Slide Ads

Showing posts with label الحداثة. Show all posts
Showing posts with label الحداثة. Show all posts

Tuesday, June 23, 2009

نحو حداثة إسلامية بين روح الحداثة وواقع الحداثة

نحو حداثة إسلامية بين روح الحداثة وواقع الحداثة

عرفت موضوعة الحداثة نقاشاً واسعاً منذ القرن ال 19إلى اليوم، لكن المنتصف الأخير من القرن الماضي عرفت شيوعاً في مجالات معرفية متعددة من الأدب إلى الفلسفة من الاقتصاد إلى السياسة. إن هذا التعدد يعني تعدداً في المقاربات المعرفية والايدلوجية والتتبع للاصدارات في هذا الزمن بالضبط سيجد موضوعة (الحداثة) طاغية في عناوينها.

إن هذا التعدد يحيلنا إلى سؤال أساسي، يشكل في نظرنا مأزقاً في الفكر العربي المعاصر وهو هل استوعبنا درس الحداثة؟ أم أن الحداثة ظلت زئبقية كلما قبضنا عليها إلا وانسلت منا وبمعنى آخر هل استطاع الفكر العربي المعاصر الحسم مع التقليد لكونه نقيضاً مع الحداثة؟ أم لا زالت ثنائية التقليد والحداثة حبلا يكبلنا من كل الجهات. من هنا تتسع رقعة القراءات المضادة بين تعدد تعريف الحداثة وتوقع قرائها، اننا في بعض الأحيان لا نمتلك الجرأة الكاملة للتحرر من الاكراهات التي تضعها الحداثة في طريقنا لا عجب إذن أن تكون الحداثة بوصلة للتيه، أي الطريق سنختار؟ هنا أو هناك؟ أمام الضغط العالمي الهائل والكيفية التي بمقتضاها نحيا حداثة مفروضة علينا.

إن هالة الكيفية هي التي تطرح علينا اسئلة انطولوجية مستفزة من قبيل هل نحن حداثيون وبأي مقاس نقيس حداثتنا. ليس هذا القياس ممتعاً في مجالات معرفية محددة كالشعر والرواية والتشكيل والعلوم الإنسانية والعمران.. بل في تماس مع اليومي في العلاقات الاجتماعية في فضاء المدينة.. قد تكون هذه الأسئلة وغيرها مقرونة بارتباطنا العميق بالدين الإسلامي وقد تكون الحداثة شكلاً من أشكال (تعارض) بين قيمها وبين القيم الدينية. هذا التعارض هو ما يعالجه د. طه عبدالرحمن في كتابه "روح الحداثة. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية" الصادر عن المركز الثقافي العربي - بيروت - الدار البيضاء، الطبعة 8- 2006".

إن عنوان الكتاب يشكل عتبة لسؤالنا المفترض الذي طرحناه والمبني على تعارض مفترض والمؤسس لتصنيفات مفترضة كأن نقول حداثة أمريكية، حداثة فرنسية، حداثة يابانية.. وحداثة إسلامية وهل نستطيع ان نجزي الحداثة وفق الجغرافية والتاريخ؟ أم أن قيم الحداثة هي قيم كونية لا تقبل هذا التصنيف؟ إننا الآن - في قلب أطروحة د. طه عبدالرحمن. هذا المفكر المغربي المختص في علم المنطق وفلسفة اللغة والمعروف بنزوعه الصوفي وبسجاله المعلن والمضمر أحياناً مع د. حمد عابد الجابري تقول أطروحته والمصاغة بصيغة السؤال: "ما هي كيفيات تطبيق روح الحداثة في المجتمع المسلم وكيف تختلف عن وجوه تطبيق المجتمع الغربي لها" ص

32.إن هذا السؤال - الاطروحة هو العتبة الاولى من العنوان الفرعي من الكتاب أعني أن المؤلف واضح في استراتيجيته. لكن الملاحظ هنا هو حديثه عن المجتمع الإسلامي بدل المجتمع العربي أي انه يتحدث عن روح المجتمع ذاك باعتباره يستند إلى الروح الدينية المتمثلة في الإسلام. لن ندخل في الاختلافات الموجودة بين المجتمع الإسلامي والمجتمع الغربي بين الطريق إلى فهم التعارضات بينهما هو التأمل والتفكير في مفهوم الحداثة.

إن هذا التحديد عرف تعددا في ضبطه وضبط اسبابه التاريخية وغاياته فمنهم من يربط الحداثة بالتقدم الصناعي وسيادة التقنية وسيادة العقلانية وسيادة الذات ومنهم من يعتبر أن الحداثة هي قطع مع التقليد والنزوع نحو الجديد وآخرون اعتبروها قطعاً مع التراث ونزوعا نحو الديموقراطية وحقوق الإنسان والعقلانية والعلمانية.

لا يعير الباحث أي اهتمام بهالة التحديدات الأولية باعتبارها تحديدات تشييئة لذا سيضبط المفهوم من زاويتين اثنتين اولهما روح الحداثة وثانيهما واقع الحداثة، اما روح الحداثة فيحدد خصائصه في الأبعاد الثلاثة وهي: "مبدأ الرشد" و"مبدأ النقد" و"مبدأ الشمول"، اما المبدأ الاول فهو نقيض القصور (الاتباع) ويتميز بخاصيتين اساسيتين وهما الاستقلال أي الاستقلال من أية سلطة كيفما كانت نوعية هالة السلطة والابداع. اما المبدأ الثاني وهو نقيض الاعتقاد (أي التسليم بالشيء دون الاستدلال) ويفترض عنصرين اثنين وهما العقلنة والتفضيل. اما المبدأ الأخير فيفترض التوسع والتعميم.

أما واقع الحداثة فيعني به التطبيقات الممكنة لروحها في المجتمعات الغربية وهنا يخلص إلى (لا نعدو الصواب إذا قلنا بأن هذا للتطبيق الحداثي الخاص هو نفسه اتخذ في المجتمعات الغربية اشكالا مختلفة، حيث كانت لكل مجتمع حداثته الخاصة به) ص

30.إن الحداثة كما يؤكد الباحث ليست وليدة الغرب - كما يعتقد البعض - بل هي انجاز إنساني ساهمت فيه قفارات وثقافات اخرى لذا يحددها - أي الحداثة - بين حداثة داخلية وحداثة خارجية أي بين روح الحداثة وكيفيات تطبيقاتها وحينما نتحدث عن الروح فنحن نتحدث عن الاطار الخالص لمفهوم الحداثة. لا غرابة إذن أن يتوقف المجتمع الإسلامي بين هذين المستويين ليجد نفسه انه بعيد عن روح الحداثة.

المغرب - حسن إغلان

الحداثة العربية وتأويل نص الإسلام الديني

الحداثة العربية وتأويل نص الإسلام الديني

د أسامة عثمان | 29/4/1429

"يتناول هذا المقال تعامل حداثيين عرب مع النص الإسلامي الموحى به, بوصفه الكلي والإجمالي, ويلقي بعض الضوء على اختلافه عن التأويل الذي فعله المفسرون والفقهاء لنصوص تفصيلية معينة".


لم يكن حداثيو هذه الأيام هم أول من عمل على "عقلنة" النصوص, فقد سبقهم إليها في العصر الحديث جمال الدين الأفغاني, ومحمد عبده وأحمد لطفي السيد, فيما يعرف بالمدرسة العصرانية الحديثة التي تعلي من مكانة المعقول أمام المنقول, لكنها أُتبعت بأصوات أعلى في هذا الاتجاه, وأبعد.


تمثل ذلك في الحداثة العربية التي ترفض النظرة (الإستاتيكية) التي تفترض ثبات النموذج, أو مثاليته, وتنشغل بهاجس التطور والبحث الحثيث عن أشكال جديدة. برؤيةِ تضادٍ بين النص والواقع, ترى في الخصوصية والتشبث بالهوية وتمجيد الماضي انغلاقا على فكر واحد, وسببا لعدم الإثراء من الثقافات المعاصرة.وقد يكون هذا من الأسباب التي تدفع إلى الانزعاج من سطوة النص الذي ما زال ماثلا في البنيات السطحية العربية والعميقة, وإن بتفاوت.


وفي تناقض واضح مع المُنصاعِين إلى النص, الرافضين لجعله في مكان التبعية للمعقول, يدعو أولئك إلى الانكباب على قضايا الواقع ومستجداته والاطلاع على الثقافات الأخرى بفكر "عقلاني متنور". في وجه من يعتبرون الدين والوحي مصدرا للمعرفة المتعلقة بالحكم على الأفعال بالحسن أو القبح, المدح أو الذم, وبالتالي تحديد ما يسمح به, ويُحث عليه من الأفعال, وما يحظر ويعاقب عليه منها.


النص بين تأويلين:


يختلف مفهوم التأويل عند علماء الأصول والتفسير عن مفهومه لدى الحداثيين وما يريدونه منه, ففي حين يعني لدى الأوائل صرف الكلام عن ظاهره -لأسباب يفصلونها- إلى معنى يحتمله, ولا يقبلون أن يتطرق التأويل إلى النصوص الواضحة الدلالة التي تدل على المراد بنفس السماع, من غير تأمل, وعبارتهم المشهورة في هذا السياق تغني عن الإفاضة :" لا اجتهاد في مَوْرد نص." فإنه لدى الحداثيين العرب ينحو منحى عميقا يطال النص بالكلية ويصرفه عن وجهته السياسية والتشريعية إلى الوجهة "الروحية" أحيانا، ويجعل العقل المعاصر حَكَما عليه أحيانا أخرى.


في دوافع التأويل الحداثي:


في حين كان الفقهاء وعلماء الأصول والتفسير يؤولون لدواعٍ اجتهادية شرعية ولغوية؛ يحرصون بها على الاقتراب أكثر من مطلوب النص, فإن المحدثين يندفعون في الغالب بدوافع من خارج النص, أفرزتها معطيات الثقافة المعاصرة, وأثرت فيهم عوامل خارجية من قبيل الفجوة الحضارية التي تعاني منها البلاد العربية والهزائم العسكرية التي تُوجت بوقوع كثير من البلاد العربية تحت الاستعمار المباشر ؛ فالتبعية؛ ما أفضى إلى الاقتراب من مناهج الغرب, والخضوع لها أحيانا؛ فتعجَّل مثقفون ومفكرون عرب الحكمَ على التراث بالسلبية, بل تجاوزوه إلى النصوص, وحتى القطعيّة منها.


