة، أحد أشهر الشخصيات التي نالت الإعجاب في التاريخ. صرف سقراط حياته تمامًا للبحث عن الحقيقة والخير. لم يعرف لسقراط أية مؤلفات، وقد عُرِفت معظم المعلومات عن حياته وتعاليمه من تلميذيه المؤرخ زينفون والفيلسوف أفلاطون وليس من سقراط نفسه مم شكل المشكل السقراطية، بالإضافة إلى ما كتبه عنه أريسطو فانيس وأرسطو.

وُلد سقراط وعاش في أثينا. وكان ملبسه بسيطًا. وتعلم في بداية حياته الموسيقى والأدب والرياضة وعُرف عنه تواضعه في المأكل والمشرب. وولد لأب نحات وأم قابلة وفي ربيع حياته اشتغل نفسه بالنحت ونحت 3 تماثيل وضعت بالقرب من الاكرابولس وتزوج من زانْثِب التي عُرف عنها حسب الروايات أنها كانت حادة الطبع ويصعب العيش معها. وقد كان قصير القامة وبشع وخدم في الجندية وعدة معارك وقد أنجبت له طفلين على الأقل. وكان يهرب منها صباحا إلى مكان بعيد وقد قال تفلسف مرة قائلا تزوج يا بني فن وفقت أسعدت والا اصبحت فيلسوفا .
للمزيد عن سقراط وفلسفته : هنا



ثانيا : افلاطون

أفلاطون (باليونانية: Πλάτων Plátōn) (عاش بين 427 ق.م - 347 ق.م) فيلسوف يوناني قديم, وأحد أعظم الفلاسفة الغربيين، حتى ان الفلسفة الغربية اعتبرت انها ماهي الا حواشي لأفلاطون. عرف من خلال مخطوطاته التي جمعت بين الفلسفة والشعر والفن. كانت كتاباته على شكل حوارات ورسائل وإبيغرامات(ابيغرام:قصيدة قصيرة محكمة منتهيه بحكمه وسخريه يعرف أرسطو الفلسفة بمصطلحات الجواهر ، فيعرفها قائلا أنها علم الجوهر الكلي لكل ما هو واقعي . في حين يحدد أفلاطون الفلسفة بأنها عالم الأفكار قاصدا بالفكرة الأساس اللاشرطي للظاهرة . بالرغم من هذا الإختلاف فإن كلا من المعلم و التلميذ يدرسان مواضيع الفلسفة من حيث علاقتها بالكلي ، فأرسطو يجد الكلي في الأشياء الواقعية الموجودة في حين يجد أفلاطون الكلي مستقلا بعيدا عن الأشياء المادية ، و علاقة الكلي بالظواهر و الأشياء المادية هي علاقة المثال ( المثل ) و التطبيق . الطريقة الفلسفية عند أرسطو كانت تعني الصعود من دراسة الظواهر الطبيعية وصولا إلى تحديد الكلي و تعريفه ، أما عند أفلاطون فكانت تبدأ من الأفكار و المثل لتنزل بعد ذلك إلى تمثلات الأفكار و تطبيقاتها على أرض الواقع.
أفلاطون هو أرسطوقليس، الملقَّب بأفلاطون بسبب ضخامة جسمه، وأشهر فلاسفة اليونان على الإطلاق. ولد في أثينا في عائلة أرسطوقراطية



أطلق عليه بعض شارحيه لقب "أفلاطون الإلهي". يقال إنه في بداياته تتلمذ على السفسطائيين وعلى كراتيلِس ، تلميذ هراقليطس ، قبل أن يرتبط بمعلِّمه سقراط في العشرين من عمره. وقد تأثر أفلاطون كثيرًا فيما بعد بالحُكم الجائر الذي صدر بحقِّ سقراط وأدى إلى موته؛ الأمر الذي جعله يعي أن الدول محكومة بشكل سيئ، وأنه من أجل استتباب النظام والعدالة ينبغي أن تصبح الفلسفة أساسًا للسياسة ، سافر إلى جنوب إيطاليا ، التي كانت تُعتبَر آنذاك جزءًا من بلاد اليونان القديمة. وهناك التقى بـالفيثاغوريين. ثم انتقل من هناك إلى صقليةديونيسوس ، ملك سيراكوسا المستبد، على أمل أن يجعل من هذه المدينة دولة تحكمها الفلسفة. لكنها كانت تجربة فاشلة، سرعان ما دفعته إلى العودة إلى أثينا ، حيث أسَّس، في حدائق أكاديموس ، مدرسته التي باتت تُعرَف بـأكاديمية أفلاطون. لكن هذا لم يمنعه من معاودة الكرة مرات أخرى لتأسيس مدينته الفاضلة في سيراكوسا في ظلِّ حكم مليكها الجديد ديونيسوس الشاب، ففشل أيضًا في محاولاته؛ الأمر الذي أقنعه بالاستقرار نهائيًّا في أثينا حيث أنهى حياته محاطًا بتلاميذه.


للمزيد عن افلاطون وفلسفته : هنا



ثالثا : ارسطو


أرسطو (384 ق.م. – 322 ق.م.) فيلسوف يوناني قديم كان أحد تلاميذ أفلاطون ومعلم الإسكندر الأكبر. كتب في مواضيع متعددة تشمل الفيزياء، والشعر، والمنطق، وعبادة الحيوان، والأحياءوأشكال الحكم.



ارسطوطاليس ثاني أكبر فلاسفة الغرب بعد أفلاطون. مؤسس علم المنطق، وصاحب الفضل الأول في دراستنا اليوم للعلوم الطبيعية، والفيزياء الحديثة. أفكاره حول الميتافيزيقيا لا زالت هي محور النقاش الأول بين النقاشات الفلسفية في مختلف العصور، وهو مبتدع علم الاخلاق الذي لازال من المواضيع التي لم يكف البشر عن مناقشتها مهما تقدمت العصور. ويمتد تأثير ارسطو لأكثر من النظريات الفلسفية، فهو مؤسس البيولوجيا (علم الأحياء) بشهادة داروين نفسه، وهو المرجع الاكبر في هذا المجال. وشعره يعتبر أول انواع النقد الدرامي في التاريخ، وتأثيره واضح على جميع الاعمال الشعرية الكلاسيكية في الثقافة الغربية وربما غيرها ايضا . ويرجع سبب هذا التأثير إلى أن اعمال أرسطو كانت شاملة، وتحيط بجميع الجوانب الحياتية، وتروق لجميع انواع البشر والثقافات.
ولد ارسطو عام 384 قبل الميلاد في مدينة ( ستاغيرا ) في شمال اليونان ، وكان والده طبيبا مقربا من البلاط المقدوني ، وقد حافظ ارسطو وتلاميذه من بعده على هذا التقارب . وقد كان لوالده ثأير كبير عليه لدخوله مجال التشريح ودراسة الكائنات الحية التي منحته القدرة على دقة الملاحظة والتحليل . وفي عام 367 رحل ارسطو إلى اثينا للالتحاق بمعهد افلاطون ، كطالب في البداية ، وكمدرس فيما بعد . وكان افلاطون قد جمع حوله مجموعة من الرجال المتفوقين في مختلف المجالات العلمية من طب وبيولوجيا ورياضيات وفلك . ولم يكن يجمع بينهم رابط عقائدي سوى رغبتهم في إثرا وتنظيم المعارف الانسانية ، وإقامتها على قواعد نظرية راسخة ، ثم نشرها في مختلف الاتجاهات ، وكان هذا هو التوجه المعلن لتعاليم وأعمال ارسطو.

فلسفة التاريخ عند ابن خلدون (2)

فلسفة التاريخ عند ابن خلدون (2)

يوسف أباالخيل

استعرضت، في الجزء الأول من هذا المقال، منهج ابن خلدون في الحكم على الروايات التاريخية. وأشرت إلى أنه منهج عقلاني ينشد عرض تلك الروايات، بما تتضمنه من أحداث ذات صبغة إنسانية أوطبيعية، على قوانين الاجتماع البشري التي رمز لها، أعني ابن خلدون، ب "طبائع العمران" من جهة. وعلى قوانين الطبيعة التي ركبها الله تعالى على قانون صارم لا يتغير ولا يتبدل من جهة أخرى.

مع ذلك، فابن خلدون لم يشأ أن يجعل منهجه العقلاني حاكما على المرويات التاريخية فحسب، بل إنه، بالإضافة إلى ذلك، أراد له أن يكون حاكما حتى على مرويات المفسرين أيضا، خاصة منها تلك التفسيرات التي تنهل من "المأثور" القصصي الذي كان سائدا قبل الإسلام.

لكن من المهم التأكيد عليه هنا أن المنهج الخلدوني، بحكم جِدَّته وابتكاريته، ليس مقصوراً، في تطبيق منطقيته، على أحداث التاريخ الماضية فقط. بل هو، بحسبانه منهج تفكير عقلاني بحت، صالح أيضا للتحقق من منطقية شواهد الحاضر بحسبانها، هي الأخرى، خاضعة، في تشكلها، لمحددات الاجتماع الإنساني واطراد القوانين الطبيعية.

وكما أشرت في الجزء الأول، فقد استحضر ابن خلدون، في مقدمته، بعض الروايات التي احتفت بها بعض أبرز الأسفار التاريخية في التراث العربي، بحسبانها شواهد على خلو الذاكرة الجمعية العربية، التي صيغت وفقا لمفهوم الانفصال السببي، من آلية استصحاب طبائع الاجتماع البشري أو صرامة القوانين الطبيعية عند رواية أو كتابة مثل تلك الروايات. والتي هي أيضا، أعني الذاكرة الجمعية للأمة، خُلوٌّ من استصحاب منطق (الِعلِّيِّة) الذي يعني، وفق مصطلح آخر لكنه يرمز لنفس الاتصال السببي، الربط التام بين العلل ومعلولاتها. وبدلا من ذلك صيغت تلك الذاكرة، ومن ثم بنية العقل العربي بالضرورة، على ما اصطلح عليه الأشاعرة ب "مستقر العادة". التي تعني عدم ربط الأسباب بمسبباتها في الطبيعية ربطا عِليّا. بل تعني، وفقا للمفهوم الأشعري، أن ما يشاهده الإنسان من انتظام واطراد حدوث المسببات بناء على أسبقية الأسباب عليها، ما هو إلا عادة اعتادها الإنسان، ملاحظتها في الطبيعة. وما دام أنها مجرد عادة، والكلام لا يزال للأشاعرة، فإن تخلفها وارد في أية لحظة!!.