وكان من المفترض أن ينضاف المنحى التاريخي الاستقرائي... لقراءة المراحل التي بدأت فيها الأمة انحدارها, وهل كانت العلاقة بينها وبين مضامين تلك النصوص حينها على أحسن حال؟ وهل ثبت من الناحية الموضوعية تناقض المعالجات التي تدل عليها تلك النصوص للطبيعة الإنسانية المعاصرة, أم هي مناقضة, وهذا طبيعي , للنموذج الغربي, أو حلِّه المقترح؟


مثالان على التعامل الحداثي مع النص:


وكما أسلفت فقد حوَّل التأويل الحداثيُّ_ عند البعض_ النصَّ إلى الصفة الروحية, ويلمس هذا لدى الباحث التونسي العفيف الأخضر؛ إذ يقول, مثلا: "الألسنية تعلم النشء أن النص الديني هو تناص، أي ملتقى نصوص تلاقحت عبر التاريخ، وأن كل نصٍ قابلٌ للتأويل؛ لأنه نص مجازي؛ وهكذا يستطيع التلميذ والطالب أن يفكرا في النص المقدس بنفسيهما, وأن يؤولاه حسب مصالح وحاجات الناس ومتطلبات الحقبة التاريخية."(1) وهذا يعني أَنْسَنة النص التي تهدف إلى رفع عائق القداسة؛ ما يغيِّب نصيبا وافرا منه؛ لأن النص الإسلامي _ كما هو معروف_ يتناول القضايا المعيشية والاجتماعية والسياسية أكثر مما تفعل ديانات أخرى يقارب الكاتب النصَّ الإسلامي بها.


وفي حفرياته المعرفية في منظومة الفكر الإسلامي يميل الدكتور محمد عابد الجابري إلى تقديم المعقول على المنقول, مثنيا على نتاج ابن رشد الفلسفي في هذا المضمار, يقول: "إن الروح الرشدية يقبلها عصرنا؛ لأنها تلتقي مع روحه في أكثر من جانب، في العقلانية والواقعية والنظرة الأكسيومية والتعامل النقدي. تبنِّي الروح الرشدية يعني القطيعة مع السينوية (المشرقية) الغنوصية الظلامية."(2)


ويذهب الجابري, مناصرا، إلى كون ابن رشد قد تميز عن فلاسفة المشرق الذين ظلت فلسفتهم محكومة بإشكالية التوفيق بين الدين والفلسفة, بخلاف المغاربة الذين كان فكرهم الفلسفي أرسطيا محضا.(3)


ما يدل بوضوح على ذهابه إلى إعلاء الفلسفة على الشريعة, وتأويله النص الشرعي, فيما لو عارض البرهان الفلسفي.


ومن معالجات الجابري الدالة على قدر من الانتقائية والاحتكام إلى الإيديولوجيا المسبقة بحثُه في مرجعية الأخلاق إذ يذهب فيه الجابري إلى أن العقل هو الأساس في الحكم, لا الشرع, والمفارقة تكمن في طريقة تعامله مع النصوص الشرعية التي يريدها دليلا على مذهبه.


يستدل الجابري بأربعة, يقول إنها أحاديث, بالرغم من تلميحه القريب من التصريح؛إلى أنه لا يعرف مدى ثبوتها:" ومهما تكن درجة هذه الأحاديث من الصحة, فمضمونها العام لا يتناقض مع ما ورد في القرآن"(4)


وهي أقوال يستقيها من كتب الأدب, وكان الأَوْلَى بمقاربة المسألة أن يرجع إلى كتب الفقه وأصوله والحديث, أو أن لا يستعجل الاعتماد عليها قبل التحقق من ثبوتها, ولا سيما أن استدلاله بآيات القرآن الكريم ليس قاطعا ولا كافيا؛ لمَّا كان القائلون بتقديم النقل على العقل قادرين على فهمها على نحو مغاير؛ وهم واجدون في نصوص القرآن الصريحة ما يلزم المكلَّف بعرض المشكلات والمستجدات على النصوص التي تتضمن أحكاما, إما بالتصريح, أو بالاستدلال والاستنباط, بحسب معارف اللغة والشرع, وهي تشدد على أهمية هذا إلى درجة ربطه بالإيمان.


ومثالا على العلماء المفكرين الذين صرحوا بذلك ابن خلدون, إذ قال: " ... فإذا هدانا الشارع إلى مُدْرَك فينبغي أن نقدمه على مداركنا ونثق به دونها، ولا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل, ولو عارضه , بل نعتمد ما أمرنا به اعتقادا وعلما، ونسكت عما لم نفهم من ذلك, ونفوضه إلى الشارع ونعزل العقل عنه"(5)


ومن الجدير بالذكر أن هذا لا يعني إلغاءهم سلطان العقل وحُجيَّته، وهم يرون النصوص الشرعية نفسها تكثر من الدعوة إلى إعمال العقل للوصول إلى حقائق الإيمان، لكنها بعد حدوثه تدعو من آمن وسلَّم بصدق المُخْبِر الذي أوحى بتلك النصوص, تدعوه إلى أن يقدمها في الحكم ولا يقدم عليها وأن يعمل العقل في فهمها لا أن يؤولها لتتوافق وما يراه عقله، ولا سيما إذا كان ذلك العقل محكوما بمرجعيات مُبَاينة. وإذا كانت مدارس فقهية قد أقرت للعقل دورا فإنه الدور الذي لا يتصادم مع النص, أو يتفوق عليه، بل هو الذي يفهم مقاصده العامة, أو علله الخاصة؛ فيقيس عليها، وهو ما يطلقون عليه معقول النص.


وإذا جاوزنا استدلال الجابري بالنصوص إلى ملمح آخر في بحثه؛ فإننا نلحظ أن الفكر المسبق قد دفعه إلى تجاوز الظاهر ؛ ليصل إلى ما يراه إجماعا منعقدا على أن الأخلاق مرجعُها العقل لا النقل. يقتبس الجابري كلاما للماوردي,من كتابه " أدب الدين والدنيا" أُوُرده كما أَوْرَده ناظرا في تعقيبه عليه:" أسُّ الفضائل وينبوع الآداب هو العقل الذي جعله الله للدين أصلا وللدنيا عمادا؛ فأوجب التكليف بكماله, وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه وألّف بين خلقه مع اختلاف هممهم ومآربهم وتباين أغراضهم ومقاصدهم وجعل ما تعبدهم به قسمين قسما وجب بالعقل فوكَّده الشرع وقسما جاز في العقل فأوجبه الشرع؛ فكان العقل لهما عمادا".


ويفهم منه دون عناء أن الماوردي قد رأى أن حكم العقل مفتقر إلى حكم الشرع؛ ليؤكده؛ ويعطيه الشرعية, وهو ما يتفق مع النظرة الكلية للأشاعرة الذين يميل إليهم الماوردي فقد رأوا أن العقل يدرك الحسن, ويدرك القبح ولكن الحكم على الشيء بالحسن والقبح, وبالتالي كونه حلالا أو حراما هو للشرع وليس للعقل.(6)


ولكن الكاتب يَفهم من قول الماوردي الآنف الذكر غير ذلك؛ فيعقب عليه مباشرة: "إذن مرجع الأخلاق, وأساسها هو العقل بدون منازع بل كل ما لا يدخل في مجال ما تعبَّد الله به الناس, أي كل سلوك لم يُدْخله الشرع في العبادات والمعاملات الراجعة إليه فهو من مجال العقل وحده"(7).


وبالرغم من كون الجابري يورد في معرض البحث عن مرجعية الأخلاق الاختلاف في ذلك بين المعتزلة وأهل السنة الذين يورد رأيهم مقتضبا، وهم الذين يقولون بجلاء أن التحسين والتقبيح هو للشرع لا للعقل؛ فإنه بالرغم من ذلك يرى أن هناك إجماعا أو شبه إجماع في الثقافة العربية الإسلامية على أن العقل هو أساس الأخلاق!!


ولا يخفى أن مستوى البحث وكلية نتائجه وخطورتها كانت تستدعي ترويا وتحقيقا؛ لما يترتب عليه من تغييب لفاعلية قسم كبير من النصوص للأخذ بالمرجعية العقلية, ما يوجد قدرا مماثلا من البلبلة الفكرية وإرباكا واضحا لا ضمانات في الخلاص منه.


وللتأكيد فإن الفكر الإنساني لا يمكن أن يبدأ من الصفر؛ وليس التراكم الحضاري بدعا في ثقافات الأمم, وما زال حداثيون عرب يعتبرون أنفسهم استمرارا لأرسطو وبناءً عليه، وما زالوا يتحدثون عن راهنية نصوص فكرية أنتجت في الماضي ولا تضيرها الثقافة المتجددة بل تضيف إليها.


والرؤية لدى العفيف الأخضر والجابري تفضي إلى إسقاط النصوص تحت وطأة التأثر بمعطيات هي في أحيانٍ فكريةٌ مغلوطة, وفي أحيان أخرى غير فكرية أصلا إنما هي من قبيل التقدم العلمي والتقني التي أنتجها العقل الإنساني الكوني ولا تختص بالثقافة الغربية, بل ضاهتها فيها الاشتراكية حديثا وسبقتها الإسلامية غير ضائرها إفادتها من الإغريقية وغيرها كما لا يَضيرها اليوم الإفادة من الغرب وغيره. وتبقى الحاجة إلى بحث الفكر الذي تنطوي عليه النصوص الإسلامية_ على صعيده دون اجتزاء أو استباق_ ماسة.


_________________


(1) من " نص المداخلة التي قدمها الباحث التونسي العفيف الأخضر في "مؤتمر الحداثة والحداثة العربية الذي انعقد في بيروت بين 30 إبريل ، 2 مايو 2004.


(2) محمد عابد الجابري: نحن والتراث, قراءات في تراثنا الفلسفي، ط (1) دار الطليعة_بيروت، 1980؛ ص65.


(3) ينظر: الجابري: التراث والحداثة_ ط(1), مركز دراسات الوحدة العربية, 1991, ص: 328.


(4) الجابري: العقل الأخلاقي العربي_ ط(1) مركز الدراسات العربية, بيروت2001, ص: 101.


(5) عبد الرحمن بن خلدون- مقدمة ابن خلدون,دار ابن خلدون_ الإسكندرية.ص: 347.


(6) ينظر أبو يعلى الفراء الحنبلي: المعتمد في أصول الدين_ تحقيق: وديع زيدان حداد- دار المشرق_ بيروت1986_ ص: 21.


(7) الجابري: العقل الأخلاقي,ص: 117.

الحداثة وتجديد الفكر الديني

الحداثة وتجديد الفكر الديني

مهما كانت اتجاهاتها ومصادرها، تلتقي المقاربات والتأويلات المقترحة لتجديد الفكر الديني الإسلامي حول اعتقاد راسخ بأن هناك قطيعة عميقة بين الفكر الإسلامي والحداثة إن لم نقل، بالنسبة للبعض على الأقل، بين هذه الحداثة والدين الإسلامي نفسه. وإذا صحت مثل هذه الأطروحة فإن المجتمعات الإسلامية لن تستطيع الإفلات من المصير التراجيدي في الاختيار بين الحداثة المُستَلِبَة التي ترتكز على رفض الذات وبين هوية فاقدة لقيمتها تقود إلى الاستبعاد والتهميش. وفي هذه الحالة سيجد المسلمون أنفسهم محكومين، مهما فعلوا، بالفصام وعذاب الضمير.
فهل يشكل الإسلام بالفعل مزيجاً شمولياً بحيث إن الاعتقاد الديني لا يكون صحيحا ما لم يكن مرتبطا أيضا بالالتزام بأشكال خاصة من الفكر والسلوك السياسي والاقتصادي والاجتماعي النابعة منه بالضرورة والمؤكدة له؟ أم إن لدى الإسلام، على العكس، في بنيته العقائدية نفسها، إمكانية استيعاب المنطق العقلي الذي تتوقف على امتلاكه نجاعة أعمال الإنسان الدنيوية؟ كيف يمكن تفسير العجز التاريخي للمجتمعات العربية وما هو دور معتقداتها الدينية في ذلك؟ هل إن الإسلام هو الذي يمنع المجتمعات الإسلامية من التقدم على درب الحداثة، أم إن الحداثة، على العكس، بالشكل الذي تم فيه إدخالها وتطبيقها في معظم البلاد الإسلامية، أي كحداثة آلية وتقنية لا إنسانية؟ وما هي الأسباب التي تمنع الإسلام من التجدد اليوم إذا كان قد استطاع القيام بذلك فيما مضى؟
تكتسب الإجابة على هذه الأسئلة التي تطرحها مختلف المقاربات الحالية للإسلام أهمية كبيرة. فالأمر يتعلق هنا بتحديد دور ومكانة الإسلام في صوغ المستقبل الأخلاقي والفكري، وبالنتيجة التنظيم السياسي والاجتماعي، للمجتمعات المسلمة.
بعكس الأفكار الشائعة اليوم، لم يبق الإسلام جامداً طيلة أربعة عشر قرناً ويزيد، بل تعرض لتحولات عميقة، سواء كان ذلك على مستوى النظم العقائدية أو على مستوى الممارسات التاريخية السياسية والاقتصادية والثقافية. كذلك كانت التغيرات عميقة فيما يخص الفكر والمجتمع الإسلامي وجغرافيته السياسية وأنماط تنظيمه وشروط تطوره وأنماط إلهامه. وعلى الرغم من تأخرها الحضاري الواضح، لا تعيش المجتمعات الإسلامية في فضاء مغلق ولا خارج إطار زمانها. بل هي منغمسة تماماً في الحداثة، بإنجازاتها الإيجابية وآثارها السلبية معا.
لكن غياب التأسيس الفكري والأخلاقي لهذه الحداثة التي غزت المجتمع العربي كما غزت غيره من المجتمعات، وهو نتيجة هذا الانغماس الآلي وغير المفكر فيه في الحداثة، قد أفرغ الحداثة من قيمها الإنسانية، وقلصها إلى مكتسب تكنولوجي على حساب الحريات الأخلاقية والمدنية والسياسية. وهكذا فقد تحولت ولا تزال إلى تحديث لأدوات اضطهاد الإنسان في حين أن أصل شرعيتها كان تحريره.
فرضت الحداثة نفسها في الحقب الأولى في البلدان الإسلامية كنمط جديد من الاستهلاك المادي الذي يعني التفتح والازدهار. لكن سرعان ما انتهى بها الأمر إلى طريق مسدود. ففي الوقت الذي كانت قدرة الدولة على تلبية الحاجات المادية التي ولدها المجتمع العالمي تنهار، كانت آمال الشعوب وافتتانها بنمط جديد للحياة والحرية والكرامة تتأكد بقوة. ومن هنا تحولت الحداثة التقنية والآلية والمادية البحتة إلى وسيلة تجوف البشر وتفرغ حياتهم من المعنى وتدفعهم للحيرة والضياع. وما نعيشه اليوم في المجتمعات العربية لا يعبر عن مأزق الفكر الديني بقدر ما يشير إلى مأزق الحداثة: حداثة الآلة والتقنية والاستهلاك، حداثة بلا إنسان أو ضد الإنسان. فبقدر ما عجزت الحداثة عن تنمية وتشجيع الحريات الإنسانية فقد وجدت نفسها بالضرورة غير قادرة أيضا على استخدام التقنية وضبطها والسيطرة عليها. وبقدر ما حرمت الإنسان من الذاتية والشخصية بقيت هي نفسها من دون هوية.
ولا ينبغي للأزمة الراهنة التي أثارها تطرف الحركات الإسلامية الحديثة وعداؤها لقيم الحداثة أن يدفع إلى استنتاجات وتعميمات خاطئة لا أساس لها من الواقع. إن نشوء التطرفية الإسلامية ونموها لا يمكن أن يفهما هما أنفسهما من خارج سياق تكون هذه الحداثة المفقرة المخيبة للآمال، السالبة والمستلبة والمثيرة للتمرد والاحتجاج.
وعلى عكس الأفكار المتناقلة، ليست عطالة العقيدة الإسلامية ولا جمود العقل المسلم المفترض هما اللذان يفسران تأخر بنيات مجتمعاتنا الحديثة أو الطابع السوقي والآلي اللإإنساني للحداثة, وإنما الحداثة السالبة هي التي تفسر تعطيل الفكر الإسلامي وانعدام فرص تجديده في الاتجاه الصحيح. فبتخليها عن الإنسان ضميرا وفكرا وثقافة لم تدن هذه الحداثة نفسها بالفراغ الأخلاقي فحسب ولكنها حكمت على نفسها أكثر من ذلك بالتشوش والتنافر والفساد وجعلت من العودة إلى الدين المصدر الأول لاستعادة معنى الإنسان أو شبه المعنى، أي الملجأ الأخير للفكر والأخلاق. إن الأزمة التي يشهدها اليوم مشروع الحداثة العربي كما تجسده الأوضاع والنظم القانونية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية الراهنة، فكرا وممارسة على حد سواء، هي التي تفسّر، أكثر من أي مقاومة دينية أو موروث إسلامي مثالي ولا عقلاني، رفض الشعوب للسياسات التي فقدت الاعتبار والتي تعدّها وتطبقها نخب سائدة باسم الحداثة.
لا بد من أجل إعادة إطلاق الديناميكية التاريخية من إعادة تأسيس القيم المحرِّرة للإنسان. وليس هناك وسيلة لتحقيق ذلك إلا من خلال ممارسة النقد السياسي والأخلاقي والفكري. فبهذا الثمن يمكن أن يستعيد المسلمون هوية تشوشت أو يجددوا هوية هرمت وفقدت وعيها الذاتي لعلهم يستطيعون التعرف من خلالها على آليات الحداثة وبالتالي الارتقاء بممارستها وتطبيقها والسيطرة عليها. إن أي تقدم إنساني، أي أخلاقي بشكل أساسي، لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تقدم مسيرة الحداثة الإنسانية التي تخضع العقلانية الأداتية إلى حرية الوعي والضمير، والقومية إلى المواطنة، وسلطة الدولة إلى سلطة الأمة، والتضامن السياسي إلى احترام الكرامة الإنسانية.
من هنا فنحن نعتقد أن مستقبل الإسلام مرتبط بمستقبل مجتمعاته. وأن تجديد الفكر الإسلامي لن يكون بعد الآن، أعني في العصر الذي نعيش، إلا جزءا من تجديد الفكر الزمني التاريخي نفسه. وهو يفترض مقاربات ووسائل بحث وعمل أخرى غير تلك المستوحاة من النقد الكلاسيكي التاريخي والنصي للفكر الديني المسيحي أو اليهودي. أعني مقاربات مستوحاة من النقد الاجتماعي الذي ينظر إلى الدين عبر استخداماته الاجتماعية المختلفة والمكانة الفعلية التي يحتلها في نظم المجتمعات التي يتحرك فيها.
ولو دققنا النظر لوجدنا أن النقاش الدائر اليوم حول الإسلام ليس نقاشاً فكريا فقط يتعلق بتحديد القيم الأساسية التي تحكم مجتمعات المسلمين والغايات التي تقوم عليها مجتمعاتهم الحديثة. فهو سياسي أيضاً وربما بشكل أكبر. ذلك أن الحديث في الإسلام وتأويلاته المختلفة يرتبط اليوم ارتباطا وثيقا ببروز الحركات الإسلامية كفاعل جمعي سياسي يقترح على المجتمعات نمطا من الحكم ونموذجا من الإدارة والسلطة يقول إنه استمدها ويستمدها من مضمون الرسالة الإلهية ويسعى إلى فرضها على المجتمع كما لو كانت جزءا من العقيدة الدينية. ومن هذه الزاوية يتقاطع النقاش حول الإسلام وتأويلاته المختلفة مع النقاش حول التحول السياسي والخيارات المتعددة التي تقف في وجهه: القومية منها والديمقراطية والاستبدادية. لكن فيما وراء هذا وذاك ينطوي النقاش من حول الإسلام منذ 11 سبتمبر 2001 على بعد جيوسياسي وجيوستراتيجي حقيقي، لأنه أصبح جزءا من معادلة السياسة الدولية من جهة بعد أن تحول إلى فاعل دولي، في صورته المتطرفة أساسا ولكن في جميع صوره أيضا، ولأن التحولات داخل المجتمعات الإسلامية أصبحت أيضا أحد موضوعات السياسة الدولية الجديدة من جهة ثانية. وهذا ما أصبح يعطي للإسلام أو بالأحرى للنقاش حول الإسلام والصراع على تعريفه وتحديد قيمه الأساسية رهانات تتجاوز كثيرا البعد الديني والعبادي لتصب في معارك وطنية وإقليمية وحضارية تشكل اليوم جزءا من صراعات العولمة الكونية.
كيف يمكن الاتفاق في هذه الحال حول التأويلات الدينية من دون الاتفاق حول الغايات والقيم الأساسية التي سوف تحكم إعادة بناء المجتمعات الإسلامية المفككة أو اجتماعاتها السياسية ؟