من ضمن الروايات التاريخية التي طبق عليها ابن خلدون منهجه العقلاني ما أشار إليه بعضٌ من كبار المفسرين كالطبري والثعالبي والزمخشري، (والأخير من كبارعلماء المعتزلة الذين يعتزون بمنهجهم العقلاني!)، عند تفسيرهم لقوله تعالى(: ألم تر كيف فعل ربك بعادٍ إرمَ ذات العماد) من أن "إرم اسم لمدينة وصفت بأنها ذات أساطين(أي أعمدة) بناها ابنٌ لعام بن إرم، في صحراء عدن، وأنها كانت مدينة عظيمة قصورها من الذهب وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة. وينقلون أن الصحابي عبدالله بن قلابة قد مر بهذه المدينة عند خروجه في طلب إبل له، فوقع عليها وحمل منها ما قدر عليه". فينقد ابن خلدون هذه الرواية بقوله: "وهذه المدينة لم يُسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض، وصحارى عدن التي زعموا أنها بُنيت فيها هي وسط اليمن، وما زال عمرانها متعاقبا والأدلاء تقص طُرقها من كل وجه". ثم يضيف: "وقد ينتهي الهذيان ببعضهم، (يعني رواة هذه القصة)، إلى القول بأنها غائبة. وإنما يعثر عليها أهل الرياضة(....) والسحر. وهي مزاعم كلها أشبه بالخرافات.

ولما فرغ ابن خلدون من سرد كمّ من الروايات التاريخية المفتقرة إلى استصحاب منهج "طبائع العمران"، عاد فأكد على أن صاحب هذا الفن، (رواية التاريخ)،: "يحتاج إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السِيَر والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة(مقارنة) ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف. وتعليل المتفق(الثابت) منها والمختلف(المتغير). والقيام على أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها(نشأتها) وأحوال القائمين بها وأخبارهم حتى يكون مستوعبا لأسباب كل حادث واقفا على أصول كل خبر". ثم يضيف: "وحينئذ يعرض المؤرخ خبرَ المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا وإلا زيَّفه واستغنى عنه".

كل ما سبق كان مجرد أمثلة ساقها ابن خلدون للروايات التي لا تتفق وقوانين الاجتماع البشري التي يظهر أنه يعتبرها، أعني تلك القوانين، بمثابة بنية لها ثوابتها ومتغيراتها. وذلك ما يعبر عنه بقوله: "ومن الغلط الخفي الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام وهو داءٌ دوِيٌّ شديد الخفاء. وذلك أن أحوال الأمم والعالم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر. إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول".

وكما نقد ابن خلدون تلك المرويات التي لم تراع قواعد العمران البشري، فكذلك شمل بنقده تلك الروايات المتضمنة لأحداث يجب أن تحكمها، لوحدثت، عِليِّة وصرامة القوانين الطبيعية. فقد تحدث عما يُروى بشأن المهدي الذي يخرج، كما جاء في بعض الروايات، في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلا كما مُلئت جورا. ولما كانت تلك الروايات تصور أفعاله التي يغير بها وجه العالم على أنها خارقة لقوانين الطبيعة، فقد عمل ابن خلدون، أولاً، على نقد الروايات التي جاءت بشأنه، سندا ومتنا، مبينا ما يعتريها من ضعف. ثم طبق عليها، بعد ذلك، منهجه العقلاني متمثلا بمراعاة قوانين الطبيعية في مثل تلك الأحوال أولا، ثم برد ما قد يحدث من ذلك(خروج المهدي) إلى قوانين الاجتماع البشري ثانيا بقوله: "والحق الذي ينبغي أن يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية تُظهره وتدافع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله". ثم يضيف: "..... وعصبية الفاطميين، بل وقريش أجمع، قد تلاشت من جميع الآفاق ووجد أمم أخرى قد استعلت عصبيتهم على عصبية قريش إلا ما بقي من بعض الطالبيين في بعض الأقطار التي هم منتشرون فيها، فإن صح ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهور دعوته إلا بأن يكون منهم". وما يريد أن يقوله ابن خلدون هنا أنه إذا كان ثمة ظهور للمهدي مستقبلا فلن يكون ظهورا خارقا لقوانين الطبيعة، أو مباينا لقوانين الاجتماع. بل سيكون ضمن قوة اجتماعية تدفعه لتحقيق ما يدعو إليه كما هو الشأن مع كل الدعوات/ الفعاليات الأخرى التي لم ولن تتعالى على التاريخ والاجتماع، ناهيك عن تعاليها على قوانين الطبيعة.

السؤال هنا هو: ماذا سيحدث لنا في حاضرنا لو أن ذاكرتنا الجمعية، كمسلمين، صيغت طبقا لمناهج التفكير العقلانية، كالمنهج الخلدوني؟ لا شك بأن أهم نتيجة سنجنيها من ذلك أننا لن نقتات على خرافات يُسوِّقها لنا بائعو الوهم وتجار الشعوذة على اختلاف مواقعهم ونوعياتهم!!. لن نكون في وضع نصدق فيه سيناريوهات معدة مسبقا يقوم، وفقا لها، تجار الأزمات بعمليات تصوير لجثث "المجاهدين"، كما أشار إلى شيء من ذلك الزميل الدكتور علي الخشيبان، بعد أن يقوموا برفع أصابعهم السبابة كناية عن أنهم نطقوا بالشهادتين قبل "استشهادهم". وبوضع فكي الجثة على هيئة تبدو وكأن صاحبها كان يبتسم لحظة الموت. مع نفح الجثة بشيء من المسك! حتى تبدو لمن يقترب منها وكأنها تفوح منها رائحة ذلك المسك بدلا من عبيط الدم!!

لو أن بنية العقل العربي أُسست وفقا لمناهج التفكير المنطقي لما صدَّقنا مهرجا يخرج على شاشة التلفزيون ليروي لنا قصة ذلك الشاب الذي تحول فجأة إلى كلب يعوي لأنه، على حد تشخيص ذلك المهرج، كان يلهو بالهاتف أثناء قيادته سيارته إضافة إلى إهماله قراءة ورده المسائي!!!. ومع ذلك، فما هي إلا نصف ساعة من (نفث) ذلك المهرج على ذلك الشاب/ الكلب حتى عاد إلى حظيرة الإنسانية!!.

فلسفة التصوف عند ابن خلدون/ عيد الدرويش

فلسفة التصوف عند ابن خلدون/ عيد الدرويش

ما خبر التصوف لدى ابن خلدون؟

مع عظيم الشكر للأستاذ عيد الدرويش، ننشر المقالة الثالثة في سلسلة المقالات الفكرية التي بعث بها إلينا وهي تدور حول "فلسفة التصوف عند ابن خلدون ":

يحتفل العالم في هذا العام بمرور ستمائة عام على وفاة عالم الاجتماع العربي ابن خلدون الذي ولد وعاش في بلاد المغرب العربي وتقلد مناصب كثيرة في حياته ومنها قاضي القضاة في بلاد الأندلس (ت 808 هـ )فقد أصبحت نظرياته في الاجتماع والسياسة ونشوء وطبائع الأمم مرجعا مهما في الحياة البشرية وتدرس في كافة جامعات العالم فقد سبق بني عصره بنباهته ومن خلال ممارسته السياسة آنذاك وإن الخلافات السياسية التي كانت سائدة في عصره كانت زادا معرفيا في وضع تلك النظرية في علم الاجتماع والساسة والحضارة والعمران وقد جمعها في كتابه المعروف (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)

ويعتبر ابن خلدون رائد علم الاجتماع في حين يجهل ويتجاهل بعض الغربيين أنهم هم من أسس علم الاجتماع وأما البعض الآخر يدرك أهمية ابن خلدون ويرى في مقدمته المشهورة أن التصوف الإسلامي علم من العلوم الشرقية الحادثة في الإسلام وهذا التصوف في نظره له أصول عند الصحابة والتابعين ومن بعدهم فطريقة الصوفية هي طريق الحق والهداية وأصله العكوف على العبادة والانقطاع الى الله تعالى والأعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه العامة من الناس من اللذات وطلب المال والجاه , ولقد كان الصحابة كما أورد ابن خلدون ينفردون عن الخلف في الخلوة للعبادة , ويقول: أن ذلك كان عاما في الصحابة والسلف الصالح ولم ينظر إليه كحالة متفردة وإنما كان الجميع يعايشون هذا التصوف والزهد في حياتهم اليومية دون أن يشوبها أي نوع من الابتعاد عن العبادة وأداء الفرائض والقيام بالعمل والإخلاص في كل مفردات الحياة اليومية للناس .

ويبين لنا أن ابن خلدون في مقدمته أن السبب في شيوع اسم الصوفية راجع إلى انه قد فشى الإقبال على الدنيا في القرن الثاني الهجري , وبعد كثير من الناس عن العبادة وجنحوا إلى مخالطة أهل الدنيا , وصار علم التصوف في الملـّة علما مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط , كما كان فيها الإنسان المتعبد يسلك في مقامات عدة فمنها المقام للمريد يبتغي منها محاسبة النفس للتخلص من الحزن والهم والكسل الذي يسعى من خلاله هي تلك الرياضة في مقام آخر هو العبادة التي لم تكن في الحالة الأولى , فالعبادة ينتهي فيها المريد إلى التوحيد وهي الغاية المطلوبة للسعادة التي يبحث عنها , فالمريد لا بد له من الترقي التي تأتي مجتمعة ومشتملة على الطاعة والعبادة وجوهرها الإيمان بالله عزوجل.