وكيف يمكن تجديد الفكر الإسلامي الديني من دون تحرير الدين من الاستخدامات السياسية والاستراتيجية؟ وكيف يمكن فصل الرهانات الدينية عن الرهانات السياسية عن الرهانات الاستراتيجية مع استمرار انحلال الدولة واستمرار منطق الحرب الحضارية؟ وكيف يمكن بلورة وعي ديني جديد قائم على الممارسة الشخصية والخصوصية في الوقت الذي تفتقر فيه الحياة السياسية العربية والإسلامية إلى قيم الحرية الفردية واستقلال المبادرة الشخصية؟
لا يشكل الإسلام اليوم المصدر الأول لتكوين الوعي ولتربية الأفراد مع تراجع نفوذ وصدقية الثقافة الحديثة وعقائدياتها الاشتراكية والرأسمالية ولا المنتج الرئيسي لمشاعر الولاء والانتماء المكونة لجماعة فقدت أسس وجودها القومية في أكثر من مكان ولكن، أكثر من هذا وذاك، مصدر التضامن الروحي والسياسي الأساسي في مواجهة الضغوط السياسية والاستراتيجية والثقافية التي تتعرض لها المجتمعات الإسلامية في سياق العولمة والحرب الطاحنة الاقتصادية والاستراتيجية التي تثيرها في إطار البحث عن الهيمنة الدولية بين التكتلات العالمية. وكما سيكون من الصعب تجديد الفكر الديني من دون فصل الرهانات الروحية عن الرهانات السياسية سيكون من المستحيل تجديد الفكر السياسي وتحريره من النزعات المعادية للخارج وبالتالي من نزوعه لاستخدام التعبئة الدينية دون وضع حد للحرب الحضارية التي تعني قبل أي شيء آخر اليوم توسيع دائرة الضغوط المادية والمعنوية على المجتمعات الإسلامي

الحداثة وما بعد الحداثة تثبيت الأصول أم كسر النماذج؟

الحداثة وما بعد الحداثة

تثبيت الأصول أم كسر النماذج؟

سعيد المتدين

… كما أنه طالما وجدت كلمة "حداثة Modernisme" والبادئة التي تعني (ما بعد) "post" فمن الممكن أن يتحدث البعض عن "ما بعد الحداثة postmodernisme" كمفهوم جديد يعقب الحداثة في الزمان والمكان ويبحث عن كل ما يناقضها ليعلن صراحة عن أطروحته المركزية الضامنة لشرعيته الفلسفية، ألا وهي "موت الحداثة.

ظهرت فكرة الحداثة كمفهوم فضفاض وكمشروع ضخم ارتباطا بانطلاق العقلانية الغربية وتفاؤلها ونزعتها المركزية، فاقترنت بالتجليات الأساسية لانتصار العقل الأداتي وسلطته، مما أسفر عن جملة من المغالطات والتعسفات كانت أساسا لولوج الحداثة مرحلة الأزمة.

إن التأمل في ثوابت الحداثة من داخل إطارها المرجعي يفتح مجالا واسعا وخصبا من التساؤلات والإثارات النقدية التي تقف بوضوح شديد على مواضع الأزمة والقصور، وهذا ما يفسر كون الفكر الغربي عاد في المرحلة الثانية وهي مرحلة المراجعة والتصحيح إلى إخضاع المطلقات السابقة للنقد.

يعتبر التوجه النقدي جزءا من الوعي الحداثي وجانبا مهما من تفكير الحداثة، لذلك كانت الحداثة نقدا ذاتيا يسهم من زوايا متعددة في تصحيح المسار وتثبيت الأصول، ومن ثم فإن هذا النقد الذي تمارسه الحداثة على ذاتها ينطوي على خلفية أساسية تكمن في الدفاع عن مشروعها والوصول به إلى نقطة التوازن.

ويمكن اعتبار كتاب نقد الحداثة لعالم الاجتماع الفرنسي "آلان تورين" Alain Tourine جهدا نظريا بناءا في السعي إلى إصلاح الحداثة وتطعيمها، بحيث حاول "تورين" إنقاذ الحداثة مطالبا بالعودة إلى الأصول التي انطلقت منها كمرجعية أساسية لتصحيح مسارها الخاطئ الذي أدى إلى التوتر والأزمة. وقد طرح "آلان تورين" الحداثة كمخرج من الحداثة التي انكشفت عن أزمات كبرى(1).

لا شك إذن في أن النقد الذي توجهه تيارات الفكر الغربي لمسار الحداثة ومقوماتها هو بمثابة محاولة إصلاحية للحداثة التي تبقى في تجدد مستمر وسيرورة لا متناهية, إذ هي دائما ذلك المشروع الذي لم يكتمل بعد(2), والذي لا يمكنه أن يفتح آفاقا لأي مشروع آخر محتمل.

لقد عمل المفكرون على كسر حدود النهاية أمام تاريخ الحداثة ليصبح ذا سياق تقدمي لا متناهي، تتماهى فيه الحداثة مع أزماتها ليزيدها ذلك سندا وتأسيسا وخصوبة. فالأعمال النقدية التي تصدت لمشروع الحداثة الغربي بتشريحه وتفكيكه لم تخرج في أغلب الحالات عن مقترح ترسيخ مشروع الحداثة ذاته، مما جعل الحداثة تعني ذلك المسار المتواصل واللانهائي التواق إلى الجدة على الدوام. فهي إذن انفتاح على كل الفضاءات وإدماج لكل مستحدث وجديد ولا تكف عن التوسع والاحتواء. ولعل هذا ما يفسر تجردها عن كل تعريف محدد أو مستنفذ لتظل في النهاية مفهوما للحاضر والمستقبل معا.

ويبقى هذا الموقف تجاه الحداثة الغربية الذي بلوره جملة من المفكرين والفلاسفة أمثال: "هابرماس" و"ألان تورين" على جانب مهم من التفاؤل بمستقبل الحداثة. فإذا كانت أغلب التيارات التي أخضعت مشروع الحداثة الغربي للإجراء النقدي بهدف الحد من الأزمة والتوتر قد نجحت إلى حد ما في رد الاعتبار للحداثة، فإن الأزمة لم تنته رغم كل الجهود المبذولة بل إنها كما يقول "لوفيفر" لم تطرح بعد جميع نتائجها "وهي ستظل تستمر وتتعمق وتنتشر، كما أن عناصر جديدة ستحاول الدخول في خضمها وتعديلها، وفي النهاية فإن حقبة أخرى ستبدأ مع القرن الواحد والعشرين"(3).

إن موقف "هنري لوفيفر" يضعنا أما التساؤلات التالية: هل يمكن أن نرى في هذه الانتقادات التي أملتها الحداثة انعكاسا لفكر جديد أو لثقافة جديدة تحاول تجذير نقد الحداثة لإيجاد صيغ ملائمة تبرز وجودها كمهيمن جديد على الساحة الفكرية؟ وهل يمكن أن ينبثق من داخل الحداثة ذاتها وجه آخر لها سلبي، يكون إيذانا بنهايتها وإعلانا عن ميلاد مفهوم جديد يمثل آخر مسخ للحداثة؟

إن تتبع تاريخ الحداثة الغربية وإحالتها إلى بداياتها التأسيسية يقتضي –بمنطق التاريخ ذاته- نوعا من الصيرورة في سلسلة الأحداث يفضي إلى تجاوز ما. فالعصور تترى وتتوالى، والواقع يتغير ويتبدل، والفكر والمعرفة في تطور مطرد بحكم تطور العقل، لذلك فإن ما نعتبره، الآن، حديثا يعطي الانطباع بأنه سيصبح أنقاضا في الفترات اللاحقة. فكما أن للحداثة ما قبلها، ينبغي أن يكون لها ما بعدها، ثم إن البادئة "post" (ما بعد) في مصطلح "post modernisme" (ما بعد الحداثة) تفيد التجاوز والبعدية وتشير إلى تتابع زمني يأتي فيه واقع جديد ووضع جديد خلفا لآخر أصبح مستنفذا ومتجاوزا كما ورد في القواميس والموسوعات الغربية.

إن نقد الحداثة يقدم نقطة انطلاق هامة للحظة ما بعد الحداثة للمضي أشواطا بعيدة في تجذير هذا النقد وتعميقه، إذ لا يجري نقد الحداثة فقط بل نفيها وتدميرها. ومن تم يذهب "إيهاب حسن" إلى أن لحظة ما بعد الحداثة تمثل نوعا من الانفجار الذي سوف يؤدي بالحداثة وبعقلانيتها وموضوعاتها إلى التشتت إلى وحدات وقطع "pièces" ولهذا يظهر مفهوم ما بعد الحداثة كنبش في الأسس وكسر للقوالب وخروج على النماذج, بل إن ثمة تفجيرا للأشكال وتدميرا للأنساق على نحو خارق مدهش، وخروجا عن خط الصيرورة التاريخية في صورة طرح جديد يعتقد "جياني فاتيمو" بأنه يتم في شكل "الحدوث".

تنضبط ما بعد الحداثة إذن داخل خريطة مفاهيمية تقوم أساسا على النفي والتدمير والتجاوز والافتتان "بأخلاقيات الموت" والتحرر ودرامية النهاية. فعلى نفس الوتر تماما يحاول "فاتيمو" حصر ظاهرة ما بعد الحداثة على المستوى الفكري في عدد محدد من المبادئ والأسس وهي: موت الفن، وموت النزعة الإنسانية "humanisme", والعدمية، ونهاية التاريخ، وتجاوز الميتافيزيقا(4). ويستخدم "ميشل فوكو" و"جاك دريدا", وهما من البنيويين الجدد, عدة مصطلحات تتجلى فيها أوجه النفي ما بعد الحداثي بوضوح مثل: التفكيك (déconstruction)، والاختلاف (différence) والتشتيت (dispersion) واللااستمرارية (discontinunty).

وقد كان مجال التشييد والبناء (architecture) سباقا إلى هذا الاتجاه التدميري الذي رسمته ما بعد الحداثة. ففي عام (1949) ظهر مصطلح منازل ما بعد حداثية "post modern-house"(5) إيذانا باحتلال ما بعد الحداثة مكان المباني الحداثية, مستمدة هويتها من خلال إزاحتها لتخطيط المباني الحداثية، ولعل هدم المنازل الحداثية عام (1972) يؤخذ كمؤشر على نهاية الحداثة في البناء.

إننا أما فلسفتين، أو لنقل مفهومين فضفاضين كل منهما يجعل من نفي الآخر ومناهضته شرطا ضروريا لضمان شرعية الوجود. لقد تضمن خطاب ما بعد الحداثة نبذا صريحا لتقاليد الحداثة جاعلا من نهايتها أساسا لانطلاقه وتضخمه، إن عنصر جدته يمكن في "اللا" التي يعلنها ضد مشروع الحداثة الذي أصبح أنقاضا بالنسبة لما بعد الحداثة، وهذا ما نفهمه من مقولة باشلار: "ينبغي قبل كل شيء أن نعي كون الاختيار الجديد يقول "لا" للاختيار العتيق، ومن البين أنه بدون هذا الرفض لا يكون الأمر متعلقا باختيار جديد"(6).

وفي معرض الدفاع عن الشرعية والوجود, تنضبط الحداثة في صيرورة لا متناهية وتتجلى في مشروع لم يكتمل بعد، تنفلت من كل تحديد مفهومي نهائي, محاولة البحث في كل مرة عن أساسها المناسب والصيغة الملائمة لتبرير مسارها اللامحدود. فهي (أي الحداثة) تتمجد بانغلاقها لأنه سلاحها الوحيد ضد مفهوم جديد يمثل آخر مسخ لها وبداية لنهايتها. إن الحداثة ككل فلسفة "تطرح أسسها كأنها لا تقبل المساس، وتطرح حقائقها الأولى كأنها حقائق كلية وكاملة"(7).

أن تنتهي الحداثة أو لا تنتهي، أن تكون ما بعد الحداثة أو لا تكون، ثمة وضع جديد وأفكار جديدة، تحت اسم ما بعد الحداثة اقترحت نفسها كنفي وتجاوز لمشروع الحداثة الذي انبثق من الأزمة وشكل التشخيص العرضي لجملة من الأزمات. كما أنه طالما وجدت كلمة "حداثة Modernisme" والبادئة التي تعني (ما بعد) "post" فمن الممكن أن يتحدث البعض عن "ما بعد الحداثة postmodernisme" كمفهوم جديد يعقب الحداثة في الزمان والمكان ويبحث عن كل ما يناقضها ليعلن صراحة عن أطروحته المركزية الضامنة لشرعيته الفلسفية، ألا وهي "موت الحداثة"

هوامش

(1(1) Alain Touraine, Critique de la modernité. Ed. Fayard, Paris, 1992.

(2) Habermas Jurgen, Le discours philosophique de modernité, Ed. Gallimard, Paris, 1988.

(3) هنري لوفيفر، ما الحداثة، ترجمة: كاظم جهاد، دار ابن رشد للطباعة والنشر، 1983، ص29.

(4) Gianni Vattimo, The end of modernity, the Johns Hopkins university press, Baltimore, 1988.

(5) Elspeth Grahams. Post modernism and the social science, Mac Millan, London, 1992, p3.

(6) غاستون باشلار، فلسفة الرفض، ترجمة: خليل أحمد خليل، بيروت، دار الحداثة، الطبعة الأولى، ص12.

(7) نفس المرجع، ص10.

النساء ومخاض الحداثة

النساء ومخاض الحداثة



محمد سبيلا




الحداثة مبدئيا، فعل ذكوري بامتياز لأن المساهمات الأساسية في بناء الحداثة في صيغتها الكونية هي، على العموم، مساهمات ذكورية من طرف علماء ومستكشفين وفلاسفة... ولكن الحداثة - التي هي فعل ذكوري إلى حد كبير - هي مع ذلك أكثر الأفعال الذكورية أنثوية. هذا الفعل الحداثي الذي هو فعل ذكوري، هو أولا فعل تحرير، وطاقة تحريرية، لأن القيمة الأساسية للحداثة هي الحرية والفردية، قيمة الفرد وقيمة الفكر الحر الشخصي. أولا الحرية، ثانيا قيمة الفرد: هذه هي الأقانيم الأساسية للحداثة الأم.

الحداثة هي إسهام بشري في تحرير الإنسان، بالكشف عن أسرار الطبيعية، ومحاولة الحد من مخاطرها، ومحاولة تطوير قدرات الإنسان ما يزيد من حرية الأفراد والمجتمعات ومن قدرتها على الفعل. والحداثة هي أيضا تحرير للشعوب (حق السيادة والمشاركة السياسية)، وللأفراد وللفئات اقتصاديا وسياسيا وفكريا. في هذا الإطار تندرج قضية المرأة بمعنى أن المفهوم النسائي مرتبط بتحرير فئات اجتماعية معينة كالنساء. لقد ساهمت الحداثة في تحرير فئات اجتماعية بعينها كفئة العبيد، كما ساهمت في تبلور كيانات وفئات اجتماعية معينة من بينها النساء والأطفال.

إذا كانت الحداثة أولا طاقة تحررية ومشروعا تحرريا للأفراد والشعوب والفئات (العبيد، النساء...) فهي ثانيا طاقة استكشافية ومعرفية. فالحداثة مرتبطة بتطور العلم وبتطور المعرفة أي باستكشاف الطبيعة والفهم الموضوعي لنظامها وقوانينها، أي الفهم غير الأسطوري وغير الخرافي لها، أي تطهيرها من زوائدها لمعرفة آلياتها والتعرف عليها كما هي، والانتقال من الفهم الغائي أو السحري للطبيعة إلى فهم القوانين التي تحكمها ووصف التفاعلات التي تحدث فيها. هذا الجانب المعرفي للحداثة هو جانب استكشافي أي محاولة فهم آليات الطبيعة لتسخيرها لصالح الإنسان.

ثالثا: الحداثة طاقة تعبوية بمعنى أنها تعبئة الموارد البشرية وتحرير الناس وتحويلهم من كم مهمل ومن أفراد لاقيمة ولا فاعلية لهم إلى أفراد لهم أولا كامل الحق الإنساني بمعنى الاعتراف بالمساواة الصورية المطلقة، المساواة القانونية المطلقة بما يعني إلغاء الاستثناءات، أي استثناء فئات بشرية بعينها إما عرقية او لغوية او دينية، واعتبار كل البشر متساوين وبالتالي التعبئة القصوى للموارد البشرية ثم تعبئة للطاقات والإمكانات والقدرات التي يتوفر عليها الناس، من حيث هم كائنات متساوية القيمة بغض النظر عن الدين أو العرق أو النوع.

إذاً هناك خصوصية في علاقة الحداثة بالمسألة النسائية. لا جدال في أن تاريخنا مليء بسلوكات وبتقاليد ثقافية تحط من قيمة المرأة سواء في تاريخنا المحلي أو القومي أو الديني. لكننا نجد كذلك في تراثنا الإسلامي العديد من النقاط المضيئة سواء في القرآن الكريم أو السيرة النبوية أو حتى في بعض الاجتهادات التي قدمها العديد من الفقهاء. ولكن ما حدث مع الأسف أن هذه الطاقة التحريرية التي جاء بها الإسلام في إشعاعه الأول في اعتبار النساء شقائق الرجال، وفي الحد من تعدد الزوجات، هذه الإشراقات التحررية بدأت تخبو مع الزمان، بخاصة في عصور الانحطاط التي تغلبت فيها ثقافات الضواحي وثقافات المناطق الصحراوية المتخلفة في العالم الإسلامي. وربما كانت الوليمة النفطية هي ذروة اشعاع هذه الرؤى التي تعود إلى عصور الانحطاط حيث اندغم نوع من الفكر الأسيوي أو التقاليد البدائية الأسيوية مع فكر بدوي أو صحراوي... يحط من قيمة المرأة.

وهكذا وجدنا أنفسنا في العقود الأخيرة أمام عودة وحضور قوي وكاسح لذلك الجانب القدحي والتنقيصي في تصور المرأة ومعاملتها سواء باعتبارها كائنا ناقصا نقصا بيولوجيا، أو عقديا، أو معرفيا أو أي شكل من أشكال النقص، حيث عادت هذه الثقافة التحقيرية للمرأة لتنتشر في العقود الأخيرة على نطاق واسع وذلك بتوازٍ وتلازمٍ مع شيوع "الفكر" التحريمي الذي يتخذ مواقف متشددة ومحافظة تجاه كل مظاهر التحديث، ويفهم التراث الروحي والدين فهما متحجرا مضادا للتطور.

كمثال على ذلك، هنا أورد كتابا مشهورا لابن باز، بعنوان "من منكرات الأفراح والأعراس" وفيه الكثير من المواقف المتشددة تجاه المرأة التي تشكل دستورا للفكر التحريمي.

وهذا الكتاب ليس مجرد كتاب عادي لأن صاحبه كان مفتيا ومؤثرا وكان من صناع السياسة الدينية في المملكة العربية السعودية لعقود عدة والتي كانت تضخ بملايين الكتب وآلاف الجرائد والمجلات وعشرات القنوات الفضائية.

لابن باز هذا الكثير من الفتاوي التحريمية من أشهرها فتوى تحريم التلفاز. وهذا الكتاب نموذج للفكر التحريمي، إذ فيه يحرم على المرأة: السفر وحيدة أو بدون محرم ـ وزيارة الطبيب الذكر ـ وارتداء الملابس العصرية ـ استعمال موانع الحمل ـ رفع الصوت أمام الرجل ـ السلام باليد على الرجال ـ قيادة السيارة ـ تصوير الوجه ـ الاختلاط ـ شهر العسل ـ رؤية الخطيب ـ خاتم الخطوبة ـ الجلوس مع الخطيب على المنصة أو الهودج (العمارية) ـ الوقوف في الشرفة ـ المشي وسط الطريق ـ الالتفات إلى الوراء ـ إظهار القدم أو الظفر...إلخ.