لذلك أختص المقبلون على الله العكوف على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة وكأن ابن خلدون يرد على مزاعم بعض المستشرقين والمستغربين عندما يتقولون على الصوفية ويدعون أن هذا التصوف لا أصل له من الشريعة واختلف المتصوفة والمتكلمين من الأتباع في هذا الدين في تفسير هذا السلوك فمنهم من عزا ذلك إلى جوهر الشريعة وآخرون ابتكروا فيه جوانب وانتقدوا جزءا منه , وبينما فريق آخر تكلم فيما هي المجاهدات والأحوال والرقى وصولا إلى المراتب والمشاهدات التي يجب أن تباح , وحتى في التعبير عنها تعجز اللغة عن الإفصاح عنها, إلا بإماءات وإشارات لم تكن واضحة إلا لمن قطع شوطا كبيرا في المراتب التي تم تعدادها فيقول في ذلك ( وسار علم الشريعة على صنفين )

1- صنف آختص به الفقهاء وأهل الفتية وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات

2- صنف اختص به الصوفية وهو في القيام بالمجاهدة ومحاسبة النفس عليها والكلام وفي الأذواق و المواجد وكيفية الترقي من ذوق إلى ذوق وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك .ويستطرد العلامة ابن خلدون فيقول: فلما كتبت العلوم ودونت وألف الفقهاء في الفقه , وعلماء الكلام في الكلام وعلماء التفسير في التفسير دوّن رجال من أهل التصوف كتبا في الورع ومحاسبة النفس , ويستشهد في ذلك بما فعله القشيري في كتاب الرسالة والسهروردي في كتاب (عوارف المعارف) كما جمع الأمام الغزالي بين الأمرين وذلك في كتاب (إحياء علوم الدين) كتب الأمام الغزالي عن الورع والإقتداء ثم بين آداب الصوفية و سننهم وشرح اصطلاحاتهم وأدق معارفهم وأصبح علم التصوف الإسلامي علما مدونا بعد أن كان التصوف عبارة عن عبادة فحسب والحقيقة أن التصوف مثله في ذلك مثل علم الفقه والكلام والتفسير والحديث كان علما يتلقى من صدور الصحابة والسلف , وأن لم يكن في القرن الأول والثاني قد دوّن مثل كثير من العلوم الإسلامية , إلا انه كان على الحقيقة موجودا في صدور الصحابة والتابعين وتابع التابعين لقد كان الشغل الشاغل للصحابة في الصدر الأول للإسلام هو العمل الجاد على حفظ وترتيب القرآن بالسنة ثم أصبحت الحاجة ماسة إلى تدوين العلوم , فدوّنت علوم الفقه والتفسير والحديث ثم نشأ علم الكلام ثم التصوف , أو كما يسميه ابن خلدون ( الطريقة ) أو آداب القوم إن المجاهدة والخلود والذكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحسن و الاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس أدراك شيء منها . أن الإنسان بما هو إنسان يتميز عن سائر الحيوانات بالإدراك .

ويستنتج ابن خلدون من ذلك أن المريد في الطريق الصوفي يتحصل في كل مجاهدة وذلك الحال , إما أن يكون عبادة تترسخ في نفسه فتصير له مقاما, وأما أن تكون صفة للمريد , وهذه الصفة تكون حاصلة للنفس كأن تكون حزن , أو سرورا , أو كسلا , أو نشاطا إلى غير ذلك من مقامات , وينتهي ابن خلدون إلى القول أن المريد ما يزال يترقى من مقام إلى مقام إلى أن يصل في النهاية إذا صدق إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة , فالهدف النهائي للمريد الصادق في الطريق الصوفي في رأي ابن خلدون هو الوصول إلى التوحيد وشهود أن لا إله إلا الله ويؤيد ذلك بالحديث النبوي من قول الرسول (ص) من مات يشهد أن لا أله ألا الله دخل الجنة ) ويريد ابن خلدون أن ينبه على أن الترقي من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام لابد أن يبدأ بالأيمان والطاعة والإخلاص وهنا تصاحب مجاهدة المريد الأحوال والصفات وتأتي عنها نتائج وثمرات فإذا وقع تقسيم من المريد , أو خلل في الثمرات التي يتحصل عليها, فإنما ذلك نتاج لالتفات المريد الحظوظ الدنيوية , أو لوجود آفات كالخواطر النفسية , أو الشيطانية لذلك يحتاج المريد إلى أعاده النظر إلى نفسه وعلاج عيوبها والرجوع إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله لأن النتائج مقترنة بالأعمال .

ويضيف ابن خلدون (إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحس والاطلاع على عوالم من أمر الله وهو ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها والروح من تلك العوالم , وسبب هذا الكشف إن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس وقويت أحوال الروح وغلب سلطانه , فالذكر كالغذاء لتنمية الروح , ولا يزال في نمو وتزايد إلى أن يصير شهودا بعد أن كان علما ويكشف حجاب الحس , ويتم وجود النفس الذي لها من ذاتها , وهو عين الإدراك , فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم اللدنية والفتح الإلهي , وتقرب ذاته في تحقق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة) ولهذا يتميز المتصوفة من خلال تلك المجاهدات مشاهدات لا يدركوها غيرهم وكأنهم يدركون الواقعات قبل وقوعها

ويذكر ابن خلدون : حول الكشف , فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرفون ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة ويتعوذون منه إذا هاجمهم , فالصحابة كانوا أوفر حظا في هذا المجال بالكرامات .

وفي موضع آخر من المقدمة يقول (ثم إن قوما من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والمدارك التي وراءه واختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية وتغذية الروح العاقل بالذكر حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها بتمام نشوتها وتغذيتها فإذا حصل بذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ وأنهم كشفوا ذوات الوجود وتصوروا حقائق كلها من العرش إلى الفرش , هكذا قال الغزالي رحمه الله في كتاب إحياء علوم الدين بعد أن ذكر صورة الرياضة , ولا يكون الكشف صحيحا كاملا عنده ,إلا إذا كان ناشئا عن الاستقامة )

وقد كان رأيه في الاستقامة للنفس كالانبساط للمرآة فيما ينطبع فيها من الأحوال , ولما عني المتأخرين بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العلوية والسفلية وحقائق الملك والعرش والكرسي وأمثال ذلك وقصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقة عن فهم أذواقهم ومواجدهم في ذلك , وأهل الفتيا بين منكر عليهم ومسلم لهم , وليس بالبرهان والدليل بنافع.

(وإن أول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه وهو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد والظهور لقوله في الحديث الذي يتناقلونه كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني وهذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود وتفصل الحقائق وهي عندهم عالم المعاني والحضرة الكمالية والحقيقة المحمدية ويصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى , وهي مرتبة المثال ثم عنها العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك ثم عالم العناصر ثم عالم التركيب , هذا في عالم الرتق , فإذا تجلت فهي في عالم الفتق ويسمي هذا المذهب مذهب أهل التجلي والمظاهر والحضرات هو كلام لا يقتدر أهل النظر على تحصيل مقتضاه لغموضه وانغلاقه وبعد مابين كلام صاحب المشاهدة والوجدان وصاحب الدليل وربما أنكر بظاهر الشرع على هذا الترتيب )

كما ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة , وهو رأي أغرب من الأول في تعقله وتفاريعه , ويزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله بها كنت حقائق الموجودات وصورها وموادها والعناصر بهيولاها وزيادة القوة المعدنية ثم القوة الحيوانية والقوة الحيوانية تتضمن زيادة قوتها في نفسها , وكذلك القوة الإنسانية مع الحيوانية ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية وزيادة , وكذلك الذوات الروحانية والقوة الجامعة للكل من غير تفصيل هي القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية وجزئية وجمعتها وأحاطت بها من كل وجه لا من جهة الظهور ولا من جهة الخفاء ولا من جهة الصورة ولا من جهة المادة فالكل واحد وهو نفس الذات الإلهية وهي في الحقيقة واحدة بسيطة الاعتبار.

إلا أن وحدة الوجود هذه يفندها ابن دهقان , بأن هذه الدركات البشرية شريطة لوجود المدرك الحسي (أما الموجودات المعقولة والمتوهمة هي مشروطة بوجود المدرك العقلي وليفترض عدم وجود المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل الوجود بل هو بسيط واحد فالحر والبرد والصلابة واللين بل والأرض والماء والنار والسماء والكواكب إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها لما جعل في المدرك من التفصيل الذي ليس في الموجود وإنما هو في المدارك فقط فإذا فقدت المدارك المفضلة فلا تفضيل إنما هو إدراك واحد وهو أنا لا غيره وهذا حال النائم إذا نام وفقد الحس الظاهر فقد فقد كل محسوس ولكن يؤخذ على ابن دهقان في هذا الأمر بوجود البلد الذي نحن مسافرون عنه وإليه يقينا مع غيبته عن أعيننا وبوجود السماء المظلة والكواكب وسائر الأشياء الغائبة عنا)

ولكن بعض المتصوفين المتأخرين يقولون إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة ويسمي ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات , ويعبرون عن ذلك بمقام الفرق وهو مقام العارف المحقق , ولا بد للمريد عندهم من عقبة الجمع , وهي عقبة صعبة لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفته , فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة , وكذلك المتأخرين من المتصوفة , ومن المتكلمين منهم في الكشف قد توغلوا كثيرا في هذا الأمر, فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة , وملؤا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات وغيره وتبعهم ابن عربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض وكان سلفهم من المخلصين للإسماعيلية واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم حتى ظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب ومعناه أنه رأس العارفين وهو مقام لا يساويه أحد في المعرفة حتى يتوفاه الله ليرث هذه المكانة لغيره .

أما ابن سينا في كتاب الإشارات في فصول التصوف منها فقال : جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد وهذا الكلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي , وإنما هو من أنواع الخطابة, ودانوا به ثم قالوا: بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء .

وكلامهم هذا في أربعة مواضع : الأول : الكلام في المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النفس على الأعمال لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاما ليترقى منه إلى غيره , الثاني : الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل الصفات الربانية والعرش والكرسي والملائكة والوحي والنبوة والروح وحقائق كل موجود غائب أو شاهد وتركيب الأكوان في صدورها , الثالث : التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات , الرابع ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات تستشكل ظواهرها فمنكر ومحسن ومتأول.

وصفوة القول أن ابن خلدون كان من أبرز المفكرين في عصره ومقدمته الني كانت مقدمة لكل النظريات الاجتماعية والاقتصادية في عالمنا المعاصر.

عيد الدرويش

الرقة- سوريا

فلسفة ابن خلدون الاجتماعية في رؤية غاستون بوتول (1)

فلسفة ابن خلدون الاجتماعية في رؤية غاستون بوتول (1)

بهرام اخوان الكاظمى

(باحث في مكتب دراسات العلوم السياسية)

ابوزيد، عبدالرحمن بن محمد بن محمد، ابن خلدون (732 / - 808ه . 1322- 1406م) احد كبار علماء الاسلام البارزين، له كتاب «العبر و ديوان المبتدا والخبر في ايام العرب والعجم والبربر» في سبعة مجلدات، الا ان المقدمة التي كتبها لهذا الكتاب تعتبر من اروع ما كتب في الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع، بل ان اسمه لم يشتهر الابسبب تلك المقدمة القيمة بحيث ان مقامه الفلسفي كاد ان يختفي تحت‏شعاع تلك المقدمة .

منذ اكثر من قرنين عرف الاوروبيون مؤلفات ابن خلدون واخذوا يدرسون آراءه، بينما لم يمض على معرفتنا به اكثر من اربعة عقود . لقد الفت كتب عديدة وكتبت مقالات كثيرة حول آراء ابن خلدون الرفيعة، الا ان هناك نكات ما زالت غير مكشوفة في آرائه، وهذا الامر يتطلب مزيدا من دراسة هذه الشخصية الفذة .