لكي نفهم الدور التحريري للحداثة يجب أن ننتبه إلى رسوخ هذا الفكر وقوته وهو الفكر المتشدد التحريمي الذي أقل ما يقال عنه أنه يطمس صورة أخرى مضيئة موجودة في تراثنا وفي تاريخنا الإسلامي وحتى في بعض ممارساتنا الاجتماعية في هذا القطر أو ذاك.

إذاً الحداثة كطاقة تحريرية للعديد من الفئات الاجتماعية وللنساء بخاصة، تقدم للمرأة مجموعة هدايا. فكر الحداثة يعيد للمرأة قيمتها ككائن إنساني مساوٍ للرجل، ويعيد لها كرامتها وحقها الكامل في الإنسانية، ويمنحها حق المساواة في المواطنة، ويحولها من موضوع إلى ذات فاعلة مسؤولة وحرة.

ولكي لا أذهب بعيدا في التحليل أقف عند نموذج التحرر الذي تعيشه المرأة في المغرب اليوم، الذي هو المدونة التي تمثل إلى حد ما قدرة توفيقية كبرى بين ما في تراثنا من تحرر كامن ومن قدرة على التطور وبين الأفكار الحداثية وذلك عندما تتوفر الإرادة السياسية التي هي تعبير عن إرادة المجتمع وإصغاء لرغبة المجتمع في التطور. فمع توفر الإرادة السياسية يصبح التعارض بين الحداثة والتقليد مسألة قابلة للتجاوز.

عندما يريد مجتمع ما أن يتطور فإن بالإمكان القيام بذلك إذا ما توافر شرط تهيؤ نخب قانونية وسياسية ومثقفة وفكرية... بغض النظر عن رمزية المدونة كتعبير عن قدرة المجتمع على تخطي إشكال التعارض الممكن والمتخيل، الواقعي والمفتعل بين التراث والحداثة فإن بالإمكان القيام بذلك شريطة توفر إرادة التطور لدى كل الأطراف الفاعلة في المجتمع. "مدونة الأسرة" الجديدة إذاً نموذج لإعادة استرجاع حقوق المرأة (الولاية والطلاق والنفقة والملكية العائلية المشتركة...). المدونة التي هي توفيق إيجابي ونموذج لنص قانوني تتفاعل فيه بشكل قوي مقومات مستنيرة في تراثنا وروح التحديث والتجديد، بل لها في العمق ثورة ثقافية صامتة.

وفي الفترة الأخيرة بدأنا نشاهد نوعا من التباري في القضية النسائية. بدأنا نسمع في العالم العربي اجتهادات حيث تتوسع في حقوق المرأة وحريتها فقد صرح الدكتور حسن الترابي اخيرا أنه من الضروري أن نفكر في إطار إسلامي بالتخلص من الثقافة التقليدية للفقهاء التي أغلقت الباب على التطور ودعا إلى التفكير بجد في مسألة حق المسلمة في التزوج من الكتابيين والدفع بمساواة المرأة مع الرجل في الإمامة والإرث وغيرها. هذا يدل على أنه في العقود الأخيرة ظهرت هنا وهناك في العالم العربي دينامية فكرية لتحديث المرأة كانت المدونة المغربية إحدى أبرز معالمها.

الفكر التحديثي هو فكر تحريري للمرأة في العديد من المجالات وإقرار لحقوقها هو فكر حقوق وفكر حريات، ولكنه أيضا فكر لتحرير الرجل ولتحرير المجتمع من النظرة الاختزالية للمرأة في قضية الجنس أو في قضية الإنجاب إلى غير ذلك، وبالتالي فهو دعوة للانتقال بالمرأة إلى درجة الإنسانية. مسألة تحرر المرأة ليست عملا تلقائيا بسيطا وميكانيكيا بل هو مخاض عسير يضرب بجذوره في المجتمع لأنه يتعلق بنظام الأسرة والنظام الاجتماعي والنظام السياسي. مسألة تحرر أو تحرير النساء هي مسألة سهلة على مستوى الخطاب والكلام لأن الأمر لا يتعلق بأفكار وتصورات فقط بل ببنيات اجتماعية راسخة منذ قرون عدة. ونحن نتحدث عن بنيات اجتماعية بالمعنى السوسيولوجي، أي عن قوالب وقواعد متوارثة عبر قرون وستستمر قرونا. وهذه البنيات قوية ومتينة وراسخة ولها ميكانيزمات للدفاع عن نفسها. إنها بنيات موضوعية مترسخة ومتجذرة في البناء الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية والتقاليد الثقافية.

إن الحداثة النسائية مخاض عسير لأن النظام الاجتماعي التقليدي ليس شاشة سلبية تتلقى التأثير من الخارج وتتقبله، بل إن التغيير يمر عبر شبكات التراث الفكري والاجتماعي والعائلي... وهذا التراث الفكري والاجتماعي يفرز مقاومات وآليات مضادة لا على مستوى الرأي والفكر واللغة بل أيضا على مستوى الميكانيزمات الاجتماعية، والعادات والتقاليد والقيم التي تكرر نفسها عبر الأجيال والقرون.

هناك مستوى آخر من مستويات مناهضة التحديث ويتمثل في تعبئة النساء أنفسهن ضد الحداثة. وهذا مستوى آخر من مستويات مقاومة الحداثة قد يكون أخطر شكل من أشكال مقاومة تحديث المرأة، لأن العبودية الطوعية أكثر مشروعية وحلاوة من العبودية الإكراهية.

وهذه المسألة صعبة التحليل لأنها ترجع إلى رسوخ هذه البنيات وتجذر ثقافة الدونية وتحقير المرأة. وهكذا يحصل نوع من التماهي اللاشعوري مع الصورة السلبية، أو التوحد اللاواعي مع الغريم. هذه المقاومات هي جزء من الصراع بين آليات التحديث التي هي آلية موضوعية بالدرجة الأولى وبين الإفرازات التي يفرزها المجتمع في مقاومة التحديث الكاسح. وربما كانت مسألة تعبئة النساء ضد تحررهن أو ضد ثقافة التحرر هي أخطر أنواع التبعية أو الدونية لأنها تكرس الدونية الطوعية التي يراد لها أن تنبثق تلقائيا من نفس الجسم الاجتماعي المروَّض.

مخاض الحداثة طويل وعسير لأن الحداثة ليست فعلا تلقائيا وسهلا بل هي مخاض صراع وجدل وأخد ورد بين مكونات المجتمع المختلفة. وهذا المخاض العسير يتطلب مجموعة شروط حتى يؤدي إلى نتائج محددة، أولها ضرورة تبلور وعي ذاتي نسائي: وعي ذاتي منبثق من النساء أنفسهن من حيث أنهن المعنيات والمعانيات للاحتقار والدونية... في الشارع في البيت وفي كل الأماكن. إذاً شرط المعاناة شرط أساسي. هناك قناعات فكرية لدى نخب مثقفة تحديثية ربما كان لها الفضل في إثارة مسألة تحرير المرأة ولكن إذا قارناه بالوعي التلقائي النسائي المنبثق من رحم المعاناة يتبين أن الوعي الذاتي يعكس معاناة وجودية مفعمة بالألم.

فمسألة التحرر تتطلب وعيا نسائيا ذاتيا وتحالفا مع الفئات المستنيرة في المجتمع والمتطلعة للمستقبل، والمؤمنة بضرورة تحرير المرأة. مسألة الوعي هي مسألة معرفة ومسألة ضمير نسوي. إن الوعي بمسألة تحرير المرأة لا يمكن أن يتم فقط من خلال نضالات المرأة ولكن بالتنسيق مع القوى الاجتماعية والقوى السياسية التي تؤمن بهذا التحرر سواء تعلق الأمر بالدولة أو الأحزاب. إذاً لابد من اندراج النضال النسائي في إطار هذه الفئات والإرادات السياسية التحررية.

لكن لابد من إثارة الانتباه هنا إلى أن مسألة تحرير المرأة قد تعرضت ـ مثلها في ذلك مثل جل القضايا السياسية ـ لتكييف فكري وفئوي قانوني وحقوقي. بل إن الوعي النسائي اتخذ في كثير من الأحيان صورة وعي قانوني وحقوقي. وهذا أمر ضروري كما أن الحقبة القانونية أساسية لكن الوعي الثقافي أعمق، وهو ضروري ولا محيد عنه لأن المسألة النسائية مرتبطة بإيديولوجيا المجتمع، بوعيه وبلا وعيه وبثقافته العميقة.

نعم إن الوعي الحقوقي ضروري لكن إذا لم تكن لديه مرتكزات ورؤية ثقافية فسيكون نضالا سطحيا ووعيا سطحيا لأن هناك ضرورة ارتباط النضال النسائي بمسألة المناخ الثقافي والبعد الثقافي. الشرط الثقافي شرط أساسي في مسألة تحرر المرأة.

لقد أصبحت مسألة تحرر المرأة اليوم رهاناً أساسيا في تطور المجتمع، في عصر العولمة أي في عالم هو حلبة تباري بين الأمم من أجل التحديث وتحقيق التقدم. والمسألة النسائية تقع كميا وكيفيا في صلب التحديث. مسألة التحدي والتباري الحضاري تجعل المسألة النسائية ضرورة تاريخية لإمكان نجاح المجتمع في استدراك التأخر التاريخي العميق والطويل. إذا كان هذا المجتمع يريد أن يتطور، ويواكب عصره، وينفض عنه غبار التاريخ.

الليبراليون الجدد.. في حِقبة ما ( تحت ) الحداثة!

الليبرالية والحداثة من أعقد المصطلحات على التعريف والضبط المنطقي، ولكنها عند التناول والاستعمال تتشكّل وحدة معرفية يتضح منها المقصود العام عند الإطلاق. فالليبرالية -بشكل عام- كلمة مترجمة من الإنجليزية يقصد بها الحرية المطلقة في الميدانَيْن: الاقتصادي والسياسي، ثم انسحب ذلك على الميادين الأخرى: الفكرية والاجتماعية والدينية. (1)

أما مصطلح الحداثة فالاختلاف في تحديد مفهومه مازال قائماً ومعقداً عند الكثير من مفكري الغرب المعاصرين.
فالحداثة بتعبير ( بيتربروكر) كان بناءً على ما قامت أركانه بعد وقوع الحدث نفسه، فاستخدام اللفظ وشيوعه كان حديثاً ومحصوراً بالحقل الأدبي، فأصبحت تطلق على التجديد كأداة للإبداع الأدبي والرؤى المبتكرة ثم انسحبت أيضاً لتشمل المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها, فالحداثة وعي جديد، وهي شرطٌ تمكن الغرب من تحقيقه وإنجازه وأحياناً تفاعل ضده من أجل تقويضه وإلغائه. (2)
وقد عبَّر عنها الدكتور الغذامي بـ"التجديد الواعي" بمعنى تحديث النسق الذهني ليكوّن وعياً شاملاً للتاريخ وللواقع. (3)
والناظر في واقع الفكر الليبرالي الذي تَبَنّى الحداثة بجميع إشكالها قد حقق انتشاراً واسعاً في العالم كله خلال العقود الماضية، واخترق المعسكر الشيوعي، وضرب معوله في جدار برلين ليعلن السقوط الكلي للفكر الاشتراكي في الغرب.

أما عالمنا العربي فنتيجة للامتداد الفكري والسياسي مع الغرب فقد تبنت منه الكثير من مجتمعاتنا العربية الليبرالية الرأسمالية والسياسة الديمقراطية على غرار بقية فريق الشمال الأبيض، ولم تكن هناك قناعة تامة بهذا الانتماء الفكري لليبرالية عند كثير من أبناء تلك الشعوب بعكس القليل من النخب المثقفة فيها.
وتمت من أجل ذلك محاولات كثيرة لمسخ الهوية الدينية والقومية وإرغام تلك المجتمعات بتبني ثقافة الحداثة على النمط الغربي وتسيسها بالفكر الديمقراطي مما أنتج مع تراكمات الزمن وتسلط المستعمر أشكالاً متطرفة من الأصولية القومية إلى الليبرالية المتطرفة إلى العنف الإسلامي مما كلّف الأمة المزيد من المعانات والويلات الطويلة والمؤلمة جرّاء ذلك الانفصام النكد لشخصية الأمة وموروثها الديني، والذي مازلنا نعاني من إفرازاته السلبية إلى وقتنا المعاصر.
ومع أن استيعاب نخبنا المثقفة للفكر الحداثي كان بطيئاً ومتأخراً, فإنها لم تكد تضع أقدامها على درجته حتى أضحى العالم الغربي ينقد فكره الليبرالي ويودع حداثته التقليدية وينسلخ منها إلى ما أصطلح عليه فلسفياً بـ"ما بعد الحداثة"..

وعوداً إلى عنوان المقال الذي أخصّ فيه الليبراليين العرب الجدد، كتيار حديث ظهر مع بداية عقد التسعينيات الميلادية كتوجه جديد برز على الساحة السياسية والاقتصادية والفكرية متزامناً مع أزمات المنطقة والتدخل الأجنبي في شؤونها، فقد أخذ بعد ذلك أهميةً قصوى في الدوائر السياسية الغربية خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سمبتبر2001م.
إن النشأة الفكرية لهذا التيار تكوّنت أثناء السجال الأيديولوجي بين فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة، بينما يصف برهان غليون الحالة المعاصرة لمجتمعاتنا العربية وسياساتها الحداثية بأنها أشبه إلى كونها مجتمعات (ما تحت الحداثة) لا ( ما بعد الحداثة) يقول في هذا الصدد: "إن ما تحت الحداثة لا تعنى الخروج من الحداثة، ولكن فقط الانحطاط في هذه الحداثه. فكما تدفع أزمة الحداثة المجتمعات النامية أو المهمشة إلى نكوص لأفراد نحو قيم وتقاليد وأنماط من التفكير وأساليب من العمل تكاد تكون ما قبل حداثية، أي سابقة على الثورات الأساسية التي شكلّت قيم الحداثة، تدفع الأزمة ذاتها الأفراد في المجتمعات التي لا تزال أمامها آفاقاً مفتوحة إلى التطلع إلى تحقيق حريات وحقوق ومتعات تجاوز ما أتاحته حتى الآن قيم الحداثة الكلاسيكية." (4)

إن هذه الحالة الرثّة من الحداثة كما يقول غليون تعود بنا إلى استخدام أدوات تفكير القرون الوسطى من أجل تنظيم مجتمع حديث أو يعيش على الأقل في العصر الحديث.(5)
فالأصوات بدأت تعلو بشكل كبير في نقد الحداثة الغربية وتهميش ذلك الإله الذي قُدِّس في كثير من مجتمعات العالم. بعد أن اشتعلت جذوة النقد من كبار فلاسفة الغرب ,أمثال: الفيلسوف الفرنسي ( ليونار) في كتابه الشهير ( الظرف ما بعد الحداثي ) حيث قدم نقداً عنيفاً لمشروع الحداثة الغربي. غير أن الفيلسوف الألماني ( هابرماس) ذهب إلى أبعد من ذلك بزعمه أن الحداثة نفسها لم يكتمل مشروعها بعد. وعزّز هذا النقد للحداثة الغربية وأجنحتها السياسية والعسكرية ما كتبة (جاك دريدا) و( وميشيل فوكو) وغيرهما في بيان مهازل الديمقراطية وتناقضاتها الكثيرة.

يلخصّ الدكتور عبدالوهاب المسيري فلسفة (ما بعد الحداثة) بأنها تجرُّدٌ من العقلانية المادية؛ فلا تعرف البطولة ولا تعرف المأساة ولا الملهاة، فلسفة تدرك حتمية التفكيك الكامل والسيولة الشاملة، إذ يتم التوصل إلى أن كل شيء نسبي مادي، وأن الفلسفة الإنسانية وهم، وأن الاستنارة المضيئة حلم وعبث، وأن الواقع في حالة سيولة حركية مثل المادة الأولى، وأن ليس ثمّة ذات إنسانية متماسكة ثابتة، ولا موضع طبيعي مادي ثابت ومتماسك، فهذه كلها مجرد تقاليد لغوية وعادات فكرية وصور مجازية وحتى إن وجُدت الذات ووجد الموضوع فلن يتفاعلا، إذ لا توجد لغة للتواصل أو التفاعل. فالنسق الفلسفي الغربي العلماني يمر في مرحلة عجز كبير في الإجابة عن الأسئلة المصيرية الباعثة على القلق الإنساني بعد إجهاده عبر مسيرة تطوره الحضاري. (6)
إن الليبراليين العرب الجدد أمام هذا الجدل الواسع في مفاهيم الحداثة والليبرالية لم يحصل لهم تغيّرٌ يُذكر في جدوى القيم الفلسفية لنهضتهم الإصلاحية لأن غلبة الشعارات الدعائية على (7) مجمل أطروحاتهم لا يعنيهم مصداقيتها في أرض الواقع أو السعي لتحقيقها في المستقبل مادامت القبلة والوجهة والمصلحة غربية المصدر والمآل.(8)

ومع كل هذا الإخلاص والتفاني لليبرالية والحداثة الغربية -حتى ما أصبح منها بالياً ومتهالكاً- وقعت الكثير من الصور والحالات المتناقضة والمتباينة لأولئك الليبراليين أمام محك الأحداث الكبرى التي تمرّ بها المنطقة العربية, والمتأمل لدورهم في المرحلة القادمة يجد أن هناك خطوطاً مشتركة تقوم عليها سياستهم المقبلة، لخصّها د.شاكر النابلسي في خمسٍ وعشرين قاعدة كما جاء في مقال له بعنوان: "من هم الليبراليون العرب الجدد؟ وما خطابهم؟" (9). وقد بيّن أن هذا الجيل الجديد من الليبراليين هم امتداد لأفكار التنوير الذين جاؤوا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وأبناء الفكر الليبرالي الذين جاؤوا في النصف الثاني من القرن العشرين. ثم وضع مبادئ هذا الجيل التنويري بما أسماه "مسودة أولى لمانفستو الليبراليين الجدد".

ومن خلال التأمل في هذه المبادئ الخمسة والعشرين وتحليلها نجد أن أغلبها مرتكز على موقف عدائي من الدين والتراث والتاريخ الماضي للأمة! فمن المبدأ الأول حتى الحادي عشر ومن الخامس عشر حتى التاسع عشر تركزت مبادئ تلك العريضة على الدعوة إلى محاربة الإرهاب الديني والقومي والمطالبة بإصرار لإصلاح التعليم الديني الظلامي, والتأكيد على إخضاع المقدس والتراث للنقد العقلي والعلمي وعدم الاستعانة مطلقاً بالمواقف الدينية التي جاءت في الكتاب المقدس تجاه الآخرين، واعتبار الأحكام الشرعية خاصة بزمانها ومكانها وأن الفكر الديني حجر عثرة أمام الفكر الحرّ وتطوره, والتأكيد على نبذ الولاء للماضي أو الانغلاق عليه وأنه السبب الحقيقي لضعفنا وانحطاطنا، كما ينبغي الاحتكام إلى القوانين المعاصرة لا إلى التخيلات الماضوية أو الأساطير الظلامية!.
كما نصت المبادئ الأخرى ( الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر) على ضرورة سيادة العقل وطرح الأسئلة على كافة المستويات كما طرحها تنويريو القرن الماضي، وتبني الحداثة العربية تبنياً كاملاً باعتبارها هي التي تقود إلى الحرية.

أما بقية المبادئ الأخرى من (العشرين حتى الخامس والعشرين) فقد ركزّت على قضايا السياسة والمجتمع وذلك بالتأكيد على عدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الديكتاتوريات العاتية واستئصال جرثومة الاستبداد وتطبيق الديمقراطية العربية، كما لا يمنع أن يأتي الإصلاح من الخارج ولو على ظهر دبابة بريطانية أو بارجة أمريكية أو غواصة فرنسية مع تأكيدهم بأن يأتي بالطرق الدبلوماسية!.

كما ذكرت المسودة ضرورة التطبيع السياسي والثقافي مع الأعداء, ولا حلّ للصراع العربي مع الآخرين إلا بالمفاوضات السلمية مع التأكيد على الوقوف إلى جانب العولمة وتأييدها, كما ختم البيان الليبرالي بالمطالبة بمساواة المرأة مع الرجل مساواة تامة في الحقوق والواجبات والعمل والتعليم والإرث والشهادة (10).. وبعد هذا العرض لمقالة الدكتور شاكر النابلسي أجد التوافق الكبير بين أطروحات ومقالات رموز هذا التيار وما جاء في عريضة المبادئ الليبرالية التي سطرّها الدكتور النابلسي.