من بين الكتب التي كتبت‏حتى الآن عن ابن خلدون يمكن ان نشير الى «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية‏» (2) تاليف العالم بعلم الاجتماع الشهير، الفرنسي، غاستون بوتول (3) الذي الفه في سنة 1930م . وبما ان هذا الكتاب لم يترجم بعد، فقد سعيت في هذا البحث ان اشير الى اهم النكات ونقدها وتلخيصها .

هنالك، كما قلنا، اسئلة كثيرة تدور حول شخصية ابن خلدون وآرائه، مثل :

هل نجح ابن خلدون في تاسيس علم جديد؟

هل لفكر ابن خلدون و تاسيسه هذا العلم الجديد جذور اسلامية، ام انه خارج هذا الميدان ؟

على الرغم من وجود جذور كثيرة من الآراء الغربية في الفلسفة و علم الاجتماع في افكار ابن خلدون، لماذا اصيب بالتوقف الفكري و لم يستطع تاسيس مدرسة فكرية جديدة؟

هل كان تمسك ابن خلدون بالشريعة والسنة الاسلامية هو السبب في ذلك، ام الضغوط السياسية وتحمله الاذى في زمانه لم تسمح له بتنظيم افكاره وطرحها .

هذه اسئلة يحاول هذا الملخص بيانها على قدر الامكان .

الكتاب يقع في عشرة فصول ستقوم هذه المقالة بشرح النكات المهمة في كل فصل، ثم تشير الى آراء بعض العلماء في هذا الكتاب واخيرا الى النتيجة ونقد قصير .

الفصل الاول: حياة ابن خلدون

يقوم بوتول في هذا الفصل بشرح بعض الكليات والخصوصيات في حياة ابن خلدون متطرقا لزمانه ومكانه، وهو يرى انه لو لم يكن الا القسم التاريخي من «مقدمة‏» ابن خلدون لكفاه ذلك فخرا مشرفا، اذ لولا ذلك القسم لبقي تاريخ شمال افريقيا، من الفتح الاسلامي حتى القرن الرابع عشر الميلادي، مظلما داجيا .

بوتول يعتقد ان دور ابن خلدون ارفع بكثير من مجرد النقل، ويقول :

في البداية كان يريد ان يكتب تاريخ البلد الذي يعيش فيه، فكانت النتيجة انه كتب تاريخيا عالميا فريدا في بابه لفت اليه الانظار في تلك الفترة من تلك الحقبة في البلدان الاسلامية .

كذلك كان يريد ان يضع كتابا في الفلسفة لتحليل معلوماته التاريخية . وهنا حصل امر فريد، امر لا نظير له بعد مشاهير فلاسفة اليونان . (4)

يقسم بوتول «مقدمة‏» ابن خلدون الى عدة اقسام:

1 . محاولة النقد التاريخي .

2 . شرح عام للظواهر الاجتماعية .

3 . دراسة القوانين التي تتحكم في التطورات الاجتماعية والسياسية .

بهذا المنظور كان ابن خلدون ينوي ان يسمو بمعارفه التاريخية بما اطلقنا عليه بعد ذلك اسم القوانين التاريخية، لا عن طريق النقل والاحصاء طبعا، بل كان يريد ان يفهم اساس الملل (5) و كنهها ويميزها، وان يتعرف اسباب الحوادث واختلافاتها وتشابهاتها مما كان يمكن ان يعثر عليه بين تلافيفها .

بوتول يرى ان ذلك كان امرا معقدا و يعتقد ان هذا التعقيد يمكن ان ينحل عندما نعلم ان فاعله لا يعلم شيئا عن اشباهه في ازمان اخرى .

كان ابن خلدون يعيش في اواخر القرون الوسطى، اي في عصر الانهيارات والتحولات الكبرى في النظم، و عصر التنور في اوروبا وبداية عصر النهضة، تلك الفترة التي كانت معكوسة بالنسبة لشمال افريقيا حيث كانت وتسير القهقرى . بوتول يشرح الوضع المتردي والمنحط لتلك المنطقة ويقول ان ذلك كان سببا في ظهور شخصية مفكرة مثل ابن خلدون .

لقد حمل ابن خلدون آراءا متباينة عن بعض شخصيات عصر النهضة في ايطاليا . في البداية كان اشخاص من اهل الدرس و الفن، ثم اشخاص من اهل الحرب، اوجدوا فيه رغبة عارمة في الحصول على السلطة، كما اوجدوا فيه الرغبة في البحث والتفكير (6) .

يعتقد بوتول ان تلك الرغبة هي التي ادت الى ان يقوم ابن خلدون، في تلك الظروف القلقة المضطربة و الحياة السياسية المتناحرة، بخلق «مقدمته‏» العظيمة التي يقول عنها بوتول انها جديرة بان تكون مقدمة لدراسة التاريخ .

الفصل الثاني: «المقدمة‏»

يضع المؤلف لهذا الفصل العنوان التالي «على الرغم من معرفة ابن خلدون التاريخية الواسعة، فان «المقدمة‏» تعتبر بمثابة تاملات فريدة في بابها عن تجربته في شمال افريقيا» .

يرى بوتول انه اذا ما قام فيلسوف باكتشاف طريق لاحب جديد لحل المعضلات، يطرح السؤال التالي نفسه: ما هي السبل التي ادت بهذا الفيلسوف الى اكتشاف ما اكتشف؟ و هذا يؤلف فصلا مهما جدا في الفلسفة المعاصرة الجديدة . لذلك يقوم المؤلف ببذل المساعي متتبعا مسيرة ابن خلدن الفكرية التي اوصلته الى عرض طرقه الجديدة، (7) لكي يستطيع ان يصور ابداعاته و خلاقيته الفكرية ويشرحها، وهو يعتقد ان «المقدمة‏» ذات اصالة عالية لا يدانيها اي اثر في الادب الشرقي .

كما ان فلسفة العرب، بعد ان ادت دورها الابداعي في تلك الحقبة من الزمن، كانت تمضي دور افولها في قفص التعصب (8) والاضطرابات، و لم تستطع . في ذلك الجو من الحروب الصليبية والاضطهاد الديني، ان تجد جوا يساعدها على التامل و التعمق الفلسفي والبحث العلمي . ان التوجه العقلاني عند ابن رشد و ابن ميمون والمؤلفات التي كانت تتحدث عن السلطة والاخلاق والعلوم الاجتماعية، اخذت تتجه نحو ما وراء الطبيعة، والالهيات، والعلوم الطبيعية . في ظروف كهذه توجه ابن خلدون الى دراسة المجتمع . و على الرغم من ان مساعيه لم تكن قائمة على الاسلوب الايجابي، لكنها كانت، على الاقل، قائمة على المشاهدة (9) التي استخدمها اسلافه من كبار الفلاسفة العرب في العلوم الطبيعية والطبية استخداما موفقا .

هنا لابد من القول اننا بعيدون عن اسلوب النقد (10) الذي ظهر بعد ذلك في اوروبا، كذلك لا وجود للبحث الاستدلالي . بوتول يتفق مع مونيه (11) في ان الامثلة التي يضربها ابن خلدون لاسناد نظرياته ليست ادلة، بل هي صورا كان فيلسوفنا يميل اليها كاسلوب في النقد الايجابي لكي يحصل على صور صادقة ومتلقيات واضحة الا ان هذا الميل نفسه حمل ابن خلدون على الاتجاه نحو العينية التي كانت في ايامه متقدمة .

في التحليل الذي يقدمه بوتول عن ان ابن خلدون لم يكن من الطلائع في اسلوب العينية يقول لانه لم يكن قد اطلع على كتاب «السياسة‏» لارسطو و كتاب «الجمهورية‏» لافلاطون . والجدير بالذكر قوله :

في الواقع لا يمكن اعتبار ابن خلدون طليعة هذا الاسلوب بين معاصريه ولا بين الماضين الاقربين او الاقدمين، بل هو ادام استمراريته . وذلك لانه لم تكن له علاقة بمفكري العهد القديم حتى يتمكن من ان يزين كتاباته بالتفاسير والتحشيات التي خلفوها بمثلما فعل الفلاسفة العرب بالاستفادة من «ارغنون‏» ارسطو .

كتابان من العصر القديم كان يمكن ان تلهم ابن خلدون ولكنه لم يكن قد رآهما: كتاب «السياسة‏» لارسطو والذي لم يكن معروفا يومئذ . و في الوقت نفسه لم يكن يعرف توسيديد (12) (الذي كثيرا ما قارنوه به) (13) .

وبما ان فيلسوفنا لم يستلهم من احد في كتابة المقدمة، فينبغي ان نرى ان كان ما نعرفه عن المقدمة يدل على «شرقية‏» ابحاثه و على انها نقطة انعطاف في فهمه وادراكه ام لا، حسب قل بوتول .

في نظري ان فيلسوفا يدعى الابلي كان له اكبر الاثر في ابن خلدون، ذلك الفيلسوف الذي يمتدحه ويثني عليه واصفا اياه بالاستاذ الكبير في العلوم العقلية . كان الابلي منطقيا، فيتبين ان ابن خلدون لم يتاثر في مرحلة البلوغ باحد من رجال الكلام او العرفان او الحقوق، بل تاثر بمنطق عقلاني .

فيما يتعلق بالجوانب السلبية في ابن خلدون وتتبعه العلمي، يقول بوتول :

انه لا يعتقد ان ابن خلدون كان يعرف لغة اجنبية، لانه لم يشر الى ذلك في تاريخ حياته، ولا كتب شيئا بلغة اجنبية ولا ترجم منها . كما انه كان في سكوت يكاد يكون مطلقا تجاه اوروبا المسيحية، حتى انه في بحث قصير عن ادارة البابا واجهزته الحكومية، لا يلبث ان يعتذر عن الخوض في موضوع «يخالف الدين‏» . لم يكن ابن خلدون يعرف شيئا عن الاصول النظرية للمسيحية، فهو على الرغم من سكناه في مملكة مسيحية، يصفها ببلاط پيير الظالم (14) .

ولا بد من الاعتراف بانه كان ذا صفة نراها مضاعفة في العلماء الشرقيين، فقد كان ينفي عن مؤلفات الاجانب وفكرهم وعلومهم كل اتجاه نفعي .

كان ابن خلدون قليل المعرفة بالتاريخ القديم، الامر الذي طبعه بالسذاجة والتساهل، وحمله على التوسل بالاساطير الشعبية بحيث انه نسب بناء بعض البنايات التاريخية الى كائنات اسطورية (الغيلان .)

انك لتجد امثال ذلك في كتاباته . و لم يعن ابن خلدون بتاريخ اوروبا ولا الشرق الاقصى، فقوانينه التاريخية مستقاة كلها من تاريخ شمال افريقيا، فهو يعرف ساحة شمال افريقيا واللاعبين على مسرحها، واذا ما ذكر ساير الدول الاسلامية والبلدان المفتوحة فانما يذكرها على وجه العموم ولما بعد اسلامها، وهذا ما حدد ميدان تحليلاته، وبذلك كانت الاستنتاجات والاستدلالات في المقدمة ناجمة عن الظروف التاريخية الخاصة بدول شمال افريقيا، خاصة وانه كتبها خلال كتابة تاريخ البربر، هذا ما يعترف به ابن خلدون نفسه (15) .

الفصل الثالث: هدف كتابة المقدمة

تعريفه التاريخ وخصائص اسلوبه

يعتبر بوتول المقدمة سعيا لنقد تدوين التاريخ الشرقي نقدا تاريخيا حتى ذلك الحين، هذا بالدرجة الاولى، وبالدرجة الثانية، يرى انها، باعتبارها علم الاجتماع سعي لتفسير الظاهرات الاجتماعية . فمن هذه الناحية، حياة الجتمعات حدث و فعل (16) . والموضوع عند ابن خلدون هو دراسة هذا الفعل نفسه واساس وجود المجتمعات والمشاهدة ليدرك العوامل والاسباب للاختلاف الموجود بين مختلف الاقوام الاجتماعية وانواع حياتهم . وهذا ما يجر المؤلف الى اختبار تاثير ظروف السكن في الحياة الاجتماعية، والى دراسة كيفية ظهور الظاهرات الاقتصادية وتفسير بعضها والقوانين التي تحكمها .

ويمكن ان نتصور هدفا ثالثا لكتابة المقدمة هو بيان قاعدة تلخص في ذاتها تطور السلطات وتحولاتها و بعبارة اخرى، المجتمعات اجساد سياسية، وهي تؤلف الدول و تنطبق على الخصائص الجغرافية والاقتصادية للجماعات .

ابن خلدون، الذي كان طوال حياته رجل سياسة، يتجه بكليته الى هذه الاحداث محاولا استخراج نظرية عامة، وبالمثابرة على الدرس والبحث‏يتوصل الى اساس الحكم واتساعه في الزمان والمكان وقانون تغير السلطات .

كان هذا في الوقت الذي لم يكن ابن خلدون يعرف شيئا عن مناظرات افلاطون بشان الدولة، ولا عن «سياسة‏» ارسطو، وبعدم اطلاعه على الطلائع الذين سبقوه، كان يعتبر نفسه مخترعا ومبدعا لفكرة ممتازة (17) على الرغم من ان في ابن خلدون جوانب من النبوغ الفكري من غير معارض، فان بوتول، بالنظر لتجاوز ابن خلدون سنة كتابة التاريخ يومذاك، والقيام بدراسة ما يعتبر اليوم القوانين التي تحكم المجتمعات الانسانية و تطور الدول، يعتبره مبدعا وخالقا صادقا ذاتيا وتلقائيا، و يعتقد، الى حد ما، ان هذه النظرة يشم منها رائحة نقد جديد، و يرى ان سعي ابن خلدون سعيا جادا في كتابة التاريخ ما يزال امرا مهما وذا معنى، لكنه يرى ان اسلوب ابن خلدون لم ينعكس في الشرق، بل استحال الى رسائل و كتابات ميتة .

من الانتقادات المهمة التي يوجهها بوتول الى ابن خلدون و يعتقد ان احدا لم يعن به هو ما يلي:

قد يمكن توجيه النقد الى ابن خلدون صحيحا في انه كتب اكثر مؤلفاته (باستثناء المقدمة التي كتبها ايام تقاعده وتاملاته) في جو مشحون بالدسائس والتآمر في محيط محدود ضيق في افريقيا . اهم كتبه التاريخية الصرف، مثل تاريخ البربر الذي كتبه حت‏سلطة سياسية وبتكليف من حكام تونس (بني حفص .) لذلك فالكاتب المجبور لم يكن ملزما بالاستعجال فحسب، بل كان مجبورا على ترجيح الامير . اي انه كان عليه ان يلتزم الذوق واسلوب الكتابة الرائج في ذلك الزمان والمكان .

مما كان ينسجم مع رغبة المكلف بكلمة، انه كان بصورة غير مباشرة يقوم بواجب مؤرخ البلاط بكل ما في ذلك من الاعمال غير المرغوب فيها مما كان يقوم بها المتنورون في البلاط . . . في نظري ان المقدمة تمثل جانبا من كتابات ابن خلدون التي كتبها باستقلال و عدم تبعية لاحد هذا مع العلم بان آخرين لا يستثنون حتى المقدمة من التبعية .

لابد من القول ان ابن خلدون يرى ان حقيقة التاريخ هي الاخبار عن المجتمع الانساني، المجتمع العالمي، الاحوال التي تطرا على طبيعة هذا المجتمع، مثل التنافر، والتعايش، والعصبيات، وانواع الفتوحات، وانتصار فريق على فريق، و ما تخلفه هذه العصبيات والانتصارات من نتائج، كتشكيل الحكومات والدول والمناصب والدرجات، وما يحصل عليه الانسان بسعيه و عمله، كالحرف والمعايش والعلم والفنون والعادات وما الى ذلك مما يكون نتيجة طبيعية لهذا المجتمع (18) .

يرى المؤلف ان هذا التعريف واسع وكامل ومرتبط بعلم الاجتماع الجديد، و يعتقد ان يتجاوز الحدود الخاصة بالتاريخ، واذا حللنا هذا التعريف نجد فيه بذور جميع العلوم الاجتماعية وبراعمها، كما هي في الوقت الحاضر (20) .

يعتقد بوتول ان ابن خلدون ركز دراساته على ثلاثة انواع من الظاهرات مما كان لها تاثير في رقي المجتمعات: الظاهرات النفسية، و الظاهرات الاقصادية، والظاهرات السياسية .

ان التفسيرات التي يذكرها ابن خلدون لشخصيات التاريخ الاصلية لا تشبه «البطل‏» (21) كما كان يراه كارلايل (22) .

يضيف بوتول: ان هم ابن خلدون الدائم هو ان يكون على حذر من ان يقول شيئا يخالف الشريعة وتعاليمها، فهو عندما يعرض فكرة ما، يورد شروحا مطولة يبين فيها ان فلسفته تنسجم تماما مع السنة الاسلامية الخالصة . . و هذا ما يكرره بالنسبة للحكم والسياسة . ان هذا التشدد في التزام قوانين الشريعة انما يدل على روح القدرية والجبر في المقدمة (23) .

الفصل الرابع: علم الاجتماع العام والاقتصادي

يعطي ابن خلدون الاولوية للجوانب الاقتصادية التي تقوم الحياة الاجتماعية عليها، وهو يقسم المجتمع بحسب اساليب الانتاج (24) الى: الحياة المدنية، والفلاحين القرويين او سكنة الجبال، والعشائر الرحل الذين يربون الماشية (مثل البربر، والغلمان، والاتراك والتركمان . . . وهذا ما يذكر بوتول بآراء منتسكيو، ويجعله يصف ابن‏خلدون بانه طليعة المادية التاريخية . .

كاتب هذه السطور يتعجب من ان فيلسوفنا لم يبد وجهة نظره في الاقتصاد السياسي الانتزاعي . لم يكن ابن خلدون يعرف شيئا عن آراء الاقصاد الانتزاعي، مثل القيمة، وطرق الكسب (25) ، والنقود (26) ، واساس حق التملك وغيرها . . يقول بوتول :

علة ذلك ان هذه الآراء لا تنسجم مع قدرية ابن خلدون، كما ان نظرته الى المجتمع تشبه نظريات اصحاب اصالة المجتمع (27) . و هو يعتقد انه كلما ازدادت النفوس اقتربت الدولة من اوجها وابتدات مرحلة انحطاطها .

يقول بوتول :

يرسم ابن خلدون صورة اقتصاد يمكن ان نسميه بالاقتصاد الساكن (28) الذي لا انعطاف فيه (29) . . . وهو يرى ان هذا يحدد ابتكارات الافراد (30) .

الفصل الخامس: علم النفس الاجتماعي

يقول بوتول:

ان ابن خلدون يرى ان الخصائص النفسية لكل امة ناجمة عن الظروف والاوضاع والاحوال المادية لافراد تلك الامة، وهو يرى ان تلك الاحوال اكتسابية عن طريق التربية والتعليم . . . يقوم بوتول بعقد مقارنة بين ابن خلدون و دوغوبينو (31) الذي كان يعتقد ان فتوحات الاقوام كانت ناجمة عن تفوقها العنصري، مثل ابن خلدون . . يرى بوتول ان القبائل الرحل في شمال افريقيا حالت دون قيام حالة مشابهة للاقطاعية الاوروبية، اذ ان الايمان بالمساواة الاسلامية (32) كان يحملها على الثورة والعصيان، الامر الذي ابقى المنطقة في شكلها السياسي الاقتصادي البدوي . كما يمكن ان نلاحظ في آراء ابن خلدون «قوانين التقليد» التي قال بها غبريل تارد (33) ، وهي ان الناس اذا اجتمعوا يميلون الى ان يقلد بعضهم بعضا:

الاقوام المغلوبة تميل الى تقليد الشعاير والآداب والرسوم والعادات التي تاتي بها الاقوام الغالبة (34) . . .

الفصل السادس: عل النفس السياسي

بعد ذلك يدرس ابن خلدون كيفية قيام الامبراطوريات و كيف ان بعض الملل التي تبلغ مرحلة من التمدن والحضارة تفرض قدرتها او معرفتها على الملل الاخرى . بوتول يعتقد ان الوطنية بمعناها المعروف اليوم لم تكن مالوفة في ذلك الزمان والمكان، وانما الاتجاه الديني كان هو الاقوى .

يدعي بوتول انه لم يكن في الدول الاسلامية نظرية ثابتة للحكم، وان القرآن قد سكت عن هذا الامر، كما ان غياب هذا الامر من الكتاب المقدس ادى الى ظهور نظريات بهذا الشان عامة او هي نظريات تسوغ آلة الحرب (35) ، او تسوغ حالة موقتة (36) .

بعد اليونانيين، كما يرى بوتول، لم يظهر مجتمع واع (37) تابع للحكمة والشورى . . و فيما يتعلق بالسلطة السياسية، يبدو ان ابن خلدون اتجه فقط الى الملكية الشرقية (38) ، اي الاستبداد النظري (39) ، واستغلال عامة الناس على يد الحاكم واعوانه وانصاره . يقول بوتول ان ابن خلدون لم تكن له نظرية متميزه عن الحكم انه يعترف بضرورة وجود سلطة حاكمة ولكنه لا يشير الى نوعها . . كما انه لا راي له في الحكم التعاقدي (40) القائم على الحوار الحر والابحاث المطولة . لفظة الامبراطورية تعني عنده استغلال الاقلية للاكثرية، والسلطة السياسية عنده وسيلة للاستغلال، الا انه لا يقترح اي بديل، ودليل بوتول على ذلك ما يقتبسه من المقدمة:

في البداية يكون الاهتمام بمصلحة الحاكم (41) . . اما المصلحة العامة (42) فهي ثانوية . . في راي فيلسوفنا كل شي‏ء منوط بحالتين لا ثالث لهما: اما حياة البربر، وهي حياة البداوة، واما حياة المدنية . ان سوء ظنه ناجم عن تصوره النظام السياسي، و هو تصور ذو وجهين اصليين، الاول هو انه لا يرى غير الحكم السلطاني، خاصة ذلك النوع المالوف في الشرق والذي يمتزج، نظريا، بالحكم الالهي . . .

يرى بوتول ان البربر مطبوعون على التعصب للاسلام وانهم من عوامل عدم الاستقرار في شمال افريقيا في الماضي والحاضر، ويعتقد ان الطريق الوحيد للفرار من هذا الوضع هو اللجوء الى القوى العظمى، الامر الذي يكشف بوضوح الدوافع القومية عند بوتول في تبرير حضور فرنسا في هذه المنطقة (44) .

الفصل السابع: التعصب

يبحث‏بوتول في هذا الفصل في تفاصيل نظرية التعصب عن ابن خلدون و يعتبرها حجر الاساس في كل فلسفته و علم النفس والاخلاق وفلسفة التاريخ . . وهو يراها مادية، لانه يعتقد ان ابن خلدون يرى التعصب ناجما عن المحيط الذي نعيش فيه فقط، فالقبائل الرحل لا ارض لهم تحملهم على الاستقرار في مكان بعينه ويعيشون في قلق دائم، خاصة من الناحية الاقتصادية فهم في فقر مدقع .

يرى بوتول انه لعدم اختراع المدافع في ذلك الزمان وتشابه الفنون العسكرية في الدول . لذلك فان ابن خلدون، لكي يسوغ انتصار الفاتحين استخدم نظرية العصبية قائلا ان هذه الحالة جعلت القبائل القليلة العدد ولكن ذات الكفائة العالية قادرة على ان تغلب القبائل الضعيفة وغير المتحدة (45) .

يرى بوتول انه في زمان ابن خلدون لم تكن هناك اقوام منسجمة وواسعة، سوى التجمعات الدينية برغم انها لم تكن ذات نفوذ ولا تاثير سياسي، ولا وجود للروح القومية لدى اي ملة يعرفها . كان ابن خلدون يتحدث فقط عن التعلق بملك في قبال ملك آخر، وحتى هذه العلائق كانت ضعيفة جدا .

الفصل الثامن: فلسفة التاريخ

لفهم فلسفة التاريخ عند ابن خلدون، يلجا بوتول الى اساليب ابن خلدون، فيلاحظ ظاهرتين مختلفتين (46) الظاهرات الاقتصادية الجغرافية، والظاهرات النفسية التي معظمها كان من نتائج الظاهرات الاولى . . و بعد ان يشرح ابن خلدون تاثير الجو، ومكان السكن ونوع التغذية ونوع الحياة في الافراد والمجتمعات، على وجه العموم، ثم يصنف هذه المجتمعات الى سكنة الخيام و سكنة المدن و سكنة الجبال .

ينظر ابن خلدون الى قيام الدول الكبرى على انه ظاهرة، ولكنه، كاليونانين، لا يدخل في البحث‏حول تلك الدول، ولا يقترح افضل انواع الحكومات في نظره . يعتقد بوتول ان القرون الوسطى في الشرق و في الغرب لم تعرف الحكم الدستوري (47) ، ويقول :

في القرون الوسطى لم يسال احد عن افضل اشكال الحكم وانفع دستور للمجتمع . و قد جاء في تاريخ فيريرو (48) انه لملاحظة امثال هذه الاهتمامات الفكرية لابد من التقدم الى عصر النهضة، و حتى الى القرن 18، يومئذ كان الاقطاع و حكومة الحق الالهي يمثلان عقيدة سائدة، و لم يخطر لاحد ان يناقش ذلك (49) . غير ان بوتول لا يرى للاقطاعية و جودا في الدول الاسلامية في القرون الوسطى، كما ان نظرية الخلافة كانت موضع جدل ومناقشة حتى انتهت اخيرا بلاعتراف بها كواقع قائم . . .

و من جهة اخرى، لم يكن ينظر الى الامامة على انها غير قادرة على حل جميع المسائل لانها لم تكن تحول دون تنافس الدول الصغرى التي كانت تعترف بافضلية الخلافة (50) .

الفصل التاسع: الاخلاق عند ابن خلدون

على اساس نظرية بوتول، لا نجد في مؤلفات ابن خلدون ما يشبه عقدا للاخلاق العملية او النظرية الصرف، عدا النتف التي نراها في المقدمة يبين فيها وجهة نظره في ذلك . في هذه الفترة كان الاخلاقيون في اوروبا من علماء الكلام (51) الذين قصروا اهتمامهم على اخلاق الفرد (52) . . . بينما اولى ابن خلدون اكبر اهتمامه للاخلاق الاجتماعية والمدنية مما جلب انتباه المؤرخين . . يرى ابن خلدون ان خصائص الفرد تتبلور بموجب ظروف محيطهم المادية، ولكنه يضيف الارادة الالهية (53) التي يطلق عليها اسم «التقدير الالهي‏» ويرى ان الفضيلة الروحية وفسادها بيد الله ومنه تستلهم . . كما انه يرى ان افضل الفضائل (54) والقوى الروحية (55) هي الاعتدال والقناعة . . يرى بوتول ان المجتمع الفاضل الذي لم يبتل الانسان فيه بحياة الرق، عند ابن خلدون، هو مجتمع سكنة الخيام والرعاة الخليي البال (56) والاقل اجتماعية (57) . . انه لا يرى حتى الدين قادرا على كبح جماح الناس وابقائهم على الطريق المستقيم . يقول ابن خلدون :

ان الفساد اقرب الصفات الى الانسان، خاصة اذا اطلق سراحه في مراعي العادات ولا يهذب نفسه طبقا لتعاليم الدين (58) .

ينفي بوتول ان يكون ابن خلدون فوضويا، ويتحدث عن تكريم الاسلام و عدم معارضته للمنحى الاستدلالي، و يؤكد قوله:

ان اطاعة الناس سلطة بشرية تذهب بفضائلهم، بينما الشريعة الالهية لا تذهب بروح الاستقلال، في الوقت الذي لا يصدق هذا بالنسبة الى ملك (59) . . .

ان ما يؤدي الى اتحاد الناس وتضامهم هو انقيادهم الطوعي للشريعة وليس بسبب الخوف من السلطة . ان الناصح الذي يضع الفرد على الطريق المستقيم هو الدين، ولهذا السبب نجد الناس يزهدون في المال والثروة (60) . . الا ان الخلافة الحقيقية قد تلاشت وانقلبت الحكومة الى ملكية بحتة (61) .

ابن خلدون و جان جاك روسو

يقول بوتول ان ابن خلدون: بتعيينه تطلعات البربر، يطرح بحثه بين اختيارين مؤسفين (62) مشيرا الى موضوع اشير اليه بعد ذلك في القرن الثامن عشر، و على الاخص على لسان روسو يشبه في اصطلاحاته وتعبيره ما اورده ابن خلدون، و الموضوع هو نفوذ لا اخلاقية (63) الدول والمدن الكبيرة وتاثيرها وثقافة التنور (64) والتنعم والرفاه المادي . . و هنا يرى ابن خلدون انه لا بد من اختيار احدى الصورتين اللتين لا ثالث لهما: البربرية او العبودية (65) .

انه يرى ان الاستقلال والشرف لا يتلاءمان مع الحياة المدنية والترف الرفاه، اذ ان حياة التنعم تقتضي العبودية لكثير من الناس . .

الفصل العاشر: مقام تنور ابن خلدون

في هذا الفصل يمر بوتول مرورا تلخيصيا على خصائص فيلسوفنا الرئيسية والمقدمة:

يجمع ابن خلدون مشاهداته والاحداث التي تقع حوله ويحاول ان يستخلص منها قواعد من دون ان يشير بشي‏ء الى تطلعاته (66) وميوله .

من اسباب تحمله العناء والشقاء هو انه لم يكن يستطيع ان يوفق بين ميول رجل الدرس والبحث (67) و رجل العمل (68) ، و كان لابد من اختيار احدهما: فالذين يرغبون في الحياة المدنية مضطرون الى تحمل هيمنة ظلم (69) احد الملوك، او مواجهة هجوم القبائل الغازية . . . كان ابن خلدون يعتقد ان العصر الذهبي (70) قد خلفه وراءه، اذ وضع ارفع مراتبه الذين اسسوا قواعد الاسلام، وبعدهم بدا الانحطاط والتدهور . يرى ابن خلدون ان ظهور وسقوط الدول لانفع، و يمكن ان نقارن رايه هذا براي فيكو (71) .

من افكار ابن خلدون الاخرى هو انه لم يكن يؤمن بالشخصية يراها ناجمة عن المحيط (72) والتربية .

سبق ان قارنا بين فيلسوفين ادانا حياة المدنية: جان جاك روسو . و ابن خلدون الذي يكشف عن ايمانه الثابت‏بالفضيلة وصفة الزهد والرياضيات (73) . في نظر هذين الفيلسوفين اهل المدينة يتالفون من اناس افسدتهم المدينة وضيعتهم . الا ان الفيلسوف الفرنسي يرى الانسان البدوي، الانسان الطبيعي (74) ، كائنا مفعما بالطيبة واللطف والفضائل المثالية، و من هنا يظهر التباين العميق بينه و بين ابن خلدون، اذ ان ابن خلدون يرى ان البدوي الذي يتغير بدخول جوالمدينة وينحط، لا يمكن ان يكون مثاليا . انانية ابن خلدون حملته على ان يختار من بين العبودية لدولة منظمة (75) ، والحرية في مجتمع بدوي ذي تعصب شديد، هذه الحالة الثانية .

. . . . هنا يفصل ابن خلدون نفسه علنا عن السنة المدرسية (76) و يعتبر نفسه خالق فلسفة التاريخ و علم الاجتماع القائم على المشاهدة و تحليل الاحداث .

في جميع صفحات المقدمة يكشف عن ايمان ديني كامل، ولو انه لا يعالج اي عقيدة (77) ، ولا يبدي اية رغبة في ما وراء الطبيعة والجدل الكلامي، على الرغم من انه لم يخف تقليديته (78) . . . يبدو ان بعضا مما وراء افكار ابن خلدون هو رغبته في اتخاذ موقف في الجدل الدائر يومذاك عن الشعوبية بين القائلين بتفضيل المسلمين العرب على ساير العناصر الاخرى، والقائلين بتساوي العناصر المسلمة الاخرى، و كان موقف ابن خلدون مع الراي الاخير، لانه يرى ان الجميع يولدون ولهم عادات وسلوكات متشابهة، وانما هم يتغيرون بالتربية والتعليم (79) . . ابن خلدون يعتقد ان العلم لا نفع فيه ابدا، لان حركة التاريخ الفاجعة جبرية عنده وان الاحداث تقع حتما . انه لا يثق بالحكمة (80) والصدق . . . من مميزات ابن خلدون الاخرى هي خيبة الامل، انه، كما يقول بوتول، يرى الفنون والعلوم وكل ما يورث الانسان العظمة والرفعة امورا سيئة وكريهة، و يعتقد بدناءة الانسان وانحطاطه بعد العصر الذهبي في صدر الاسلام . . .

اسلوب كتابة المقدمة بسيط و خال من الصناعات الكتابية، وقد بقي صوته يتردد في كل مكان . ان كتاب هذا النابغة الطليعي كان ينبغي ان يكون دافعا خلاقا لعلم جديد . كانت هذه المقدمة قادرة على ايجاد ابحاث مستفيضة ونقطة ظهور مدرسة فكرية، الا ان شيئا من هذا لم يحصل، كانت المقدمة آخر شرارة ولمعانا لحالة تدعى اليوم بعصر نهضة العرب .

و هكذا كان لابد ان يتخذ هذا المشعل وللمعان العقلي طريقه نحو اوروبا .

الخلاصة

في استنتاج عام ينبغي القول ان غاستون بوتول يجد ان جذور افكار ابن خلدون تستند الى الاسلام، ويراه شخصا قدريا، جبريا، حاسما، سي‏ء الظن ومتنورا بلاطيا، على الرغم من انه يصفه في مواضع اخرى بالنابغة ورائد علم الاجتماع اليوم، كما انه يقول ان ابن خلدون كتب المقدمة مستقلا و لم يخضع لاي ضغط سياسي .

يبدو ان بوتول في نقده، وخصوصا في الفصل الاخير، يتحامل بافراط على ابن خلدون، فهو يتخذ، متفاخرا، موقفا، في مواجهة حضارية، الى جانب الغرب ضد الثقافية الاسلامية والشرقية، ويعتبر الحضارة الاسلامية، منذ القرون الوسطى في الاقل، انها فارغة لا شي‏ء فيها، بينما الغرب هو الحائز لكل شي‏ء بل يزعم ان الاسلام يخلو من نظرية في الحكم، ويقترح استبدال صفة «الاسلام‏» فيقال: الفلسفة العربية وابن خلدون العالم العربي، النهضة العربية وامثال ذلك . و هو يؤكد المآخذ على ابن خلدون ويضخمها وينسبها الى الاسلام والفكر الاسلامي (81) ، ولكنه عندما يعدد الصفات الايجابية عند هذا الفيلسوف يرجع معظمها لى ذاته لا الى انتمائه الديني، ويثني كثيرا على ابن خلدون في هذا المجال ويمتدحه، وياسف لانه لم يؤسس مدرسة فكرية . .

على الرغم من كل هذا لا يمكن اطلاقا القاء ستار على مقام ابن خلدون الشامخ ومنزلته الرفيعة وتقدمه الفكري الذي يستقى من ينابيع السنة الاسلامية، وهذا غاستون بوتول نفسه يعترف بان المقدمة يجب ان ينظر اليها على انها «مدخل الى دراسة التاريخ‏» ، وانها، على حد قول آرنولد توينبي:

المقدمة اعظم ما كتب من نوعها لحد الآن في اي عصر او ارض في العالم (82) .

الهوامش:

1. غاستون بوتول، العالم بالاجتماع الفرنسي الشهير، ولد سنة 1896 في مسقط راس ابن خلدون بتونس، وتوفي سنة 1980 في باريس، وهو متخصص في الجدل polemoioge و علم اجتماع الحروب .

2. Ibm khaldoun, Sa phulosophiesociale, paris, Gueuthner, 1930.

3. Gaston Bauthoul.

4. Gaston Bauthoul, Ibn khaldoun, saphilosophie sociale, paris, Gueuthmer, 1930, pp.1, 2.

5. Origine

6. Ibid,p.3.

7. Methodes.

8. Famatisme.

(بمعنى الاتجاه الاعمى والمفرط نحو دين او حزب)

9. Observation.

10. Critiqe.

11. M.R. Murnier.

12. Thuycydide.

13. Ibid, p, 16..

14. pierre le Crul.

15. Levent.

16. Fait.

17. Ibid,p21.

18. Ibid.

19. عبدالرحمن بن خلدون، المقدمة، ترجمة محمد پروين گنابادي، طهران، شركت انتشارات علمي و فرهنگي، ط 5، 1366 ه . ش، ج 1 ص 64 .

20. Bouthaual, Heros.

21 . المصدر السابق ص 24 .

22. karlayle) 1795- 1881) المؤرخ والناقد البريطاني الذي عارض المادية والعقلانية .

23. Ibid,p,28.

24. Modes de production.

25. les modes daqueir.

26. Richesse.

27. Populationistes.

28. Econamie stati1ue.

29. Sanpplesse.

30. Ibid,p,36.

31. De Gaubimeau.

32. Egalitarisme.

33. Gabriel Tarde.

34 . ابن خلدون، المقدمة، ص 281 .

35. Machines de gurre.

36. A, Sakka, le souverinete en droit muslman, thes, Driat, paris, 1916.

37. Cansiente.

38. Monarchie Orientale.

39. Absolutisme.

40. l Etat Contractul.

41. Souverain.

42. Le bin pulic.

43. Mode.

المصدر السابق، ص 51 44. Bouthoul,

45. Noblesse.

46. Fait.

47. Canstitutionelle.

48. Ferrero.

49. Ibid,p65.

50. Ibid,pp.65,66

51. The ologiens.

52. Supra terrestre.

53. Volonte divine.

54. Vertus.

55. Force ddme.

56. Oisif.

57. Farouche.

58. Ibid.

59. Ibid.

60. Ibid.

61. Ibid,p.76.

62. Tragique.

63. Demoralisatice.

64. Imtellectuell.

65. Servitude.

66. Ideal.

67. L Homme detude.

68. L Homme d a c tion.

69. Tyranique.

70. Age dor.

71. Gian Battista vico.

وهو مؤرخ و فيلسوف ايطالي (1668- 1744).

72. Milien.

73. Ascetisme.

74. L Homme de La nature.

75. Organise.

76. Scolastique.

77. Dogme.

78. orthodoxie.

79. Positive.

80. Sagesse.

81. E.F. Gautier, Le passe de Lafrique du nord, paris, 1928, p.q.

82. لتنفيذ مزاعم بوتول في زوال الفكر الاسلامي الغني يكفي ان نرجع الى احدى آخر مقابلات صاموئيل هاتشينغتون (استاذ السياسة والحكم في جامعة هارفارد، و صاحب نظرية «تواجه الحضارات‏» مع مجلة تايم الاسبوعية . انه يعترف علنا بوضوح و تقدمية الاسلام . وفي الرد على سؤال: لماذا تؤكد حصول مواجهة بين الغرب والعالم الاسلامي، يقول: باستثناء المسيحية، فالاسلام ادق دين واوضحه في العلم . الدين والسياسة غير منفصلين بعض عن بعض . هناك اعتقاد بان الغرب قد انزل الاذى بعالم الاسلام واستثمروه، لذلك ففي الطريق نوع من الانتفاض . .

83. ArnoldToynbee.

84. سعيد الشيخ، مطالعات تطبيقي در فلسفة اسلامي ترجمة مصطفى محقق داماد (طهران، شركت‏سهامي انتشارات خوارزمي، 1369 ه . ش) ص 224 .

نظرات في الفكر المنهجي عند ابن خلدون

نظرات في الفكر المنهجي عند ابن خلدون

الجزء الأول

بقلم: علال البوزيدي


الحديث عن شخصية ابن خلدون وما تميزت به من عبقرية وعلم وفقه وأدب يقتضي الكتابة المسهبة والبحث والتقصي في أغوار الاجتهادات التي مارسها مفخرة عصره ومعجزة زمانه عبد الرحمن بن خلدون، وبما أن التعمق في آثار هذا المفكر العربي المسلم يحتاج إلى المزيد من الاستقراءات والاستنتاجات، فإن أقرب السبل وأيسر المراجع هي ما كتب مفكرنا الكبير وما خلّده من آثار أفادت كثيراً العلوم الإنسانية، أما ما كتِبَ حوله فهو شتات يصعب الإلمام به جملة وتفصيلاً، أو بالأحرى بجزء قليل منه.

مؤلفاته تعبر عن إحاطته وغزارة علمه..

وهكذا فإنه لابد ولا مناص من وقفات تأملية في أشهر مؤلفاته التي ظلّت مناراً لإشاعة الوعي الإنساني.

وهنا تجدر الإشارة إلى »ديوان العبر« الذي خصصه المترجَم له للحديث عن حياة الأغالبة وتاريخ تعمير صقلية، وقد ترجم هذا المجهود الكبير إلى عدة لغات أجنبية وبالأخص: الروسية، الإيطالية، الهولندية، الإسبانية، البرتغالية.. وكان ذلك سنة 1841م، وقد استغلت بعض الدول الاستعمارية الثورة الفكرية والعلمية الهامة للفكر الخلدوني، إلا أن المجلدات التي صدرت باللغتين العربية والفرنسية راجت أكثر وعلى نطاق أوسع في العالم بأسره.

ومن هذه المجلدات ما خصص لدراسة أحوال وتاريخ المغرب العربي أقطاراً ومدناً وقبائل.

وإذا ضربت صفحاً عن كتاب العبر، فإن كتابه الشهير المعروف بـ»المقدمة« يجذبني جذباً للإشارة والتلميح إليه هو الآخر ولو بقليل من الاختصار، وذلك أن المقدمة تعتبر مجمل تاريخ نادر فضلاً عن كونها مجلداً ضخماً وموسوعة لعلم من العلوم التي تهتم بالحياة البشرية.

وضع أساس علم الاجتماع..

ففي المقدمة الخلدونية تتجسد فلسفة وأسس علم الاجتماع، وبها حاز صاحبها قصب السبق في هذا الميدان لكونه قام بوضع أسس وقواعد هذا العلم، ومهّد الطريق للباحثين الذي أتوا من بعده، والذي يدرس المقدمة يتضح له بأن ابن خلدون كان يعيش قضايا العالم بكل ما تعني الكلمة من مفهوم الشمولية، كما كان من خلال مساهمته الفعالة في مجالات الفكر العالمي، وتنشيط المعارف الإنسانية، يقدم خدمات مفيدة للأمم والشعوب الناهضة المتطلعة نحو التطور والاتقاء، وذلك بفضل ما تركه من ثورة علمية.

والبحث في مسيرة حياة ابن خلدون يدلنا دلالات كثيرة عن مواقفه الإصلاحية. ولقد اشتغل بتحليل نفسية الفيلسوف الاجتماعي غير واحد من الأعلام والمؤرخين.

فلسفة التاريخ..

ومن الخصائص التي يتميز بها ابن خلدون عن غيره من المؤرخين هي كونه مؤرخاً ومفكراً، فلسفَ التاريخ، لأنه أدرك بأن حقيقة التاريخ تتجسم في كونه خبراً عن الاجتماع الإنساني، وهذا يعني إمعان النظر في أعمال البشر وصنعهم، ومنشآت الإنسان وتحاوره وتعايشه وعلاقاته مع بني الإنسان.

شخصية ابن خلدون

وفي وصف المؤرخين لشخصية ابن خلدون يتجلّى: بأنه كان واسع الاطلاع، غزير العلم، عميق الاستقراء والاستنتاج، كما كان قوي الحدس في التحليل والمقارنة، موفقاً في ضبط العلل والعوامل، وإقرار الأصول والأحكام والقواعد والأسس.

وانطلاقاً من هذه الخصائص والمميزات ظل ابن خلدون صورة ناصعة لأحوال البشر، وفي ذلك توضيح للمستوى الرفيع والتجربة الرائعة والتقدير الكبير لعظمة الحضارة الإسلامية، ودليل على اجتهادات العلماء وحرية الفكر.

مجدّد في التاريخ والأدب..

الدولة كما يراها ابن خلدون بناء طبيعي اضطراري لا مناص من نشأتها، وقد ركّز رأيه في سلطة الدولة، على أساس منهج صحيح استقصاه من تاريخ عصره، وتجاربه التي عايشها بممارسة الخبير الذي لا يغتر بالمظاهر، ولكن يؤمن بالحقائق والأبعاد، وكانت نظرته للآفاق المستقبلية تشير إلى أن العالم يسير بخطوات ديناميكية سريعة نحو التطور الاستمراري، وهكذا نجد بأن توقعاته كانت تؤكد بأن كل شيء تقريباً قابل للترقي.

بقدر ما امتازت به شخصيته من روح التجديد في علم التاريخ، بقدر ما هو مجدد كذلك في عالم الأدب.

ولقد قال عنه بعض الباحثين في آثاره ومواقفه الأدبية، بأنه يعتَبر في طليعة أدباء القرن الثامن الهجري، الذي حرر الأدب العربي من تحكّم البيان اللفظي، وأعتقه من أغلال السجع. لقد تمكن ابن خلدون بقلمه السيال وقوته المفكرة من النهوض بالأدب، وجعله حراً يضطلع برسالته في روية وإبداع وجمال الألفاظ، وبراعة التراكيب، وسبك المعاني المتوخاة التي يدور حملها على محور الإفادة ودقة التصوير، وفي كل أدب حي واقعي يساير الحياة ويندمج فيها ويتفاعل مع معطياتها.

إعجاب العلماء به..

نظراً لما أبدعه ابن خلدون من منهجية صائبة، فقد كان موضع إعجاب وتقدير الجميع في تلك الحقبة التي عاصرها، وقد تضاعف هذا الإعجاب عبر مسار التاريخ، استحوذ ابن خلدون على إعجاب الألمان، مثلما حظي بتقدير الكثرة من كل جهاب المعمورة في الشرق والغرب، ففي بعض الاستقراءات يتضح بأن اعجاب الألمان به جاء نتيجة تذوقهم لروعة أسلوبه وعمق تفكيره، واستوعبوا ذلك من خلال الترجمة التي قام بها المستشرق »فون هامار«، والتي تناول فيها الدراسة التحليلية لفلسفة ابن خلدون بخصوص المجتمع والعصبية والدولة، والتي تحدث فيها كذلك عن الاقتصار الاجتماعي، وانطلاقاً من هذه النظرية الخالدة، لم يخفِ علماء أوروبا وفلاسفتها إعجابهم واعترافاتهم بتفوق هذا الفيلسوف العربي المغربي، وقد سجلت عدة دراسات وأبحاث هذه الاعترافات على لسان كبار الكتاب والباحثين، من الذين اهتموا بدراسة التراث العلمي الأصيل، الذي خلفه ابن خلدون، والذي يؤكد جملة وتفصيلاً اجتهاداته المثالية.

عبقري بلا منازع..

لقد أجمع غير واحد من الأعلام بأن معالم العبقرية المبدعة متوفرة في شخصية ابن خلدون، وقد قال عن المستشرق ليفي بروفنسال: »إن صفات العبقرية عند صاحب المقدمة تتجلى في كونه أحرز قصب السبق في مجالات المعارف الإنسانية؛ مما جعله في مسار يثير نزعة المعاصرين له من المؤرخين، مسار حدد فيه لنفسه مكانته الخاصة المرموقة في مصاف العظماء، ذلك أن منهجيته في فن التاريخ تعكس نظرة مطلقة أهّلته لإدراك حقيقته الخفية ومعناه البعيد، وفي الوقت الذي ارتقى فيه الفكر الخلدوني إلى مستوى عال في فلسفة التاريخ، عكف بعض المؤرخين أمثال الطبري والمسعودي وابن الأثير وغيرهم على دراسة التاريخ على أساس أنه سجل للحوادث والوقائق،وهكذا يتجلى الفرق في الاجتهاد الخلدوني الذي انصبّ على اعتبار التاريخ كموضوع له صلة جوهرية بأعمال البشر ونشاطاتهم وأوضاعهم وأحوالهم في حياتهم واجتماعاتهم.

وفي هذا المجال قال ابن خلدون: »فأنشأتُ في التاريخ كتاباً، وأبديتُ فيه لأولية الدول عملاً وأسباباً.. وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكاً غريباً، واخترعتُه من بين المناحي مذهباً عجيباً، وطريقة مبتدعة وأسلوباً، وشرحت من أحوال التمدن والعمران، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية، وما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها«.

تمسكه بالطريقة التجريبية..

قال عنه بعض المحللين بأنه نفي عن نفسه التأثر بأرسطو والفارابي، بل ظهر في فكره المنهجي وبالأخص في مقدمته، بأنه يتمسك بالطريق التجريبية كما فعل ذلك كل من ابن رشد وابن الهيثم.

اتهام ابن خلدون بالتهجم على العرب..

قيل بأن التهجم على العرب المنسوب لابن خلدون يعزى في أساسه إلى تحريف وقع في بعض النصوص التي جاءت في المقدمة، وهذا التحريف مقصود من طرف بعض المتستشرقين الذين تجاهلوا المفهوم الحقيقي الذي تشير إليه تلك النصوص.

ومما جاء في بعض الآراء أن ابن خلدون كان يقصد باصطلاح »العرب« الإشارة إلى »البدو« أو »الأعراب« وليس مطلق الأمة العربية، ومن بين هذه الآراء رأي الدكتور علي عبد الواحد وافي الذي قال في بعض أبحاثه القيمة: »لو استعمل ابن خلدون كلمة »البدو« للدلالة على قبائل البدو والرّحّل بدلاً من كلمة العرب التي استخدمها في كل الحالات فأحدثت الالتباس، ذلك أن كلمة البداوة كثيراً ما تشير إلى الفطرة والكرم والنبل والشهامة، بينما كلمة العرب تؤول أحياناً إلى العربان، وهم قوم يتميزون بالشراسة وسوء الأخلال والجهل، كما تعني كلمة العرب الأعراب وهم قوم يتصفون بالغلظة والفظاظة، وإن كانوا فصحاء في لغتهم. وقد ورد في القرآن الكريم بشأن هذه الكلمة: (الأعرابُ أشدّ كفراً ونفاقاً وأجدرُ ألاّ يعلموا حدودَ ما أنزلَ اللهُ على رسولِه واللهُ عليمٌ حكيمٌ). [التوبة: 97].

ابن خلدون الفيلسوف..

قال عن الأستاذ »تياي« وهو من جنسية فرنسية، مارس تدريس الفلسفة في عدة جامعات عربية، من بينها تونس ومصر: »إن هذا المغربي الذي ولِد بتونس سنة 1332م من أسرة ذات أصل عربي، استوطنت الأندلس منذ بدء الفتح، ترك لنا تآليف قيمة، يمكن لنا أن نقول عنها: إنها لم تُثْر الآداب العربية وحدها، بل التراث الثقافي للإنسانية جمعاء، إن مؤسس علم الاجتماع (السوسيولوجية)، وباعث فلسفة اجتماعية جديدة، كما أنه المؤسس الحقيقي للمنهجية التاريخية. لقد توصل ابن خلدون إلى أن هناك فلسفتين: فلسفة أصيلة صحيحة، وفلسفة كاذبة غالطة، وهذا يعني أن ابن خلدون اهتدى قبل »كانت Kent « إلى التفكير النقدي الهادف إلى تحديد القواعد والمقاييس المنطقية لاستعمال العقل في البحوث الفلسفية، وانتقاداتها للتفكير الفلسفي الذي يتجاوز المقاصد الهادفة. إن كتاب المقدمة وكتاب العبر لابن خلدون عملٌ نادر ومجهود قيم موجه للناس جميعاً، لا لنخبة من المفكرين أو إلى جماعة محدودة من الفلاسفة. إن التاريخ كما يراه ابن خلدون فرع من الفلسفة، وعلم عقلي. وللتاريخ ظاهر وباطن، إذْ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار الأيام والدول والسوالف من القرون الأولى، تنمق لها الأقوال، وتصرف فيها الأمثال، وتطرق لها الأندية إذا غصّها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول الناطق فيها والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال«.

ويسترسل في تحليله للباطن التاريخي فيقول: »باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكانئات عميق، فهو لذلك أصل في الحكمة عريق، وجدير بأن يقيده في علومها وخليق«.

يتبع

الجزء الثاني