ولعل التسارع في أحداث الشرق الأوسط بعد الحادي عشر من سبتمبر جعلت الكثير من الدوائر السياسية والفكرية الغربية تعتمد على هذا التيار وتعبئه للهجوم على المعتقد الديني والثوابت الشرعية لشعوب المنطقة بحجة محاربة الإرهاب ومحاولة الإصلاح الديمقراطي للأنظمة والحكومات العربية. وفي هذه الأثناء أصدر الليبراليون العرب الجدد (البيان الأممي ضد الإرهاب) والذي أعدّه نخبة من الليبراليين العرب هم: العفيف الأخضر وجواد هاشم وشاكر النابلسي، وفيه حث للأمم المتحدة لتفعيل قرار مجلس الأمن رقم (1566) حول التدابير العملية للقضاء على الإرهاب وذلك بضرورة الإسراع في إنشاء محكمة دولية تختص بمحاكمة الإرهابيين من أفراد وجماعات وتنظيمات بما في ذلك الأفراد الذي يشجعون على الإرهاب بإصدار الفتاوى باسم الدين.(11)
إن التناقضات والمغالطات وقصور المصداقية التي حفل بها هذا البيان جعلته ممجوجاً مرفوضاً حتى عند الأجيال الليبرالية العتيقة فضلاً عن النقد الكبير الذي كتبه الكثير من المثقفين العرب حول هذا البيان. (12)

في حين يعّدهم البعض (حصان طروادة) لتنفيذ سياسة الشرق الأوسط الكبير الذي يروج له وزير الخارجية الأمريكي ( كولن باول) والتي طرحها في 12ديسمبر 2002م بعنوان : "مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط : بناء الأمل لسنوات قادمة " والذي يتقاطع بشكل كبير مع مطالبات ومبادرات الليبراليين الجدد كتشجيع الديمقراطية الغربية في المنطقة وتوسيع الفرص الاقتصادية وإصلاح النظم التعليمية وغيرها.

ومع أهمية تنفيذ هذا المشروع من خلال الاجتماعات الرسمية والمنتديات العالمية كالذي حصل في المغرب مؤخراً بما سمي "منتدى المستقبل للإصلاح العربي" في 10 ديسمبر 2004م؛ فإن التخوف كبير من هذا المشروع الذي سيلغي خصوصية المنطقة قومياً ودينياً ويترك أهم قضايا المنطقة والمتمثلة في الصراع العربي الإسرائيلي من غير حل مع الاهتمام المتزايد بأمن إسرائيل وحماية حدودها الإقليمية.

هذه الإشكاليات التاريخية والدينية والمعرفية التي يسعى الليبراليون الجدد وحلفاؤهم لتحقيقها واختراق شعوب المنطقة بها بغض النظر عن التداعيات الخطيرة للاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان وإفرازاته الاقتصادية والسياسية. سوف يؤدي إلى نتائج عكسية ويحمّل المنطقة المزيد من الانفجار والتشظي المحموم بين طوائف المجتمع وترسيخ هوة الكراهية والصدام بين حضارات الأمم والشعوب. في حين أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تخفي توجهها الديني المسيحي البروتستانتي المتشدد الذي ساهم في حشد تأييد ولايات (حزام الإنجيل) المتدينة، بل ولا يخفي بوش الابن أثناء حملته الانتخابية أن يعين مساعداً له هو (ديفيد بارتون) ليتجول في مئات الكنائس ويقول فيها :" إن فصل الدين عن الدولة هو مجرد خرافة" (13)

إن الليبراليين العرب الجدد والذين يدّعون أنهم يشكلون تياراً جماهيرياً صامتاً لا يستطيع أحد أن يقبل بذلك الادعاء إلا من خلال أدلة تثبت هذا الوجود، فالحالة الفريدة التي تَشكّل فكرهم عليها جاءت متأخرة وما استأسدت هذه الأصوات النشاز التي ظلّت في جحورها كامنة عقوداً من الزمن إلا مع قوة المحتل الأمريكي وسياسته التعسفية في المنطقة التي جاءت في أحرج زمن مرّ على الأمة.

ولم يعبأ هذا التيار بكل الظروف المحيطة؛ بل انتهز كل فرصة سنحت له للانتقام من كل التيارات الأخرى وكل الخصوم التقليديين ومع هبوب رياح التغيير في المنطقة تمكنّت أكثر من بعض المواقع الإعلامية والمنابر الفكرية لتصادر ما بقي لها من شعارات التسامح والحرية والدعوة إلى الإنسانية، واستبدلتها بتأكيد خيار القوة والسلاح ومن أجل الإصلاح، والاستعداء على كل دولة حاضنة للإرهاب -بمفهوم المحافظين الجدد- والقضاء على منابعه الفكرية بتغيير كل ماله علاقة بالتعليم الديني، والدعوة الدائمة للقضاء الحتمي على الحركات الإسلامية المعاصرة كونها منبع كل شر وعنف وإرهاب!! لقد رفعت الحداثة الليبرالية قاعدة التخلف أمام جماهير الأمة: (إما الاندماج في الآخر أو التحلل الذاتي والذوبان).

إن هذا الطرح لم يوجد له مثيل إلا في الفاشية الديكتاتورية التي ظهرت كثورة ضد الحداثة وقيم التنوير لكن نراها تذبح الآن بأيدي الليبراليين المتحررين من خلال معايير متضاربة ومصالح شخصية براجماتية وسياسة ميكافيلية، لتحقيق أهدافهم وتصفية حساباتهم مع خصومهم، بل ربما لا أجد نقداً ألبسوه الإسلاميين إلا وتقمصوه بكل عنف ونفعية. لقد أفتى الليبراليون بتحريم السياسة على علماء الدين ودعاته وجنّدوا لذلك النصوص والفتاوى !، وأدلجوا مواقفهم الحزبية من أجل دحض آراء خصومهم الإسلاميين ولم يعتبروا حينها أي مبدأ للحوار معهم أو إعمال للعقل في الحكم عليهم وهم من يدعي الحوار و العقلنة ليلاً ونهاراً!.

إن ما نطالعه اليوم من مقالات وخطابات لذلك التيار الجديد لهو سعي لإجهاض مؤشرات العافية وركائز الإجماع الوطني على كثير من المبادئ والقيم الحضارية، طفت هذه الأطروحات المؤدلجة غرباً على سطح خطابنا الإعلامي من خارج صفنا الوطني في مرحلة الجزر والانحسار مما يستلزم التحسب لعمق جبهة المواجهة واتساع أفق الغارة التي تستهدف الوطن والأمة كونهم من أبنائنا (المارينز)!.

إن ما يجري في الغرب من مراجعات فكرية ونقد منهجي لفلسفة الحضارة الراهنة، ينبغي أن تحفزّ أهل العقل والمعرفة من رموز التيار الليبرالي القديم والحديث إلى البحث في مرفأ النقد والمراجعة لحقيقة الأزمة المعاصرة، فعصور التبعية والتقليد الأعمى والسير في ركب الغرب من غير تجريد وتفكيك ليس شأن النخب المثقفة الواعية. بل الذي ينُتْظَر من هذه النخب أن يتجردوا من مصالحهم الشخصية بنقد الذات وفق معطيات الحاضر واستشرافات المستقبل، فبناء أي نهضة حضارية لا يستلزم تدمير كل الأبنية الماضية وسحقها للزوال، ولو كانت حضارات أمم وشعوب عريقة كما يفعل بعض الليبراليين الجدد, وهذا ما يؤكد للمتابع أن هؤلاء ليسوا سوى ظواهر صوتية في فلاة الوهم والتخيلات..


--------------------------------------------------------------------------------
[1]-انظر:المورد , لمنير البعلبكي مصطلح (liberalism ) ص 525, دار العلم للملايين – بيروت1970م.
[2] - أنظر: صدى الحداثة , لرضوان زيادة ص 32، المركز الثقافي العربي – الطبعة الأولى 2003م.
[3] - أنظر: حكاية الحداثة , د.عبدا لله الغذامي ص 38، المركز الثقافي العربي – الطبعة الثانية 2004م.
[4] - العرب وتحولات العالم، برهان غليون، ص 97، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2003م.
[5] - المرجع السابق ص 95.
[6] - انظر : الحداثة وما بعد الحداثة. د.عبدالوهاب المسيري ود.فتحي التريكي، دار الفكر، سلسلة حوارت لقرن جديد، دمشق.2003م.
[7] - انظر : ملف الاهزم الاستراتيجي، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية العدد 119-نوفمبر 2004م. مقال 0 الليبراليون الجدد في المنطقة العربية) هاني نسيرة.
[8] - جريدة السياسة الكويتية 22 يونيو 2004م.
[9] - هذا الوصف الذي نقلته عن تلك المبادئ هي جزء من النصوص الواردة في مسودة الليبراليين الجدد وليس تعبيراً اختلقته من عندي، وهذا المقال قد نشر بالتزامن مع صحيفة (السياسية) الكويتية و ( المدى) العراقية و( الأحداث) المغربية ونشر في موقع ( إيلاف ) تاريخ 22 يونيو 2004م.
[10] - انظر : نص البيان في موقع ( إيلاف ) يوم الأحد 24 أكتوبر 2004م.
[11] - انظر : مقال ( البيان الفضيحة ) محمد أل الشيخ، جريدة الجزيرة 17/9/1425هـ، وردّ كتبه مهند الصلاحات نشر في صحيفة شرق وغرب الإلكترونية في 20 نوفمبر 2004م، ومقال : " لا صوت يعلو فوق صوت الأمركة" باسل ديوب أخبار الشرق 8 تشرين الثاني 2004م.
[12]- انظر: كتاب(أمركة..لا عولمة)بروتوكولات كولن باول لإصلاح وتهذيب العرب , لمجموعة من المؤلفين , دارجهاد, القاهرة2003م.
[13] - جريدة الشرق الأوسط 31 أكتوبر 2004م.

الليبراليون الجدد.. في حِقبة ما ( تحت ) الحداثة!


د.مسفر بن علي القحطاني
رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية
بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن