Slide Ads

Showing posts with label العولمة. Show all posts
Showing posts with label العولمة. Show all posts

Tuesday, June 23, 2009

العولمة وصراع الحضارات

العولمة وصراع الحضارات

أ. د. جعفر شيخ إدريس(*)

{الذٌينّ أٍخًرٌجٍوا مٌن دٌيّارٌهٌم بٌغّيًرٌ حّقَُ إلاَّ أّن يّقٍولٍوا رّبٍَنّا اللَّهٍ ولّوًلا دّفًعٍ اللَّهٌ النَّاسّ بّعًضّهٍم بٌبّعًضُ لَّهٍدٌَمّتً صّوّامٌعٍ وبٌيّعِ وصّلّوّاتِ ومّسّاجٌدٍ يٍذًكّرٍ فٌيهّا اسًمٍ اللَّهٌ كّثٌيرْا ولّيّنصٍرّنَّ اللَّهٍ مّن يّنصٍرٍهٍ إنَّ اللَّهّ لّقّوٌيَِ عّزٌيزِ} [الحج: 40].

فالصراع سنة ماضية، والصراع بين الحضارات إنما هو في جوهره صراع بين معتقدات لا بين طبقات ولا عرقيات. فأصحاب الطبقة الواحدة، والمنتمون إلى قومية واحدة بل قبيلة واحدة قد يقتل بعضهم بعضاً إذا اختلفت معتقداتهم. على هذا تدل الآية الكريمة التي تشير إلى اعتداء أناس من قبيلة هي أشرف قبائل العرب على أناس آخرين من هذه القبيلة نفسها؛ لأنهم خالفوهم في معتقدهم. وهذا هو الذي توصل إليه دارسو الحضارات من الغربيين؛ فإنهم يكادون أن يكونوا مجمعين على أن الحضارة وإن تكونت من عناصر كثيرة إلا أن أهم عنصر فيها هو العنصر الثقافي، وأن أهم عنصر في الثقافة هو الدين. ويلاحظون أن كبرى الحضارات كانت إلى حد كبير مرتكزة على أديان. فما الحضارة؟ وما الثقافة؟ وما العولمة؟ وما علاقة الصراع بين الحضارات بها؟

الحضارة والثقافة والعولمة:

كلمات الحضارة والمدنية والثقافة والعولمة وإن كانت عربية إلا أنها جعلت في استعمالنا الحديث رموزاً تدل على المعاني والمفهومات نفسها التي تدل عليها الكلمات الغربية التي جعلناها ترجمة لها. فلننظر في تلك المعاني والمفهومات كما هي عند أهلها. وأنسب ما نبدأ به هو الأمريكي هنتنجتون أول من أشاع تعبير صراع الحضارات في مقال مشهور نشر في صيف عام 1993م في مجلة Foreign Affairs بهذا العنوان، ثم نشر موسعاً في كتاب بالعنوان نفسه. ينقل هنتنجتون عن عدد كبير من العلماء الغربيين تعريفهم لما أطلقنا عليه كلمة المدنية أو الحضارةcivilization ، والفرق بينها وبين ما نسميه ثقافة culture؛ فما الحضارة أو المدنية وما الثقافة؟ يمكن أن نلخص مجمل أقوال من نقل عنهم هنتنجتون في مفهوم الحضارة والثقافة فيما يلي:

يضع المفكرون الألمان حداً فاصلاً بين الحضارة والثقافة، فالحضارة عندهم تشمل التقنية وسائر العوامل المادية، أما الثقافة فتشمل قيم المجتمع ومثله العليا وخاصياته الفكرية والفنية والخلقية الكبرى. لكن سائر المفكرين الغربيين خالفوا الألمان في هذا؛ فهم يرون أن الحضارة والثقافة كليهما تشيران إلى منهاج حياة أمة من الناس، وأن الحضارة إنما هي الثقافة مكبرة، وأن كليهما يشمل القيم والمعايير والمؤسسات وطرائق التفكير السائدة في أمة من الناس، وأن الدين هو أهم العناصر المكونة للحضارة، وأن الحضارة ليست متطابقة مع العرق؛ فأصحاب العرق الواحد قد ينتمون إلى حضــارات مختلفة، كمـا أن الحضـــارة الواحـــدة ـ كالحضارة الإسلامية ـ قد تضم مجتمعات مختلفة الأعراق والألوان والأشكال. والحضارة هي أوسع وحدة ثقافية؛ فأهل قرية إيطالية مثلاً قد يتميزون ثقافياً عن قرية إيطالية أخرى لكنهم يشتركون في ثقافة إيطالية تميزهم عن أهل القرى الألمانية. والألمان والإيطاليون ينتمون إلى ثقافة أوروبية تميزهم عن الجماعات الصينية والهندية. هذا الذي يجمع الأوروبيين هو حضارتهم التي تميزهم عن الحضارات الصينية والهندية. فالحضارة هي أعلى تجمُّع ثقافي للناس، وأوسع مستوى للهوية الثقافية لهم. وليس فوق الانتماء الحضاري للناس إلا انتماؤهم إلى الجنس البشري(1).

أما العولمة فيمكن أن نقول إنها في أساسها تصيير المحلي عالمياً؛ فهي وصف لعمل مستمر تدل عليه كلمة Globalization لكنها في الوقت نفسه وصف لبعض نتائج هذا التعولم. النتيجة النهائية المثالية للتعولم أن تكون للعالم كله لغة أو لغات مشتركة، وأن تكون التجارة فيه مفتوحة ومتيسرة بين كل بلدان العالم، وأن يسود فيه نظام اقتصادي واحد، ونظام سياسي واحد، وأن تسود فيه عقيدة واحدة، وأن تكون للناس فيه قيم مشتركة في مسائل كحقوق الإنسان والعلاقة بين الجنسين، وأن يكون هنالك أدب عالمي يتذوقه الناس كلهم، وأن يسود فيه تبعاً لذلك نظام تعليمي واحد، وهكذا. وأن تكون كل هذه الأمور التي تعولمت مناسبة للناس من حيث كونهم بشراً، ومساعدة لهم على تحقيق طموحاتهم المادية والروحية، أي تكون للعالم حضارة عالمية واحدة. هذا هو الهدف النهائي المثالي، لكن العولمة قد تكون ناقصة، وقد تكون تامة من غير أن تكون مناسبة للبشر بل مفروضة عليهم لظروف طارئة.

المهتمون بقضية العولمة متفقون تقريباً على أنه وإن كانت الكلمة جديدة إلا أن ما تصفه ليس بجديد، بل يرى بعضهم أن السير نحو هذه العالمية بدأ منذ مئات السنين.

فإذا كانت هذه هي العولمة فما وسائلها التي تجعلها ممكنة وتحركها؟ يذكر بعض المؤرخين أنه كان للعولمة في الماضي سببان رئيسان هما الهجرة والغزو.

ولكن لنا أن نسأل: لماذا يهاجر الناس، ولماذا تغزو بعض البلاد بعضاً؟ إنهم يفعلون ذلك؛ لأنهم يرونه ـ بحسب قيمهم ـ في مصلحتهم المادية أو الروحية. هذا إذن هو الدافع الأول المحرك للهجرة أو الغزو أو أي نوع آخر من أنواع الاتصال بين أمة وأمة. لكن الناس إنما يقررون الهجرة إلى مكان معين أو غزو أمة معينة بحسب ما يصلهم من معلومات عنها، وبحسب إمكانية الوصول إليها. هذان إذن عاملان آخران هما المعلومات ووسائل الانتقال؛ وهذان يعتمدان كثيراً على مستوى التقنية الذي تصل إليه الأمة المهاجرة أو الغازية أو الساعية لأي نوع آخر من أنواع العلاقات أو التأثير.

دوافع أمة لغزو أمة أخرى أو هجرة بعضهم إليها هي في غالبها دوافع اقتصادية، لكن بعضها قد يكون ثقافياً. والأمران متشابكان؛ فحتى الغازي لأسباب اقتصادية ينقل معه ثقافته وقد يفرضها على المهزومين إذا كان غازياً ذا إمكانات كبيرة، وقد يتأثر بثقافة من غزاهم، بل وقد يتبناها ويترك ثقافته، وقد يكون التأثر والتأثير متبادلاً. والمهاجر أو الغازي لأسباب ثقافية قد يستفيد فوائد اقتصادية، وقد يحدث لثقافته التي هاجر من أجلها ما يحدث للمهاجر.

كان غزو المسلمين للعالم مثالاً للغزو بدافع حضاري؛ فقد كانوا يعدون أنفسهم أصحاب رسالة موجهة للعالم كله كلفوا هم بتبليغها إليه بالوسائل السلمية ما أمكن، وإلا باللجوء إلى الحرب. لكن حتى المسلمين الذين كانوا يهاجرون طلباً للرزق كانت مهمتهم الرسالية ماثلة أمامهم، فأثروا في البلاد التي هاجروا إليها تأثيراً كبيراً، فنقلوا إليها ـ كما نقل الغزاة قبلهم ـ دينهم ولغتهم ولم يتأثروا بهم إلا في أمور لا تتعارض مع دينهم، بل قد يكون بعضها من مقتضيات الدعوة إليه، كتعلم لغتهم.

أما المسلمون الذين يهاجرون إلى البلاد الغربية في أيامنا هذه فإنهم يفعلون ذلك لأسباب في غالبيتها العظمى اقتصادية، وتجربتهم تدل على أن الغالبية العظمى منهم تفقد هويتها الثقافية ـ لغة ومظهراً وديناً ـ وتذوب في المجتمعات الغربية. لكن أكثر ما يحتفظون به ويؤثرون به في تلك المجتمعات هو طعامهم. غير أن قلة من هؤلاء الذين هاجروا لأسباب اقتصادية كانت ـ مع القلة التي تسافر لأسباب دعوية أو دراسية ـ سبباً في قبول بعض الغربيين للإسلام، وفي انتشار بعض المظاهر الإسلامية كالمساجد والمدارس والمكتبات والحجاب.

أما الغربيون الذين ذهبوا إلى العالم الإسلامي غزاة أو لأسباب اقتصادية فإن قلة قليلة منهم هي التي تأثرت بالثقافة الإسلامية أو اعتنقت الإسلام. ولذلك كان دخول بضعة آلاف من الجنود الأمريكان في الإسلام في المدة القصيرة التي قضوها في السعودية إبان حرب الخليج أمراً ملفتاً للنظر شاذاً عن القاعدة. لكن دخول غير الغربيين المهاجرين إلى العالم الإسلامي كان ولا يزال أمراً معتاداً.

أما غزو الغرب للعالم فقد كان في أساسه لأسباب اقتصادية، لكن الدافع الرسالي كان أيضاً حاضراً فيه حضوراً بيناً. فالغربيون كانوا يرون أن لهم رسالة هي أن يحضِّروا العالم ويجعلوه نصرانياً. وهم يرون أن حضارتهم تفوق الحضارات الأخرى لما تمتاز به من عقلانية لا توجد في غيرها، وأن هذه الميزة هي التي تؤهلها لأن تكون الحضارة العالمية. يرى أحد الأساتذة الأرجنتينيين أن أحسن من يعبر عن هذا الاعتقاد هو هيجل وينقل عنه قوله: «إن الروح الألمانية هي روح العالم الجديد». ويقول: إن هيجل يرى أن الروح الأوروبية التي هي روح ألمانيا هي الحقيقة المطلقة التي تحقق نفسها بنفسها من غير أن تكون مدينة لأحد سواها. ويقول ـ أعني الكاتب ـ: إن هذه القضية ـ يعني قضية هيجل ـ لم تفرض نفسها على أوروبا والولايات المتحدة فحسب؛ بل على كل المجال الفكري لأطراف العالم(1). ويقول أستاذ بجامعة ديوك الأمريكية: «إنه لأمر عجيب وإنها لحركة في غاية التعصب العنصري أن تعتقد أوروبا أن عليها منذ عام 1500م أن تحضِّر عالماً ظلت فيه منذ قرون حضارات (مثل الحضارة الصينية والهندية والإسلامية...) قبل أن تجعل من نفسها مركزاً جديداً للعالم باسم النصرانية وأوروبا زمرة من الجماعات الهمجية الصاعدة»(1)، وأحسن من عبر عن الجمع بين الدافعين الاقتصادي والحضاري هو المؤرخ الأسباني الذي سوغ ذهابه وزملاءه لغزو الجزر الهندية بقوله: «خدمة لله ولصاحب الجلالة، ولنقل النور إلى أولئك الجالسين في الظلام، ولنصير أغنياء كما أن كل إنسان يريد أن يصير»(2).

استطاعت أوروبا أن تفرض نفسها وكثيراً من جوانب حضارتها على تلك الحضارات بالغزو والاحتلال والاستعمار، ثم بوسائل الإعلام والضغوط الاقتصادية، والتهديدات العسكرية. يقول مؤرخهم المعاصر بشيء من الزهو:

«إن التغيير الذي حدث في تاريخ العالم بعد عام 1500م لم يكن له سابقة. لم يحدث من قبل ذلك أبداً أن انتشرت حضارة واحدة في أرجاء الأرض كلها؛ فمنذ أقدم مسارح ما قبل التاريخ المشاهدة كان الميل دائماً نحو التنوع. أما الآن فإن التيار الثقافي بدأ يتحول. إن جوهر ما كان يحدث كان بادياً حتى منذ أواخر القرن الثامن عشر. فالأمم الأوروبية ـ بما فيها روسيا ـ كانت في ذلك الوقت قد ادعت لنفسها أكثر من نصف سطح الأرض، وكانت ـ بدرجات متفاوتة ـ قد سيطرت بالفعل على ما يقرب من ثلثه. ففي غرب الكرة الأرضية كانوا قد ازدرعوا جماعات مستوطنة تكفي بأعدادها الكبيرة لإنشاء مراكز حضارية جديدة؛ فقد خرجت أمة جديدة من المقاطعات البريطانية السابقة في أمريكا الشمالية، وفي الجنوب استطاع الأسبان أن يحطموا حضارتين ناضجتين ليغرسوا حضارتهم»(3).

ثم يذكر أنه كان هنالك في ذلك التاريخ ما يقرب من عشرين ألف هولندي في جنوب أفريقيا، وأن أستراليا كانت قد بدأت تستقبل مستوطنيها الجدد. وأن الزائر الأوروبي لشرق أفريقيا وإيران والهند وأندونيسيا كان سيجد فيها أوروبيين جاؤوا ليتاجروا ثم ليرجعوا إلى بلادهم في المدى القريب أو البعيد ليستمتعوا بالأرباح التي حققوها.

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان الاستعمار الغربي قد شمل أفريقيا كلها، وأحكم سيطرته على شبه القارة الهندية وبقية آسيا. وفي أوائل القرن العشرين أخضـع الشــرق الأوسـط كله ـ عدا تركيا ـ لسيطرته المباشرة، ومع نهاية عام 1920م كانت الإمبراطـــورية العثمانية قـد قسـمت بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. في غضون هذا التوسع قضى الغرب قضاءً كاملاً على حضارتــي (Meso american) و (Andean)، وأخضعـت الحضارات الهندية والإسلامية وأخضعت أفريقيا. وتوغل في الصين وجعلت تابعة للنفوذ الغربي لمدة أربعمئة عام تمثلت العلاقة بين الحضارات في خضوع المجتمعات غير الغربية للحضارة الغربية(4).

ذلك ما كان حتى عام 1920م؛ فماذا حدث بعده؟ استمر الغرب في تفوقه التقني واستمر في تأثيره الكبير على كل مجتمعات العالم لا سيما بعد الطفرة التي حدثت في تقنية الاتصالات والانتقال والتي زادت في إمكانية العولمة.

تتمثل هذه الهيمنة الغربية الآن ـ كما لخصها كاتب أمريكي ـ في أن الأمم الغربية:

- تملك وتدير النظام المصرفي العالمي.

- وتسيطر على كل أنواع العملة الصعبة.

- وأنها هي الزبون العالمي الأول.

- وأنها هي التي توفر للعالم معظم بضائعه الجاهزة.

- وأنها تسيطر على أسواق الرأسمال العالمية.

- وأنها تمارس قدراً كبيراً من القيادة الأدبية في كثير من المجتمعات.

- وأن لها قدرة على التدخل العسكري العظيم.

- وأنها تسيطر على المضايق البحرية.

- وأنها تقوم بمعظم البحوث والتطوير للتقنية المتقدمة.

- وأنها المتحكمة في التعليم التقني الفائق.

- والمهيمنة على المدخل إلى الفضاء.

- وعلى صناعة الطيران.

- وعلى وسائل الاتصال العالمية.

- وعلى التقنية العالية لصناعة الأسلحة(1).

العولمة لم تكن ـ كما كان يرجى لها إذن ـ أن تسود في العالم ثقافة إنسانية تناسب كل الناس وتساعد على تعاونهم وتطورهم والاستفادة من خيرات بعضهم بعضاً. بل كادت العولمة وكاد التحديث أن يكون تغريباً بسبب هذا التفوق الغربي وعدم تسامح حضارته مع الحضارات الأخرى.

إلى متى سيستمر هذا التفوق وهذه الهيمنة الغربية؟

يرى كثير من المفكرين الغربيين أنها لن تستمر طويلاً ـ على الأقل بهذا القدر الكبير. لماذا؟ هذا موضوع كبير لا يسعنا هنا إلا أن نشير إليه مجرد إشارات، فنقول:

1 - لأن سبب تلك القوة لم يكن لمجرد أسباب داخلية في الحضارة الغربية، وإنما كان أيضاً لظروف خارجية مواتية. أما الآن فإن ظروفاً خارجية أخرى لا قِبَلَ للغرب بتغييرها جعلته يضعف ضعفاً نسبياً للازدياد النسبي في القوة الاقتصادية والتقنية لبلاد غير غربية.

2 - يزداد تقديرنا لأهمية هذا الضعف النسبي للقوة المادية للدول الغربية إذا ما تذكرنا ما يقوله كثير من مفكريها بأن السبب الأساس لسيطرتها لم يكن قيماً ولا فكراً ولا ديناً وإنما كان هذه القوة. يقرر هنتنجتون هذه الحقيقة في صراحة عجيبة إذ يقول: لم يغلب الغرب العالم بتفوق في أفكاره أو قيمه أو دينه (الذي لم تعتنقه إلا قلة من أبناء الحضارات الأخرى) وإنما غلب بتفوقه في العنف المنظم. إن الغربيين كثيراً ما ينسون هذه الحقيقة، لكن غير الغربيين لا ينسونها أبداً(2).

بيد أننا يمكن أن نستدرك على هنتنجتون ومن يرى رأيه بأن الغرب وإن لم يكن في نفس الأمر متفوقاً في تلك المجالات إلا أن أهله كانوا يعتقدون فيه هذا التفوق، وأن هذا الاعتقاد الباطل كان دافعهم، مع الدوافع الاقتصادية للخروج لغزو العالم كما ذكرنا سابقاً.

3 - أما الآن فإن هذا الضعف النسبي في القوة المادية للغرب يصحبه وربما سبقه فتور في الدافع الرسالي؛ فحماس الغربيين لدينهم المسيحي في بداية قرنهم الواحد والعشرين لم يعد كما كان في القرن الثامن عشر، ولم يطرأ هذا الفتور في الحماس الديني بسبب التأثر بالحضارات الأخرى في المكان الأول، وإنما كان في أساسه:

- بسبب دراساتهم العلمية لأصول دينهم التاريخية، تلك الدراسات التي شككت في الثبوت التاريخي لكثير من نصوصه، والتي أثبتت أن في هذه النصوص تناقضاً ومخالفة لبعض الحقائق العلمية نشأ عنه انقسامهم إلى أصوليين ـ أكثرهم من العوام ـ يؤمنون بحرفية ما في كتابهم المقدس، وليبراليين يعتقدون أنه ما كل ما فيه من عند الله، وأنه تأثر بالظروف الثقافية للزمن الذي كتب فيه.

- ثم كان التطور في مجال العلوم الطبيعية سبباً آخر؛ لأن منهج هذه العلوم يقوم على عقلانية لا وجود لها في دينهم.

- ثم زاد من ضعف الإقبال على الدين أو الاهتمام به النظام السياسي العلماني الذي يفصله عن الدولة، بل وعن الحياة العامة كلها.

4 - كان كثير من المفكرين الغربيين يأملون في أن يحل العلم الطبيعي محل الدين، وينجح في حل مشاكل البشرية التي عجز الدين عن حلها. لكن تجربة الحربين العالميتين العظميين، واعتمادهما على التقنية الحربية التي وفرها العلم الطبيعي أضعفت من هذا الأمل. ثم كانت كارثة هيروشيما فاقتنع كثير من المفكرين والعوام الغربيين بأن العلم الطبيعي إنما هو سلاح يعتمد حسن استعماله أو سوؤه على قيم لا تؤخذ منه هو، فلا بد أن يكون لها مصدر آخر.

5 - والشيوعية ـ التي هي نتاج غربي ـ والتي تعلق بأوهامها الآلاف المؤلفة من الناس في الشرق والغرب، باءت هي الأخرى بإخفاق ذريع.

6 - لم يبق للغرب الآن مبدأ يتعلق به ويدافع عنه ويعتز به إلا الديمقراطية الليبرالية وما يصاحبها من نظام رأسمالي. لكن حتى هذين يجدان كثيراً من النقد والمراجعة لعدم وفائهما ببعض القيم الإنسانية، ولا سيما إنصاف الفقراء، ولما نتج عنهما من تعميق للروح الفردية وما يصحبها من مشكلات اجتماعية.

7 - الروح السائدة في الغرب الآن ليست روحاً متفائلة، بل إن التشاؤم قد يصل بهم إلى الحد الذي عبر عنه كاتب فرنسي أزعج ذلك الشعب وأثار تشاؤمه حين كتب يقول كما نقل عنه مؤلف إنجليزي: «إن أوروبا بدأت تدخل في عصر ظلام جديد يتميز بالأوبئة والمتسولين وانهيار المدن، وبعث الخرافة، وعودة التهديد القادم من الشرق ـ من آسيا ومن الإسلام»(1).

ولعلنا نستطيع أن نقول إنه حتى لو لم يطرأ هذا الفتور في حماس الغربيين لدينهم ولرسالتهم، فإنه ما كان لحضارتهم أن تصير حضارة عالمية إذا ما فقدت القوة المادية؛ لأنها لا تملك في نفسها مقومات العالمية. لكن هذا موضوع آخر لا يسعنا الدخول في تفاصيله الآن، غير أن كثيراً من هذا القصور سيتضح إذا ما أظهرنا بعض مقومات عالمية الإسلام؛ إذ بضدها تتميز الأشياء. إلى هذا نتجه الآن وبه نختم مقالنا هذا.

ما الذي يؤهل الحضارة الإسلامية لأن تكون حضارة عالمية؟

أرى أننا ينبغي أن نميز أولاً بين الإسلام والحضارة الإسلامية؛ لأنه إذا كانت الحضارة هي في جوهرها المعتقدات والقيم والتصورات المتمثلة فعلاً ـ أو قل إلى حد كبير ـ في واقع أمة من الأمم، فما كل ما جاء به الدين المنزل من عند الله متمثلاً في الأمة التي تعلن إيمانها به. فالدين دينان: دين منزل من عند الله لا يتغير ولا يتبدل {إنَّا نّحًنٍ نّزَّلًنّا الذٌَكًرّ وإنَّا لّهٍ لّحّافٌظٍونّ} [الحجر: 9] ودين متمثل في واقع الناس يقترب من الدين المنزل أو يبتعد عنه، ولا يطابقه إلا في الرسول الذي جاء به، والذي صدق عليه قول زوجه أم المؤمنين: «كان خلقه القرآن»(1)، أما غيره فمنهم من يقرب منه قرباً شديداً، ومنهم من يبتعد عنه بعداً كبيراً وإن كان منتسباً إليه. فالحضارة الإسلامية المتمثلة في واقع المسلمين تتأهل للعالمية بقدر قربها من الدين المنزل الذي تنتسب به. فما مقومات العالمية في هذا الدين؟ إنها مقومات كثيرة وعظيمة، لكننا نكتفي في هذا المقال بالإشارة إلى بعضها:

1 - أنه بينما كان الرسل من أمثال موسى وعيسى ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ يرسلون إلى أقوامهم خاصة فإن محمداً صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس كافة، أرسل رحمة للعالمين، وجعله الله خاتماً للنبيين. فحتى لو كان اليهود والنصارى المنتسبون إلى هذين الرسولين مستمسكين بدينهم الحق، لما جاز لهم أن يجعلوا منهما دينين عالميين بعد نزول الدين الخاتم؛ لأن الله ـ تعالى ـ إنما أرسل هذين الرسولين إلى قومهما خاصة وإلى فترة محدودة. فالمسلم المستمسك بدينه العارف بهذه الحقيقة يستبشر بالتطور الذي حدث في وسائل الاتصال والانتقال الذي جعل من العالم قرية واحدة كما يقولون. يستبشر به؛ لأنه يرى فيه تصديقاً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا أحد غير الله ـ سبحانه وتعالى ـ كان يمكن أن يعلم أن العالم سيتقارب هذا التقارب فلا يحتاج إلا إلى رسول واحد.

2 - أن إمكانية تقريب المسافات أمر حاضر في حس المؤمن الذي يقرأ قوله ـ تعالى ـ: {سٍبًحّانّ الذٌي أّسًرّى بٌعّبًدٌهٌ لّيًلاْ مٌَنّ المّسًجٌدٌ الحّرّامٌ إلّى المّسًجٌدٌ الأّقًصّا الذٌي بّارّكًنّا حّوًلّهٍ} [الإسراء: 1]، وحين يذكر كيف أن المكذبين به صلى الله عليه وسلم ضاقت أعطانهم عن أن يروا إمكان ذلك، وحسبوا أن الممكن محصور في المألوف. ويقرأ المؤمن في كتاب ربه أن رجلاً عنده علم من الكتاب استطاع أن ينقل عرشاً بأكمله في أقل من طرفة عين من اليمن إلى الشام، ثم يقرأ في كتاب ربه ما هو أعجب من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عُرج به إلى السماء السابعة ورجع في ليلة واحدة؛ وهي مسافة لو قطعها مخلوق بسرعة الضوء لاستغرقت منه البلايين من السنين الضوئية. ويصدق المسلم قول رسوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها»(2).

3 - أن هذا الدين هو فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ فهو يخاطبهم بوصفهم بشراً وضع الله في قلوبهم أساسه؛ فهو ليس بالأمر الغريب عليهم. وما أكثر الذين شعروا بهذا حين أسلموا وفاضت أعينهم مما عرفوا من الحق.

4 - ومما يزيد المسلم اقتناعاً بعالمية دينه أنه أثبت في الواقع أنه ليس بالدين الذي تحده ظروف جغرافية أو مناخية، أو زمانية أو ثقافية؛ فقد اعتنق هذا الدين أناس بينهم كل أنواع تلك الاختلافات، فلم يجدوا في شيء منها ما يحول بينهم وبين الإيمان به أو وجدانهم شيئاً غريباً عليهم. فالمسلمون في كل بقاع الأرض الآن أقرب إلى دينهم من النصارى أو اليهود لدينهم. فما زال المسلمون رغم كل تلك الظروف المختلفة يصلون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان، ويحجون إلى بيت الله الحرام، ويقرؤون الكتاب المنزل على رسولهم من غير تحريف ولا تبديل.

5 - وإذا كان تطور العلوم الطبيعية يقف الآن حجر عثرة في طريق بعض الأديان الباطلة، فإنه يقف شاهداً على صدق هذا الدين؛ لأنه لا يجد فيه ما يخالف شيئاً من حقائقه، بل يجد فيه تقريراً لبعض تلك الحقائق قبل أن يتمكن الإنسان من اكتشافها بوسائله البشرية. ولا يجد فيه مخالفة لمنهجه العقلاني التجريبي؛ إذ يجده ديناً لا يأتي بمحالات العقول، ولا ينكر ما يشهد به الحس. فإذا ما شعر الناس بأهمية الدين ـ كما يشعر بذلك كثير منهم الآن ـ وإذا ما صدهم عما عرفوه من أديان تناقضها المنطقي، أو مخالفتها للواقع المحسوس فسيجد ديناً فيه كل ما يريد من هدى واستقامة وراحة نفسية، وهو خال من تلك النقائص. فسيكون العلم الطبيعي بإذن الله ـ تعالى ـ سبباً من أسباب دخول الناس في هذا الدين على المستوى العالمي.

6 - والغرب وإن كان في مجموعه مهيمناً تلك الهيمنة التي ذكرناها سابقاً إلا أنه ليس شيئاً واحداً منسجماً متعاوناً، وإنما هو شعوب ودول وجماعات تختلف مصالحها ويثور التنافس والتحاسد بينها، ويرتاب بعضها من قوة بعضها ويخشى من سيطرتها.

إذا كانت تلك هي بعض المقومات التي تؤهل الإسلام ليكون دين القرية العالمية، ومركز حضارتها، فإن في واقع الأمة المنتمية إليه الآن ما يعرقل سيرها بدينها نحو تلك العالمية:

1 - أول تلك العوائق هو كون الحضارة الغربية قد نجحت في جعل بعض المنتسبين إليه عملاء لها في داخل الأوطان الإسلامية، ومكنت لهم فيها؛ فهم الذين قسموا الأمة وجعلوها متنازعة، وشغلوها بصراعات داخلية سياسية واجتماعية، فحالوا بذلك بينها وبين أن تسعى متكاتفة إلى الأخذ بأسباب التقدم المادي من علم طبيعي وتقنية وإنتاج؛ لأن وحدة الأمة ـ وإن كانت كافرة ـ شرط في هذا كما تشهد بذلك تجارب اليابان والأمم الغربية.

2 - وثانيها أن هذا النزاع كان وما يزال السبب في فقدان القدر اللازم من الحرية التي هي أيضاً شرط لذلك التقدم. لكن الغربيين الذين كانوا سبباً في فقدانها يعزون هذا الفقدان الآن إلى طبيعة العرب أو طبيعة الإسلام! وقديماً قال العربي: «رمتني بدائها وانسلَّت».

3 - وثالثها أن كثرة كاثرة من المنتمين إلى الإسلام قد حادوا عن جوهره التوحيدي، ففقدوا بذلك الشرط الذي علق الله ـ تعالى ـ نصره لهم عليه في مثل قوله ـ تعالى ـ: {وعّدّ اللَّهٍ الذٌينّ آمّنٍوا مٌنكٍمً وعّمٌلٍوا الصَّالٌحّاتٌ لّيّسًتّخًلٌفّنَّهٍمً فٌي الأّرًضٌ كّمّا اسًتّخًلّفّ الذٌينّ مٌن قّبًلٌهٌمً ولّيٍمّكٌَنّنَّ لّهٍمً دٌينّهٍمٍ الذٌي ارًتّضّى لّهٍمً ولّيٍبّدٌَلّنَّهٍم مٌَنً بّعًدٌ خّوًفٌهٌمً أّمًنْا يّعًبٍدٍونّنٌي لا يٍشًرٌكٍونّ بٌي شّيًئْا ومّن كّفّرّ بّعًدّ ذّلٌكّ فّأٍوًلّئٌكّ هٍمٍ الفّاسٌقٍونّ} [النور: 55].

4 - ورابعها أن الغرب يبالغ في خوفه من الإسلام، ويزيد في هذا التخويف أناس يبالغون في خطر البعث الإسلامي الجديد متخذين من هذا التخويف وسيلة لتحقيق مآرب لهم لا تمت إلى مصلحة الغرب في شيء؛ وأكثر من يعينهم على هذا ويعطيهم أدلة يفرحون بها أناس لا عقل لهم ينتمون إلى حركة البعث هذه يكثرون من التهديد والوعيد للغرب من غير أن تكون لهم مقدرة على تحقيق أدنى شيء منه. وبسبب هذا الخوف المَرَضي من الإسلام ييالغ الغرب في ضغطه على الدول الإسلامية والتدخل في شؤونها ليقضي على كل بادرة نهضة إسلامية تطل برأسها فيها، {واللَّهٍ غّالٌبِ عّلّى أّمًرٌهٌ ولّكٌنَّ أّكًثّرّ النَّاسٌ لا يّعًلّمٍونّ} [يوسف: 21] .

5 - مع كل هذا الخطر الغربي فإن بعض الدعاة عندنا يتصرفون وكأنه لا وجود للغرب نفسه؛ فلا يتتبعون أخباره ولا يهتمون بمعرفة سياساته ومخططاته، ولا يفكرون في الرد على أفكاره، وكأنهم لم يسمعوا بمثل ما قال عالم الجزيرة الشيخ السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ: «إن معرفة أحوال الكفار من أعظم أبواب الجهاد». وصار هؤلاء الدعاة ـ بسبب هذه الغفلة ـ مشغولين بمحاربة أناس هم معهم في صف البعث الإسلامي. إن نقد الخطأ ـ ولا سيما ما كان في مسائل العقيدة ـ أمر واجب وعمل عظيم؛ لكن نقد أخطاء المسلمين شيء، وجعلها الشغل الشاغل عن الخطر الداهم شيء آخر.

---------------------------------------

(ü) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.

(1) Samuel P. Hintington, The Clash of Civilizations, Simon & Schuster, 1997, pp. 41- 43.

(1) Enrique Dussel زBeyond Eurocentrism: The World-System and the Limits of Modernityس in Fredrick Jameson and Masao Miyoshi, Editors, The Culture of Globalization, Duke University Press, London and Durham, 1998, pp. 3-4.

(1) Op cit. pp. 32-33, Walter D. Mingnola, زGlobalization, Civilization Processes and the Relocation of Languages Culturesس.

(2) J. M. Roberts, The Penguin History of the World, Penguin Books, 1995, p.608.

(3) Ibid. p. 605. (4) Huntington, op.cit. p. 51.

(1) Jeffery R. Barnet, Exclusion as National Security Policy, Parameters, 24 (Spring1994), 54, as quoted by Huntington, op. cit. 81-

(2) Ibid. p. 51.

(1) Ruling Brittania, pp 316 -7.

(1) أخرجه مسلم، رقم 746، وأحمد في المسند، رقم 23460، واللفظ له. (2) أخرجه مسلم، رقم، 2889

العولمة الفكرية الإسلامية

العولمة الفكرية الإسلامية

أ . د. عابد السفياني (*)

إن «الإسلام» هو الرسالة الخاتمة التي أُرسل بها رسولنا محمد عليه وعلى إخوانه المرسلين أفضل الصلاة والسلام، وهي رسالة عالمية لها مبادئها الشاملة لجميع أحوال البشرية العقدية والتشريعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة والعامة، ويدخل في ذلك من آمن بها من أهل الإسلام ومن دخل تحت أحكامها ونظامها التشريعي من غير المسلمين.

ومن المناسب أن نقول إن انحسار العولمة الإسلامية هو سبب لفتح الطريق للعولمة الكفرية. والعولمة الفكرية الغربية هي اتخاذ الأمم الكافرة الوسائل لنشر مبادئها ونظمها وأفكارهـا عالمياً، وهـو ما يُسمى الآن بـ «العولمة الفكرية» ـ بالنسبة للغرب ـ التي تتمثل في نشر أفكاره ونظامه.

ونذكر مثالاً يوضح الفرق بين العولمة التشريعية في الإسلام، وبين العولمة التشريعية بالنسبة للكفار.

حرّم الإسلام نكاحَ المحارم، وحرّمَ السفاح والزنى واللواط على المسلمين وعلى غير المسلمين من الكفار اليهود والنصارى، والمجوس وغيرهم، وقام المسلمون بدعوة الناس جميعاً لاجتناب الرذائل، وألزموا مَنْ دخل في الإسلام بتركها، ومَنْ بقي على كفره وكان مع المسلمين في بلادهم أيضاً؛ لأنها محرمة على الجميع، ونُشِرَ هذا التشريع عالمياً واستفاد المسلمون والكفار من الآثار الإيجابية المترتبة عليه، فانحسرت الرذائل وآثارها السلبية(1)، وهذه عولمة تشريعية إسلامية.

أمّا الكفار فيحاولون أن يعولموا الإباحية ويُصدروا التشريعات التي تبيح الفواحش والشذوذ وينشروها من خلال الأنظمة الوضعية والمؤتمرات الخاصة بالمرأة والسكان، وإطلاق الحريات.

ولهذا فإنني أرى أن توصف جهود المسلمين في نشر الإسلام عالمياً بقولنا: «العولمة الفكرية الإسلامية» ويشمل ذلك التعريف بالإسلام، ومن ثمرته دخول الناس أفواجاً في الدين، وهؤلاء بمقتضى الإسلام يكون معهم العلم به والعمل، ويُطلب منهم أن يشاركوا في نشره وهذا يوسع دائرته العالمية.

وأمّا الكفار الذين يدخلون تحت حكم الإسلام ونظامه فهؤلاء يدخلون تحت «العولمة الفكرية والتشريعية» إن صح التعبير، وإن لم يدخلوا تحت اسم الإسلام. فالعولمة التشريعية أو الفكرية الإسلامية تعني نشر الإسلام عقيدةً، كما تعني نشر النظام الإسلامي، ويشمل ذلك مصطلح الدعوة الإسلامية.

وأمّا جهود الأمم الكافرة في نشر أنظمتها وأفكارها وتشريعاتها الرأسمالية أو الإباحية فيجب أن يُسمى ذلك بـ «العولمة الكفرية»، ويشمله قولنا: الدعوة الكفرية، أو الدعوة إلى الكفر، أو الدعوة لنشر أنظمة الكفار ومناهجهم ومذاهبهم.

ذكر الأدلة النقلية والعقلية على وجوب إخضاع البشرية لعالمية الإسلام:

1 - قال الله ـ تعالى ـ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ }[البقرة: 213].

عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق»، قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «وهذا القول صحيح عن ابن عباس سنداً ومعنى؛ لأن الناس كانوا على ملة آدم عليه السلام»(1).

ففي هذه الفترة كان العالم يعيش تحت شريعة واحدة وهذا هو الأصل في البشرية، وهذه الشريعة الإسلامية هي الحق والهدى والخير والعفاف، ويقوم على ذلك حفظ الدين والأنفس، والعقول، والأعراض، والأموال.

2 - أن الشرائع الإسلامية في جميع العصور جاءت بالنظام الذي يحفظ تلك الضروريات التي يسميها العلماء الضروريات الخمس التي سبق ذكرها آنفاً، والتي تكوّن الأمة الواحدة ذات المبادئ الواحدة والنظام العالمي الواحد، وقد طرأ الاختلاف في البشرية بعد أن لم يكن، فلما وقع الاختلاف، وطرأ الشرك، وظهرت الخرافة والظلم والبغي، وخالف بعض الناس الشرائع الإسلامية أرسل الله نوحاً ـ عليه السلام ـ ليرد الناس إلى ما كانوا عليه.

يؤكد ذلك أنه مَا مِنْ نبي ورسول إلا ويأتي بالدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك، والأمر بإقامة أركان الإسلام والإيمان وتطبيق الشرائع الحافظة للأنفس والأعراض والعقول والأموال.

قال الله ـ تعالى ـ: )وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [الإسراء: 23]، وقوله ـ سبحانه ـ: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [يس: 60، 61].

وقوله ـ سبحانه ـ: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ } [البقرة: 83].

وجاء الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم يجدد هذه الدعوة لتكون للعالمين نذيراً، ولتكون للعالمين ذكراً: {إنً هٍوّ إلاَّ ذٌكًرِ لٌَلًعّالّمٌينّ} [التكوير: 27] .

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

ويؤكد القرآن مفهوم الأمة الواحدة العالمية: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: 92].

ومن أكبر مقاصد هذه الوحدة العالمية ما يلي:

أ - تذكير البشرية بنشأتها الأولى.

ب - تأكيد وحدة الفطرة الإنسانية.

ج - تأكيد حاجة البشرية للعبادة المبنية على التوحيد الخالص.

د - تقديم الحلول العملية التطبيقية للمحافظة على مصالح البشرية الدنيوية والأخروية؛ ففي الدنيا المحافظة على تلك الضروريات، وفي الآخرة النجاة من النار ودخول الجنة، والفوز برضوان الله.

3 - عناية الإسلام العظيمة بتأكيد حفظ ضرورات البشرية، واستمرار نشأتها الخيّرة الأولى. وإن من المقاصد العظيمة للإسلام كف البشرية عن الشرور التي ترتبت على الاختلاف الذي وقع بسبب الشرك والظلم والبغي والفواحش؛ ولهذا قال الله ـ سبحانه ـ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [البقرة: 213].

فأما الفريق من الناس الذين ظلموا وبغوا وتركوا مقتضى العلم الصحيح والعمل بالهدى والحق، فهؤلاء خلافهم وشرورهم طارئة على البشرية، وترتب على هذا الخلاف نشوء جميع الضلالات والانحرافات العقدية والعملية الموجودة في هذا العالم؛ فكانت رسالات الأنبياء ـ عليهم السلام ـ تُعنى بمحاربة تلك الشرور التي ترتبت على تلك المخالفات مع عنايتها بتجديد التوحيد والأمر بإقامة أركان الإسلام.

ولهذا ذكر العلماء ـ رحمهم الله ـ أن كل مقصد من مقاصد الإسلام بُني من جهتين: من جهة إيجاده والقيام به، ومن جهة حمايته، ومن الأمثلة على ذلك ما يلي:

أمر بالتوحيد ونهى عن الشرك، أمر بالصدق ونهى عن الكذب، أمر بالزواج ونهى عن الزنا، أمر بالصدق والعفاف ونهى عن قطع الأرحام والفواحش، أمر بالعدل في المعاملات ونهى عن الجور والربا والعقود الفاسدة، أمر بالوفاء ونهى عن الغدر والخيانة، وغير ذلك من المبادئ العالمية؛ أي التي هــي ذكــر للعالمين ويحتاجـها جميع الناس، ولا تصلح الأرض إلا بإقامة التشريع الإسلامي، ثم المحافظة عليه. وواضح من هذه الأمثلة: أن الطارئ على البشر هو الفساد والشرك والفواحش والربا والغدر والخيانة والطغيان السياسي والاقتصادي والإباحي، وهذا كله طارئ على نشأة البشرية، ومخالف لفطرتها؛ ولهذا شدد الإسلام على أتباعه، وأمرهم بمحاربة هذا الفساد، وأن يشهدوا عن طريق نشر العلم والدعوة، وعن طريق العمل والواقع بتجريم هذه الانحرافات، ورد البشرية عنها.

ولما ضعُف جهد المسلمين العلمي والعملي والدعوي وانحسرت قوتهم ازداد الكفار في غيهم ومخالفاتهم وانحرافاتهم، وعظُم الطغيان الرأسمالي، والربا، ونشر الفساد والإباحية والانحرافات الأخلاقية، وما زالوا يحاولون عولمتها. وهذا كله من مسائل الجاهلية التي جاء الإسلام لمحاربتها. والواجب على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها نشر العلم والاعتقاد والعمل الذي يقف في وجه هذه الانحرافات والشرور والفساد، ورفض هذه العولمة المنحرفة سواء من الناحية الفكرية أو التشريعية، وتقديم البديل الذي هو: العولمة الإسلامية العقدية لمن يقبل الإسلام ديناً، والفكرية والتشريعية لمن يخضع له نظاماً، أو يستفيد من مبادئه وتشريعاته.

ونختم هذا المقال بصورتين لهما أكبر الدلالة فيما نحن فيه:

الصورة الأولى: صورة للعولمة الفكرية أو التشريعية أو العقدية الكفرية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما وردت في الحديث الصحيح: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب»(1). أي قليل من أهل الكتاب على دين صحيح لم يُبدل.

وهــذه هـي الصــورة لحياة الجـاهلية قبل بعثتـه عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا نقول: إن العولمة الكفرية التي يقوم بها الغرب اليوم هي عولمة مقيتة ممقوتة؛ لأنها مبنية على مسائل الجاهلية: من رأسمالية، وربا، وإباحية، وطغيان سياسي. أما الرأسمالية فإنها تضطهد الفقراء شعوباً ودولاً وأفراداً، وأما الربا فهو السبب الكبير في المشاكل الاقتصادية التي أرهقت الشعوب، وأما الإباحية فقد حوّلت المرأة إلى سلعة تُستعمل في الجنس والدعاية والفن الرخيص.

ولا يزال الغرب يبذل ما يستطيع لعولمة هذه الانحرافات، ويحارب الشريعة الإسلامية؛ لأنها تجرّم الطغيان الرأسمالي والإباحية وتنهى عن الظلم والفحشاء.

وأما الطغيان السياسي فقد نشر الظلم، وأهدر الحقوق وأصبح القوي هو الذي يتحكّم كما يشاء.

ولهذا فإن مَنْ أسمى نفسه: «النظام العالمي الجديد» يعتبر العالم قريةً واحدة يريد أن يعولم فيها أفكاره وتشريعاته الرأسمالية والإباحية والسياسية، وكل ذلك على حساب كرامة الإنسان ومقدرات الشعوب.

الصورة الثانية: المبادئ الإسلامية العالمية ويتحدث عنها رجلان، أحدهما زعيم من زعماء الجاهلية الأولى، والثاني رجل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أما الأول: فهو أبو سفيان بن حرب القرشي قبل أن يُسلم؛ وذلك حين سأله زعيم من زعماء الروم عن الإسلام ومبادئه العالمية؛ فقد جاء في الحديث الطويل الذي رواه عبد الله بن عباس في قصة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر: قال قيصر لأبي سفيان: «فماذا يأمـركـم؟ قال: يأمرنا أن نعبـد الله وحــده لا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف، والوفاء بالعهد وأداء الأمانة»(2).

ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام هو أول مراحل نشر العالمية الإسلامية.

وأما الثاني: فهو الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ الذي تحدث عن الإسلام في بلاد الغربة عند الملك النجاشي، وقبل أن نذكر قيام جعفر ـ رضي الله عنه ـ وأصحابه بإعلان المبادئ العالمية للإسلام عند النجاشي نحب أن نشير إلى أن أبا سفيان بن حرب في كفره لو استطاع هو وقيصر أن يعولموا مبادئهم الضالة لفعلوا، وقد حاولت قريش أن تعمم انحرافاتها وموقفها من الدعوة الإسلامية، وأن تطارد المسلمين في خارج أراضيها وحدودها، وحاولت أن تقنع النجاشي بأن ما هي عليه من الشرك والفساد في الأعراف السياسية، والاقتصادية والظلم الاجتماعي إنما هو العدل، وهو الذي يجب البقاء عليه وهو الصالح للحياة البشرية، وأنّ تعاونهم على إبقائه والدفاع عنه هو السبيل لمقاومة مبادئ الإسلام، وهنا يظهر الصراع بين الكثرة التي تريد أن تنشر المبادئ الكفرية وتُعوْلمها، وبين القلة التي ترفض عولمة الكفر والتشريعات المنحرفة، وترفض الظلم في جميع مجالاته سواء الظلم في الاعتقاد، أو الظلم السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو الأخلاقي، وهي مع رفضها لهذه الشرور والانحرافات تقاوم الغربة والاضطهاد، وتعلن عولمة المبادئ الإسلامية ولو كره المشركون.

وإليك صورةً من المواقف العملية لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقفون مُتجردين من كل قوة إلا قوة الإيمان؛ لتكون نبراساً وقدوة لنا على الطريق ونحن نواجه عولمة الانحراف في شتى مجالاته في هذا العصر، ونترك القارئ في ختام هذا الحديث يتملى هذه الصورة النيرة للمواقف المشرفة كما ذكرها ابن إسحاق في السيرة النبوية. قالت أم سلمة بنت أبي أمية: «لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جارٍ النجاشي، أَمِنَّا على ديننا، وعبدنا الله ـ تعالى ـ لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلَيْن منهم جَلْدَيْن، وأن يُهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدَم(1)، فجمعوا له أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تُكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يُكلمهم. قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار، عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يُكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضَوَى(2) إلى بَلَد الملك منا غِلْمانٌ سُفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مُبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً(3)، وأعلم بما عابوا عليهم؛ فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قدّما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك! إنه قد ضوى إلى بلدك منّا غلمان سُفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم؛ فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي. قالت: فقالت بطارقته حوله: صَدَقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عَيْناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسْلمْهم إليهما فليردّاهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لا ها الله! إذاً لا أسلمهم إليهما، ولا يُكاد قومٌ جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على مَنْ سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك مَنعتُهم منهما، وأحسنتُ جِوارهم ما جاوروني.

قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسولُه اجتمعوا، ثم قال بعضُهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول: والله ما عَلِمْنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤوا، وقد دعا النجاشي أساقفته(4)، فنشروا مَصاحفَهم حولَه سألهم فقال لهم: ما هذا الدينُ الذي قد فارقتم فيه قومَكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلّمه جعفرُ بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منّا الضعيفَ؛ فكنّا على ذلك؛ حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصِدْقه وأمانَتَه وعفافَه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبدَه، ونخلَع ما كنا نعبدُ وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمَرَنا بصِدْق الحديث، وأداء الأمانة، وصِلة الرحم، وحُسْن الجِوار، والكَفِّ عن المحارم والدِّماء، ونهانا عن الفَواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقَذْف المُحْصنات؛ وأمَرَنا أن نعبد الله وحده لا نُشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ـ قالت: فعدد عليه أمور الإسلام ـ فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرَّمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردُّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنّا نستحلُّ من الخبائث، فلما قَهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على مَنْ سواك؛ ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم! فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ! قالت: فقرأ عليه صــدراً مـن: { كهيعص } [مـــريم: 1]. قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضلت(1) لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم؛ ثم قال [لهم] النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة(2) واحدة. انطلقا، فلا والله! لا أسلمهم إليكما ولا يُكادون»(3).

وهكذا يجب أن يبيّن المسلمون للعالم عالمية الإسلام، ويدعوا إلى مبادئـــه؛ كما أظهـــر جعفــر ـ رضي الله عنه ـ مبادئ الإسلام وعدَّد منها التوحيد، وإنكار الشريك والخرافة والتقليد، كما عدَّد منها الصدق، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحُسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء والفواحش وقول الزور، واستنكر ـ رضي الله عنه ـ أمر الجاهلية، وقد فهم النجاشي ملك الحبشة أن هذه المبادئ، وهذا الحق هو الذي جاء به عيسى ـ عليه السلام ـ وأنه يخرج من مشكاة واحدة، ورد زعماء الجاهلية الذين خرجوا من مكة يطاردون الدعوة الإسلامية.

ومثلهم أولئك الذين يطاردون الفضيلة ومبادئ الدعوة الإسلامية اليوم، ويخططون لعولمة الرأسمالية والإباحية ويتعجبون من المبادئ الإسلامية والفضيلة، ويكرهون أن ينتشر الحق في البشرية.

إن خطط الجاهلية الأولى قد أخفقت في محاربة الحق والفضيلة والعفاف والخير، وكذلك خطط العولمة الكفرية المعاصرة؛ والإسلام اليوم قد خطا خطوات واسعة نحو العالمية من حيث العلم والفكر، وكما انحسرت الجاهلية الأولى أمام مبادئ الإسلام يوم قام أمثال جعفر ـ رضي الله عنه ـ باستنكار أمر الجاهلية وإعلان مبادئ الإسلام فكذلك اليوم ستنحسر العولمة ـ بإذن الله ـ إذا قام المسلمون بمثل ما قام به دعاة الإسلام في جيل القدوة، وسيتقدم الإسلام نحو العالمية لا من الناحية الفكرية فقط، بل من الناحية العملية العقدية والتشريعية، وسيدخل الناس تحت سلطانه إمّا بمقتضى عقد الإسلام، وإما بالخضوع لنظامه، والله ـ سبحانه ـ ناصر دينه، وهو نعم المولى ونعم النصير.

------------

(*) عميد كلية الشريعة في جامعة أم القرى سابقاً، وأستاذ العقيدة في الكلية نفسها حالياً.

(1) حرمت الشرائع الإسلامية لدى الأنبياء ـ عليهم السلام ـ الفواحش والربا، انظر كتاب: حكم الزنا في القانون وعلاقته بمبادئ حقوق الإنسان في الغرب، دراسة في ضوء الشريعة الإسلامية، للكاتب.

(1) تفسير ابن كثير، 1/ 251.

(1) أخرجه مسلم، رقم 2865. (2) رواه البخاري، باب دعاء النبي إلى الإسلام، 4/56.

(1) الأدم: الجلود، وهو اسم جمع. (2) ضوى: لجأ ولصق.

(3) أعلى بهم عيناً: أبصر بهم.

(4) الأساقفة: علماء النصارى الذين يقيمون لهم دينهم، واحدهم: أسقف، وقد يقال بتشديد الفاء.

(1) كذا في أكثر الأصول، واخضلت لحيته: ابتلت. وفي نسخة: «حتى أخضل لحيته»: أي بلها.

(2) المشكاة: قال في لسان العرب: «وفي حديث النجاشي: إنما يخرج من مشكاة واحدة. المشكاة: الكوة غير النافذة؛ وقيل هي الحديدة التي يعلق عليها القنديل»، أراد أن القرآن والإنجيل كلام الله تعالى، وأنهما من شيء واحد.

(3) المغازي، لابن إسحاق، ص 358.

العولمة بين منظورين

Align Center

العولمة بين منظورين
د. محمد أمحزون


إن الصراع الذي يميز التاريخ الإنساني وما يزال هو الصراع بين ضروب العولمة، أو بين الصور النموذجية للإنسان في الحضارات المختلفة.
والمتأمل في الحِقَب أو الفترات المهمة في التاريخ الإنساني يلحظ أنها كانت عالمية، وتعود إلى من بيدهم الأدوات التي تمكنهم من فرض خواصهم على الآخرين.
وبهذا المعنى؛ فالعولمة فعل تاريخي متواصل، وهو حصيلة المعركة الجارية بين العالميات أو النماذج الحضارية المختلفة التي يؤمن أصحابها بأن لهم رسالة تحدد المثال الإنساني الأعلى.
وفي هذا الإطار فإن "العولمة" صفة لفعل الإنسان الصانع للتاريخ.
عالمية الدعوة الإسلامية:
إن الإسلام منذ أيامه الأولى كان واضح المعالم بأنه دين عالمي غايته تقديم رسالة الحضارة الإسلامية بوصفها ضرباً(1) روحياً خلقياً ومادياً لا يتنافى فيه الدنيوي والأخروي تنافياً انقسامياً يجعل الإنسان ممزقاً بين عالمين: أحدهما تحكمه القوانين الطبيعية الصماء، والثاني تحكمه القوانين الخلقية العزلاء.
ولقد كان واضحاً كل الوضوح في لغة القرآن المكي عالمية الدعوة الإسلامية وإنسانية هذا الدين الذي يخاطب الإنسان جنس الإنسان بغضِّ الطرْف عن وطنه وقومه كما في قوله - تعالى -:(( إن هو إلا ذكر للعالمين)) [التكوير: 27]، وقوله - جل ثناؤه -:(( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)) [الأنبياء: 107]، وقوله - جل ذكره -: ((وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا)) [سبأ: 28].
وهذا الخطاب موجه للناس كافة في شتى بقاعهم ومختلف أزمانهم، وبكل أجناسهم وقومياتهم وألوانهم.
وخلال الحوار الذي دار في بيت أبي طالب بين كبار قريش وبين النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: "كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم"(2) أي: كلمة لا إله إلا الله.
وفي مطلع السنة السابعة للهجرة باشر النبي صلى الله عليه وسلم عمله في المجال العالمي حينما أرسل رسله من"الحديبية"يحملون كتبه إلى ملوك وأمراء عصره يدعوهم إلى الإسلام، وعلى رأسهم قيصر ملك الروم وكسرى ملك الفرس(3).
ثم بدأ بعد ذلك الاحتكاك بالروم البيزنطيين في غزوة مؤتة وتبوك على مشارف بلاد الشام؛ إذ كانت هذه المنطقة ضمن الإطار الحيوي الاستراتيجي للأمة الإسلامية.
ولم يلتحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى حتى كان العرب جميعاً قد دانوا بالإسلام، ووضعت الدعوة الإسلامية خطوات ثابتة ومدروسة في طريق التبليغ العالمي.
وقد ألقيت هذه المهمة الثقيلة على كاهل الخلفاء الراشدين الذين ابتدؤوا الفتوحات الإسلامية لإنقاذ الشعوب من الاستبداد السياسي والاستغلال المالي والتفكك الاجتماعي والفساد الأخلاقي.
خصائص العولمة الإسلامية:
لقد انطلقت العولمة الإسلامية من منطلقات فكرية وعملية قوية، مما جعلها تلقى القبول لدى الأهالي في البلدان المفتوحة وتتجلى خصائصها في أنها:
- تحمل ميزاناً دقيقاً للحقوق والواجبات حسب الشريعة الإسلامية.
- تحرص على بناء مجتمع العدل والقوة.
- تنطلق من مبدأ المساواة بين البشر دون اعتبار للثروة والجاه أو اللون أو العرق.
- تتخذ الشورى أساساً للنظام السياسي.
- تُربّي الناس على الإبداع والإتقان من خلال دعوتها إلى العمران.
- تجعل العلم فريضة على الجميع لتفجير الطاقات الإنسانية لمواصلة التقدم والرقي.
الملكية العقارية بين الفرس الساسانيين والخلفاء الراشدين:
لنقتصر على نموذج واحد في المجال الاقتصادي لرصد العلاقة بين أشكال استثمار الأرض الزراعية في العهد الساساني والتحول النوعي في العهد الإسلامي.
لقد كان الفلاحون في سواد العراق أيام الدولة الساسانية يرتبطون بالأرض، وجلهم في حالة رق واستعباد، خاصة في ضياع الدهاقين والنبلاء، وتروي المصادر أن هؤلاء دأبوا على جباية الأموال واغتصابها من أصحابها لتدعيم مدخراتهم وإثراء كنوزهم، حتى يُروى أن (كسرى خسرو) الثاني اعتلى كرسي الملك وفي خزينته (2.68) مليون مثقال ذهبي لترتفع بعد ثلاثة عشر عاماً من الحكم إلى (800) مليون مثقال ذهبي مما دفع الفلاحين إلى هجر الأرض نتيجة الإرهاق الضريبي، واللجوء إلى الأديرة طمعاً في الترهب وفراراً من الظلم(4).
ولكن بعد الفتح الإسلامي اعتُبروا أحراراً، واقتصرت السياسة الإسلامية في عهد الراشدين على إبقاء الأراضي في أيديهم بدافع تشكيل القوى المنتجة من جهة، وتحديد مساحات تلك الأراضي بهدف ضبطها فنياً واقتصادياً، مما سهل أعمال جباية الخراج، وأنصف أصحاب الأرض العاملين فيها من جهة أخرى(5).
تأثير الحضارة الإسلامية في أوروبا المسيحية:
في ضوء الدور الحضاري المتجدد والمتطور للمسلمين خلال العصر الأموي والعصر العباسي، أمكن للحضارة العربية الإسلامية أن تقدم مثالاً من الكونية ونموذجاً من العولمة يتسم بالتأثير على أوروبا المسيحية عبر معابر الحضارة في الأندلس وصقلية ودمشق وفاس وغيرها من الحواضر الإسلامية تأثيراً إيجابياً؛ إذ لم يحتكر المسلمون المنهج التجريبي الذي اكتشفوه، بل تركوا المجال مفتوحاً أمام البعثات الطلابية التي كانت تأتي من أوروبا إلى الحواضر الإسلامية لتستفيد من الاكتشافات الإسلامية في مختلف فروع العلوم: في الكيمياء، والطب، والهندسة، والطبيعة، والرياضيات، والزراعة، وعلم الاجتماع، والحسبة.. إلخ، كما ساهمت أيضاً حركة الترجمة عن العربية - التي كانت لغة العصر - إلى اللغات الأوروبية وخاصة اللاتينية في نقل مناهج المبحث الإسلامي والكثير من نتائجها العلمية(6).
التسامح في التعامل مع غير المسلم:
لقد مثَّل الإسلام فتحاً في تقاليد العولمة من حيث التعامل مع غير المسلم؛ إذ كان المخالف (المُعارض) في أوروبا يُقتل أو يُطرد؛ بينما جاء الإسلام ليقبل الآخر المختلف معه في العقيدة أو الدين، ورتب له أوضاعاً قانونية وحقوقية تحفظ له وجوده، وتحفظ له ممارسة عقيدته، ويكفي أن نعرف أن غير المسلمين الذين عاشوا في المجتمعات الإسلامية قد ازدهرت حياتهم ولم يعانوا أية مشكلة؛ وعلى سبيل المثال فإن العثمانيين اتجهوا نحو التسامح مع الأقليات الدينية والعرقية، وتناقل المسيحيون عبارة قالها (لوكاس ناتوراس) الزعيم الديني البيزنطي في القسطنطينية حيث قال: "إنه خير لنا أن نرى العمامة في مدينتنا القسطنطينية من أن نرى فيها تاج البابوية"(7).
كما كانت الدولة العثمانية ملاذاً للهاربين من الاضطهاد الديني في أسبانيا وفي أوروبا؛ يقول المؤرخ البريطاني (توينبي) في هذا الشأن: "إنها لأول مرة في التاريخ استطاعت أن تتوحد الكنيسة الأرثوذكسية في ظل هذه الدولة التي كانت استراتيجيتها: (وحِّدْ واحْكُمْ)، بينما كانت الاستراتيجية الاستعمارية تتبنى مبدأ: (فَرِّق تَسُدْ) (8).
الاستعمار ووسائل التغريب:
عندما بدأ التخلف يطرق أبواب العالم الإسلامي لجملة من الظروف لا مجال لذكرها هنا، وأخذت موازين القوى تميل لمصلحة الأوروبيين مع إرهاصات النهضة، وبدأت أوروبا تسعى إلى تطويق العالم الإسلامي وإضعافه بكل الوسائل، فلم ينته القرن التاسع عشر الميلادي إلاّ وقد عظم شأن الاستعمار الغربي واستفحل، وسقطت أكثر البلدان الإسلامية تحت سيطرته أو نفوذه مستغلاً ضعف السلطنة العثمانية.
لكن الذي ينبغي ذكره هنا هو أن الاستعمار الغربي يدخل في نطاق العولمة السلبية؛ لأن مهمته كانت تقتصر على استغلال الموارد الطبيعية، وتوفير المواد الخام لصناعاته، والأيدي العاملة التكميلية، وتأمين سوقٍ مفتوحة لبضائعه. على أنه كان ينتظر الوقت الذي يستطيع فيه أن يستغني عن القوة العسكرية والتدخل المباشر ليعتمد في حراسة مصالحه على ما يسميه: "الصداقة".
وكان منح الاستقلال للمحميات أو المستعمرات بعد المواجهات الدامية وسيلة تخدم هدفاً مزدوجاً هو: إيجاد التواصل وإنشاء علاقة مستقرة ظاهرها الود والتفاهم وأساسها حراسة مصالح المستعمر، وتطوير السبل الكفيلة بدعم برامج التغريب (Westernigation) التي تطمح إلى طبع البلدان المختصة بطابع الحضارة الغربية(9).
وقد شمل التغريب كل الميادين، فتغلغل في السلوك الفردي، والفنون والآداب، والمناهج والبرامج والدراسية والإعلام، والاقتصاد، والقوانين... إلخ.
على أن العولمة الغربية تتكون من المراحل الآتية:
أ - عولمة التصفية الجسدية: ويدخل ذلك في نطاق ما تفعله القبيلة البدائية الغالبة بالقبيلة المغلوبة. وهو ما فعله همج الغزاة الأوروبيين في أمريكا من تصفية جسدية لأصحاب الأرض المحتلة (الهنود الحمر).
ب - عولمة الاستعباد الرقيقيِّ: وقد كانت تتمثل في ضرورة البحث عن حل لما يترتب على تلك التصفية باستيراد العبيد من القارة الإفريقية لمن يعتقدون في أنفسهم تمثيل النوع الأرقى (الرجل الأبيض).
ج - عولمة الاستعمار الاقتصادي: وكانت تتمثل في ضرورة التوسع دون تصفية واستعباد، لإيجاد مصادر للمواد الخام، والأيدي العاملة التكميلية، وأسواق مفتوحة للبضائع.
د - عولمة الاستتباع الحضاري: وتتمثل في جعل المستعمَرين توابع يفضلون بأنفسهم مستعمراً على مستعمر آخر دون حسبان للمصالح، بل يسعون لنوع من الاندماج الحضاري في قيم الغالب المفضَّل، وهو ما يمكن أن نسميه: اقتسام العالم إلى مناطق نفوذ ثقافي.
ه- - والمرحلة الأخيرة هي عولمة التصفية الروحية: عندما يصبح التابعون يجدون في سيدهم المثال الأعلى؛ بحيث يصبح همهم الوحيد أن يكونوا مثله مع الاعتقاد بأنهم لن يصبحوا كذلك إلا بنفي كل ما يميزهم عنه، وهو ما يمكن أن نطلق عليه: "الانتحار الروحي فيسخرون من لغتهم وأدبهم وتاريخهم وقيمهم؛ وهو ما يعني إبادتهم الحضارية، وهذا الذي أصبح غالباً على جلّ النخب العربية، وخاصة التابع منها للمافيات الحاكمة الفاسدة المفسدة"(10).
خصائص العولمة المعاصرة:
جاءت العولمة (Glabolisation) لتكريس توجه الهيمنة ولتفرض أنماطاً حضارية جديدة في إطار الليبرالية الجديدة، بهدف تقوية الرأسمالية العالمية وخدمة مصالحها.
وقد جرى استخدام مصطلح: "عولمة" في هذا العِقْد على نطاق واسع، وتنبع خطورة هذا المفهوم وأهميته من أنه تحوّل كلية إلى سياسات وإجراءات عملية ملموسة في كل المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية، وأضحى عملية تطرح في جوهرها هيكلاً للقيم تتفاعل كثير من الاتجاهات والاستراتيجيات في الغرب على فرضه وتثبيته، وقسر مختلف شعوب المعمورة - وخاصة المسلمين - على تبنّي تلك القيم وهيكلها ونظرتها للإنسان والكون والحياة.
فما هي العولمة إذن في صورتها المعاصرة؟
إنها ظاهرة تتداخل فيها أمور السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع والسلوك، وتحدث فيها تحولات على مختلف الصور تؤثر في حياة الإنسان على كوكب الأرض أينما كان.
ويسهم في صنع هذه التحولات ظهور فعاليات جديدة هي الشركات متعددة الجنسيات التي تتسم بالضخامة وتنوع الأنشطة والانتشار الجغرافي والاعتماد على المدخرات العالمية، ومنظمة الأمم المتحدة والمنظمات المتخصصة المنبثقة عنها كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي(11).
وهي وسيلة للهيمنة أو هي نمط من الاحتلال الجديد احتلالاً جدد آلياته وأساليبه بفعل التقدم التقني، فلم يعد قائماً على احتلال الأرض؛ بل أصبح قائماً على تحويل العالم كلّه إلى سوق استهلاكية للأفكار والمنتجات الغربية، أو بعبارة أخرى: فهي تمثل عصا استعمارية جديدة بحكومة عالمية خفية لها مؤسساتها: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ولها أدواتها: الجات، والسبعة الكبار.
والولايات المتحدة - مهندسة هذا النظام العالمي الجديد - أخذت بمساندة احتكارات الشركات متعددة الجنسيات ودعمها في اختراق مجتمعات عالم الجنوب أو العالم الثالث، وإخضاع شعوبها لأنماط المعيشة الغربية وتحديداً: الأمريكية.
مجالات العولمة:
عولمة الاقتصاد:
قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها دعت الولايات المتحدة حلفاءها لمؤتمر عقد في مدينة "بريتون وودز" عام 1944م، للتفكير في الأسس التي سيدار على أساسها النظام الاقتصادي العالمي.
وقد سيطرت على سير أعمال المؤتمر توازنات القوى التي نجمت عن الحرب، فكان من البدهي أن تصوغ أمريكا للعالم هذا النظام بما يحقق مصالحها.
وقد تمخص هذا المؤتمر عن ميلاد عدد من المؤسسات تشكل في مجملها الركائز التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الدولي وهي:
- صندوق النقد الدولي، ويقوم بدور الحارس على النظام النقدي العالمي.
- البنك الدولي: ويعمل على تخطيط التدفقات المالية طويلة المدى.
- الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة والتي تعرف اختصاراً باسم: (الجات)، التي تمخضت عن إنشاء المنظمة العالمية للتجارة(12)، وهي الشريك الثالث لصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي في وضع السياسات العالمية، كما عبّر عن ذلك مدير عام الاتفاقية (بيتر سذرلاند)(13).
ويعتبر الهدف الرئيس من الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة تمكين الدولة العضو من النفاذ إلى الأسواق لباقي الدول أعضاء الاتفاقية، وقيام كل دولة بتثبيت بنود تعريفاتها الجمركية إلى حدود مقبولة من باقي الأطراف المتعاقدة بالاتفاقية، بحيث لا يتم تغيير هذا الربط "التثبيت" إلا بعد الرجوع إلى بقية الأطراف وتعويض المتضررين منها بهذا التغيير(14).
لكن التفاوت الكبير في القوة السياسية والمنافسة الاقتصادية يجعل بنود الاتفاقية تصبّ في مصلحة الدول الكبرى؛ فقد أعلنت الولايات المتحدة عزمها على استغلال حق المطالبة بالتعويض أو فرض العقوبات التجارية في حالة الإخفاق في الوصول إلى حلّ مع المخالفين.
بل والأخطر من ذلك: أنه لأول مرّة في التاريخ الاقتصادي للأمم تصبح السياسة التجارية للدول المستقلة شأناً دولياً وليس عملاً من أعمال السيادة الوطنية؛ إذ أصبحت مقيدة بمجموعة من القواعد الملزمة وآليات التحكم الإجبارية؛ حيث إن منظمة التجارة العالمية تحدّ من قدرة دول الجنوب على التصرف المطلق ضمن حدودها الوطنية، وتملك حق تشريع قوانين دولية وسلطة قضائية تلاحق الحكومات التي لا تنصاع لقراراتها، وقوة شرطية تمارس حق التفتيش داخل الدول(15).
ومن جهة أخرى، فقد وضع الغرب آليات التحكم في الاقتصاد العالمي بناءاً على ثلاثة محاور:
أولها: النظام النقدي العالمي:
من خلال هيمنة الدولار الأمريكي على وسائل الدفع العالمية؛ حيث يمثل وسيلة الدفع العالمية المقبولة التي حلّت محل الذهب لتغطية إصدارات معظم عملات الدول، وبخاصة دول العالم الثالث. وتتحكم في هذا النظام المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بوضع السياسات النقدية التي تخدم هيمنة رؤوس الأموال الغربية على اقتصاديات دول الجنوب والكتلة الشرقية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية في شرق أوروبا بزعامة الاتحاد السوفييتي(16).
ثانيهما: التحكم في حركة رؤوس الأموال:
من خلال أسواق المال العالمية التي تتركز في الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، وأوروبا بالدرجة الثانية، واليابان بالدرجة الثالثة، وهذه الحركة لرؤوس الأموال تتم السيطرة عليها من خلال السياسات التي تضعها المؤسسات المالية الأمريكية التي تتحكم بدورها في المؤسسات المالية الأوروبية واليابانية من خلال تملّكها لمعظم أسهم تلك المؤسسات.
ومن أجل ذلك نجد الدعوة التي تتبناها المؤسسات المالية الدولية بتشجيع التخصيص، وبالسماح لرؤوس الأموال الأجنبية بتملك أسهم الشركات والسندات التي تصدرها الحكومات المحلية، ما هي إلا وسيلة لتحقيق الهيمنة الاقتصادية الغربية على اقتصاديات تلك الدول(17).
وقد أخذ البنك الدولي بتوجيه من الولايات المتحدة بإجبار دول العالم الإسلامي على إعادة هيكلة اقتصادياتها وفقاً لهذه السياسة الليبرالية، فاتجهت هذه الدول إلى الخارج لجذب رأس المال الأجنبي، وتبني مفهوم القطاع الخاص من خلال استخدام آليات السوق الحرة، وما يتطلبه ذلك من تحجيم واضح للملكية العامة وزيادة الفوارق الاجتماعية، ورهن أجيال المستقبل بالديون الخارجية.
ثالثها: الشركات متعددة الجنسيات:
وهي تمثل أهم مظاهر عولمة الاقتصاد، والإحصاءات الآتية توضح مدى خطورة تمركزها الرأسمالي:
- إن إيرادات أكبر خمسمائة شركة في العالم بلغ في عام 1994م نحو (10) تريليون و(254) مليار دولار، أي ما يقارب نصف الناتج المحلي الإجمالي لدول العالم في سنة 1993م.
- إن مبيعات أكبر 200 شركة تجاوزت مداخيل اقتصاديات (182) دولة ما عدا أكبر (9) دول؛ فقد وصل دخل (182) دولة إلى مستوى (6.9) تريليون دولار، بينما وصلت مبيعات أكبر (200) شركة إلى (7.1) تريليون دولار.
- إن حجم المبيعات لأكبر ثلاث شركات متعددة الجنسيات (إكسون، شل، موبيل) عام 1980م فاق حجم الإنتاج الوطني الإجمالي لكل دول العالم الثالث عدا سبع دول: (الصين، البرازيل، الهند، المكسيك، نيجيريا، الأرجنتين، أندونيسيا).
- في عام (1996م) تعدى حجم المبيعات السنوية لأكبر (20) شركة (67) مليار دولار.
أما بالنسبة لكل شركة على حدة:
- فليب مورس التي احتلت المركز (69)؛ فإن حجم مبيعاتها تجاوز حجم اقتصاد نيوزيلندا، ولها فروع في (170 دولة).
- متسوبيشي: المركز (22): حجم نشاطاتها الاقتصادية أكبر من حجم النشاط الاقتصادي لأندونيسيا التي تحتل المركز الرابع على المستوى العالمي من حيث تعداد السكان.
- جنرال موتورز: المركز (26): أكبر من الدانمارك في حجمها الاقتصادي.
- فورد: المركز (31) أكبر من جنوب إفريقيا اقتصادياً.
- تويوتا: المركز (36): أكبر من النرويج في نشاطها الاقتصادي.
وجدير بالإشارة أن مجال عمل هذه الشركات تجاوز الميدان الاقتصادي إلى العمل على التأثير في القرارات السياسية وثقافة الناس وطرائق عملهم، مما جعل كثيراً من الاقتصاديين والمهتمين بظاهرة هذه الشركات يخلُص إلى أنها نوع من الاستعمار بأسلوب يناسب وعي الشعوب وتطورها.
وكانت طموحاتها التجارية محفوفة بالنتائج الدبلوماسية العالمية في عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، ونذكر على سبيل المثال: الدور الذي قامت به الشركة الأمريكية (14) في أحداث 1972م في الشيلي التي أدت إلى سقوط نظام (سلفادور إلَّندي) ذي التوجه الماركسي، أو العمل الذي قامت به (British feroling) عام 1953م في إسقاط حكومة (مصدق) في إيران حين أمّم مصافي النفط وآباره.
وفي عام 1997م شاركت (إلف الفرنسية) التي تسيطر على ثلثي إنتاج النفط في الكونغو في الانقلاب الذي أطاح بالرئيس المنتخب (باسكال ليسوبا)؛ لأنه أراد كسر عملية الاحتكار التي تقوم بها (إلف) بالتفاوض مع شركات النفط الأمريكية.
بل في بعض البلدان كنيجيريا، فإن شركة النفط (شل) هي الحكومة الفعلية؛ ففي مقابلة مع (د. أوين سراويو) شقيق (كن سراويو) الذي أعدمته السلطات النيجيرية بسبب انتقاده لشركة (شل)، سألته مجلة (ملتنشيونال مونتر) في عددها الصادر في يوليو 1996م السؤال الآتي: إذن (شل) هي التي تحكم وليست الحكومة؟ فأجاب: نعم (شل) بطبيعة الحال هي التي تحكم فعلياً، هذا معروف جداً (أي في نيجيريا)(18).
ويقول (بيير أوجين) رئيس منظمة الشفافية العالمية، وهي منظمة تهتم بمراقبة الفساد المالي والإداري على المستوى العالمي: "إن نسبة كبيرة من الفساد المنتشر في دول العالم الثالث هي من صنع الشركات المتعددة الجنسيات التي تتركز مقارها في الدول الصناعية، وتعمل على تقديم رشاوى كبيرة لمسؤولي الدول المختلفة من أجل الفوز بالصفقات"(19).
العولمة الإعلامية والثقافية:
لقد تطور الإعلام بدرجة أدت إلى غزو جميع ميادين الأنشطة البشرية؛ حيث وُجدت بنيً أساسية عالمية تنتشر وكأنها نسيج عنكبوتي يمتد عبر العالم أجمع، مستفيداً من التقدم الحاصل في تقنية الرقميات وثورة المعلومات، ومن التداخل الحاصل بين قطاعات الاتصال والهاتف والتلفاز والحاسوب وشبكة المعلومات الدولية (إنترنت).
ونظراً للترابط القوي بين عولمة الثقافة ووسائل الإعلام، فإن الإحصاءات تشير إلى أن الاتصالات اللاسلكية تمثل سوقاً تُدرّ (525) مليار دولار سنوياً، وأن هذه السوق تزداد بنسبة 8 إلى 12% سنوياً.
ففي عام 1985م بلغ الوقت الذي استهلكه مستخدمو الاتصالات في العالم على شكل إرسال معلومات أو حديث أو فاكس (15) مليار دقيقة. وفي عام 1995م بلغ (60) مليار دقيقة(20).
ولأهمية قطاعات الاتصال في نشر وترويج أنماط معينة من الثقافة، قامت الولايات المتحدة بوضع ثقلها كله في معركة تحطيم الحواجز لتصبح الاتصالات قادرة على الانتقال دون عوائق تُذكر عبر العالم كلّه، كالريح فوق صفحة المحيطات.
ومن أجل ذلك انعقدت أربع مؤتمرات دولية (جنيف 1992م، بيونس أيرس 1994م، بروكسل 1995م، جوهانسبورج 1996) نجح خلالها الأمريكان من تسويق فكرتهم حول: "مجتمع المعلومات العالمي" والضغط لفتح حدود أكبر عدد ممكن من البلدان أمام التدفق الحرّ للمعلومات(21).
ولعل هذا هو ما حدا بباحث من وزن (نعوم تشومسكي) الأكاديمي الأمريكي المعروف أن يقول: "إن العولمة الثقافية ليست سوى نقلة نوعية في تاريخ الإعلام تعزز سيطرة المركز الأمريكي على الأطراف أي على العالم كله"(22).
ونلاحظ هذا من خلال قطاع الاتصالات الثقافية للنظام العالمي الذي أخذ يتطور طبقاً لتدفق المعلومات من منطقة المركز - الولايات المتحدة؛ أول منتج للتقنية الحديثة - إلى الأطراف - دول العالم الثالث خاصة - وهو ما يؤيده انتشار لغة بمفردها هي اللغة الإنجليزية.
وفي هذا الإطار عبّرت دول متقدمة داخل المنظومة الحضارية الغربية نفسها مثل: فرنسا، وكندا (مقاطعة كيبيك) عبرت عن التوجس الشديد من المخاطر الناجمة عن الهيمنة الأمريكية على الإعلام والثقافة تحت ستار العولمة؛ إذ إن وسائل الإعلام الأمريكية تسيطر في الواقع على 65% من مجمل المواد والمنتجات الإعلامية والإعلانية والثقافية والترفيهية، بل إن فرنسا تقاوم سيطرة اللغة الإنجليزية على شبكة الإنترنت؛ وذلك لأن 95% من حجم تداول المعلومات والاتصالات على الإنترنت باللغة الإنجليزية، في حين أن 2% فقط باللغة الفرنسية.
وفي هذا الصدد يقول وزير العدل الفرنسي (Jack tobon): "إن الإنترنت بالوضع الحالي شكْل جديد من أشكال الاستعمار، وإذا لم نتحرك فأسلوب حياتنا في خطر"(23).
ولذلك رفعت فرنسا خلال مناقشات ثقافة (الجات) الأخيرة شعار: "الاستثناء الثقافي".
وفي المقاطعات الكندية بلغت الهيمنة الأمريكية في مجال تدفق البرامج الإعلامية والتلفاز إلى حدّ دعا بعض الخبراء إلى التنبيه إلى أن الأطفال الكنديين أصبحوا لا يدركون أنهم كنديون لكثرة ما يشاهدون من برامج أمريكية(24).
ولعل تمكُّن الولايات المتحدة من تدعيم هيمنتها على العالم عبر قدرتها على التحكم في المنظومات المعلوماتية وتقنيات الاتصال هو ما دفع الباحثين إلى التعبير عن العولمة أنها: "أمركة"؛ إذ تستهدف بشكل خاص إشاعة وتعميم وتسييد أسلوب الحياة الأمريكية وقيمها من خلال:
1 - قرية المواصلات الأمريكية.
2 - وحدة السوق الأمريكية.
3 - حضارة الاستهلاك الأمريكي.
4 - وحدة النمط المعيشي.
5 - الديمقراطية الأمريكية(25).
وهذا التصور يعبر عنه بوضوح الرئيس الأمريكي بيل كلينتون بقوله: "إن أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وإننا نستشعر أن علينا التزاماً مقدساً لتحويل العالم إلى صورتنا"(26).
وتنبع خطورة عولمة الإعلام من كونها وسيلة للسيطرة على الإدراك وتسطيح الوعي وتنميط الأذواق وقولبة السلوك، وهدف ذلك كلّه هو تكريس نوع من الاستهلاك لنوع معين من المعارف والأفكار والسلع تشكل في مجموعها ما يطلق عليه د. محمد عابد الجابري: ثقافة الاختراق.
ونختم هذا الحديث عن العولمة الإعلامية والثقافية بكلام أحد الباحثين الغربيين في كتابه: "تغريب العالم" ينقل لنا فيه كيف تتم عملية الغزو الثقافي في بلدان العالم، يقول: "ينطلق فيض ثقافي من بلدان المركز، ليجتاح الكرة الأرضية، يتدفق على شكل صورة.. كلمات ... قيم أخلاقية، قواعد قانونية... مصطلحات سياسية... معايير ... كفاءة... ينطلق كل ذلك ليجتاح بلدان العالم الثالث من خلال وسائل الإعلام، المتمثل في إذاعات وتلفزيونات، وأفلام وكتب، وأسطوانات فيديو، وأطباق استقبال فضائية، ينطلق عبر سوق المعلومات التي تحتكرها الوكالات العالمية الأربع: أسوشيتدبريس ويونايتدبريس (الولايات المتحدة)، رويتر (بريطانيا)، وفرانس بريس (فرنسا)، وتسيطر الولايات المتحدة على (65%) من تدفق هذه المعلومات.
هذا الفيض من المعلومات يشكل رغبات وحاجات المستهلكين - أو بتعبير اخر: الأسرى السلبيين - يشكل أنواع سلوكهم، عقلياتهم، مناهج تعليمهم، أنماط حياتهم، وبذلك تذوب الهويات الذاتية في هذا الخضمِّ من الغزو؛ لأن مواد الغزو تُصنع في معامل الغرب وفق معاييره ومواصفاته المعينة"(27). ومن المؤكد أن المستهدَف خاصة بهذا الغزو الثقافي هم المسلمون: العرب منهم خاصةً، والمسلمون عامة، وذلك لعاملين اثنين:
أولهما: ما تملكه بلادهم من مواد أولية هائلة يأتي على رأسها النفط والغاز وثروات طبيعية أخرى.
ثانيهما: ما ثبت لهم عبر مراكز بحوثهم وجامعاتهم ومستشرقيهم أن هذه الأمة مستعصية على الهزيمة إذا حافظت على هويتها الإسلامية، ومن ثم فالطريق الوحيد هو القضاء على تفرد شخصيتها وإلغاء دينها الذي يبعث فيها الثورة والرفض لكل أشكال الاحتلال والسيطرة.
العولمة الاجتماعية:
تتحدد معالم هذه العولمة ومظاهرها من خلال مؤتمرات دولية كان الغرض منها تأطير الأنماط السلوكية الشاذة التي تتعارض مع الفطرة الإنسانية ونشرها، والتسلُّل لاحتواء موارد الدول الفقيرة واستغلالها لصالح المؤسسات المالية الغربية.
ففي شهر سبتمبر (أيلول) لعام 1994م عُقد في القاهرة المؤتمر العالمي للسكان والتنمية، وفي شهر سبتمبر (أيلول) لعام 1995م عقد في بكين مؤتمر المرأة، وفي شهر يونيو (حزيران) 1996م انعقد في إستانبول مؤتمر الإيواء البشري.
وهذه المؤتمرات أطَّرتها منظمة الأمم المتحدة، وهي الذراع التنفيذي لمخططات الولايات المتحدة وحليفاتها في أوروبا.
وإن كانت الشعارات التي دأبت الأمم المتحدة على رفعها وفق دعايتها هي تحسين أوضاع العالم الاقتصادية والتجارية والعمرانية والاجتماعية، لكن حقيقة الأمر بخلاف ذلك؛ بل إن هذه المؤتمرات أداة ووسيلة تستخدمها الليبرالية الجديدة للسيطرة على العالم فكرياً واقتصادياً من خلال تأطير السلوك الاجتماعي، واستبعاد الجوانب الأخلاقية في السلوك الاقتصادي وفق منظور خاص يخدم مصالحها الأيديولوجية والاقتصادية.
على أن الإجراءات التنفيذية التي رسمتها هذه المؤتمرات تدل دلالة واضحة على ذلك؛ ففي مؤتمر الإيواء البشري في إستانبول تم الاتفاق على مجموعة من الالتزامات تتضمنها وثيقة المؤتمر منها:
أ - التأكيد في البنود رقم: 140، 147، 150 من الوثيقة على ربط (السلطات المحلية) بالسوق المالي الدولي، ومؤسسات الإقراض الخاصة بالشؤون البلدية، مع العمل على توفير البنية التي تسمح للاقتصاد الدولي بالنمو والمساهمة في بناء البنية التحتية لمشاريع الإيواء وتكوين المراكز الحضارية(28).
ب - تغيير قوانين الملكية الخاصة بالأراضي: سواء الزراعية أو السكنية، وقوانين الإسكان والإيجارات، وفتح باب سوق شراء وبيع العقارات، وإزالة جميع العوائق الخاصة بتوفير المناخ الملائم لحرية السوق العقاري (البند رقم 56 من الوثيقة)(29).
ج - توسيع نظام الإقراض، وتمكين المؤسسات المالية العالمية من التغلغل في دول العالم الثالث من خلال عمل شبكة من البنوك، وربط تمويل توفير المباني والبنية التحية لمشاريع الإسكان بالإقراض الخارجي (البند رقم 30)(30).
ويتضح من خلال هذه البنود أن ما يحصل من أساليب إجرائية متعددة الأشكال لحل مشاكل اجتماعية واقتصادية هو تمكين لمراكز النظام الرأسمالي من إعادة احتواء دول العالم المتخلفة وإعادة امتصاص قواها طبقاً لمنطق تراكم رأس المال في تلك المراكز. والأخطر من ذلك أن هذه الإجراءات تؤدي حتماً إلى تآكل السيادة الوطنية التي تعدّ عاملاً كبيراً من عوامل تميز الهوية القومية للشعوب والأمم.
والحقيقة التي يجب أن تُذكر هنا هي أن هذه الأوضاع الجديدة ستعمق الهوة بين الفئات الاجتماعية وتزيد من معاناة الفقراء والمعوزين في مجتمعاتنا، ذلك أن آليات السوق التي تقوم عليها الفكرة الأساس للرأسمالية أو الليبرالية هي: أن من لا يستطيع كسب قوته يجب أن يموت؛ فهناك أصوات في الغرب تنادي بأن المليار من فقراء العالم الثالث زائدون عن الحاجة؛ وعليه فلا مسوِّغ لوجودهم ولا حاجة إليهم ضمن مفهوم فلسفة: البقاء للأقوى.
ولذا نجد الدعوة المستمرة لتغيير مفهوم الأسرة، والدعوة إلى الإجهاض، وقتل العَجَزة، وغير ذلك من الدعوات غير الأخلاقية وغير الإنسانية التي ما هي إلا نتيجة العبثية الرأسمالية العلمانية(31).
أما في مجال الأسرة التي تعدّ النواة الرئيسة لبناء المجتمع فنجد أنفسنا في مؤتمر بكين للمرأة أمام توصيات تدعو إلى نشر التعليم الجنسي، وإدماج كل أشكال الانحراف من الزنا إلى الشذوذ لتصبح أوضاعاً طبيعية(32).
وقد تم تعبيد الطريق لهذه التوصيات لتتحول إلى قرارات ملزمة في مؤتمر الإيواء البشري الذي انعقد بعد ذلك بسنة في إستانبول؛ حيث ينص البند رقم (18) من وثيقة المؤتمر على شمول الإيواء لمختلف أشكال الأُسَر؛ والمقصود من ذلك منح الشاذين جنسياً الذين يكوِّنون فيما بينهم أُسَراً، وتلك الأشكال من العلاقات بين الرجال والنساء الذين لا يرتبطون بعلاقات شرعية منحهم جميعاً مساكن للإيواء(33).
وفي الختام أقول: إن أخطر أنواع العولمة هي تلك "العولمة الطوعية" التي يدخل فيها الفرد باختياره وبملء إرادته؛ إذ توجد عولمة لا شعورية تلقائية يصل فيها المرء باختياره إلى الانهزامية والاستلاب في مواجهة النموذج الغازي، ولعل ذلك هو ما يقرره ابن خلدون في "مقدمته" أن المغلوب مولَع بتقليد الغالب.
لذلك ينبغي أن نفرِّق بين هزيمة الجيوش في ساحة المعارك، وانكسار الأمم والشعوب في مجال الأفكار والقيم؛ إذ إنّ الأولى في بُعدها العسكري هي تعبير عن طبيعة الحروب؛ فالمعارك ما هي إلا كرّ وفرّ وفقاً للسنة الإلهية: وتلك الأيام نداولها بين الناس {آل عمران: 140}. أما انكسار الأمم وهزيمة الشعوب النفسية فهي قاصمة الظهر.
ولعلّ ذلك ما علمتنا إياه تجربة التاريخ في حروب الفرنجة: "الحروب الصليبية"؛ فعلى الرغم مما حققته تلك الحروب خلال غزواتها المتعددة ومكوثها في بلادنا بين القرنين السابع والتاسع للهجرة الموافق للقرنين الثاني عشر والثالث عشر للميلاد، فقد استطاعت تلك الحملات الهمجية أن تُعمِلَ السيف في رقاب مئات الألوف، واستطاعت أن تمزق وتجزِّئ وتفسد في الأرض الإسلامية، ولكن الشيء الذي لم تستطع أن تفعله هو تخريب النمط العقدي والفكري والاجتماعي والحضاري ذي الطابع الإسلامي للبلاد؛ وهو الأمر الذي أبقى السلطة الفرنجية خارج المجتمع، على الرغم من أن حربها وسيوفها تغلغلت في داخل المجتمع الإسلامي.
لقتد أثبتت تلك التجربة أن الإسلام حين يبقى في قلوب الناس وفي شرايين حياتهم يشكل حالة مقاومة مستمرة تجعل الاحتلال أمراً مرفوضاً ومؤقتاً مهما بلغت سطوته ووصلت درجة قوته.
ولعل هذا ما يفسر موقف نابليون حين اجتاح مصر بجيوشه؛ فقد وجد نفسه في وجه "صَدَفَة مغلقة" لم يستطع أن ينفذ إلى داخلها، ولهذا تظاهر بإعلان إسلامه كذباً حتى يجد له مكاناً في الداخل ليجعل حكمه أمراً قابلاً للاستثمار.
وهكذا كل محتل في ظل العولمة لا بد له من تحطيم مقومات المجتمع الأصلي (ثوابت، مبادئ، قيم) ثم استحداث مجتمع آخر مكانه يحمل الرؤى الحضارية نفسها؛ وذلك لأن الهمينة الكاملة غير ممكنة ما لم تُحطَّم المقومات العقدية والحضارية، وتحلّ محلها مقومات التبعية من خلال إقامة المجتمع الاستهلاكي التابع، وبذلك تدخل الشعوب في مضمار العولمة الطوعية، وهي أخطر أنواع العولمة(34).
ومما لا ريب فيه أنّ المخرج من هذه التبعية التي تكرسها العولمة يوماً بعد يوم ينحصر في أمرين:
الأول: هو استعادة الوعي بالهوية الإسلامية، وتحصين العقل المسلم من الاختراق الثقافي والاستلاب الفكري في مجال القيم والمبادئ والأصول الثابتة التي لا غنى عنها في مواجهة خطط تذويب الذات وتدمير البنية التحتية العقائدية والفكرية التي تحفظ للأمة تحصينها واستقلالها، علماً بأن الهوية تعتبر الآن عنصراً هاماً واستراتيجياً بالنسبة لأمن الأمم والدول في إدارتها للصراع والتنافس مع الدول الأخرى.
والمطَّلع على خطط الدول سواءاً الأمنية أو التنموية يلحظ أن مسألة الهوية تحظى بعناية خاصة؛ لأنها خط الدفاع الأول عن ذاكرة الأمة ولغتها وتاريخها وقيمها الحضارية.
والثاني: الانفتاح على الحضارات الأخرى في مجال نقل التقنية وعلوم الوسائل حرصاً على امتلاك القوة في المجالات الاقتصادية والإعلامية والعسكرية لدعم التنمية الشاملة في بلادنا، وذلك بالربط المباشر بين السياسات الفعلية والتربوية وبين سياسات التنمية الشاملة في تلك القطاعات، لتفجير الطاقات الكامنة في المجتمع.
فالتقدم الحقيقي لا يمكن إحرازه إلا بالجمع بين الأصالة والمعاصرة، أو بعبارة أخرى بين الثابت والمتغير: ثابت يجب الحفاظ عليه ويتضمن اللغة والتاريخ وقيم التنشئة الاجتماعية، ومتغير يفتح المجال للتفاعل مع علوم العصر مع خلق المناخ الملائم للابتكار والإبداع والتجديد.
والنموذج الآسيوي (خاصة الياباني) خير مثال على ذلك؛ فاليابان بدأت الطريق إلى التقدم ببناء الإنسان أولاً، ودرس الحضارة الغربية بالنسبة لحاجاتها وضروراتها، وليس بالنسبة لكمالياتها وشهواتها. فالفارق العظيم بين صلة اليابان بالحضارة الغربية وبين صلتنا بها: أن اليابان وقفت من الحضارة موقف التلميذ، ووقفنا منها نحن موقف الزبون! إنها استوردت منها الآليات والوسائل بوجه خاص، ونحن استوردنا منها الأشياء بوجه خاص.
والأمة العربية الإسلامية إذا أرادت التقدم ورغبت أن تدخل حلبة السباق الحضاري فإنه لا سبيل لها إلا أن تقف هذا الموقف المتوازن، فتستفيد مما عند الغرب من تقدم مادي وعلمي، وفي الوقت ذاته تحذر من الذوبان في شخصية الغرب وهويته، وتتفاعل مع قيمها وهويتها الإسلامية.

الهوامش:
(1) الضرب: النوع.
(2) ابن هشام: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم،ج2، ص27.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الجهاد والسير، باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام، ج12،ص112.
(4) نقلا عن :عبد المجيد قدي: قراءة في واقع تخلف العالم الإسلامي، ص82.
(5) انظر: أبو يوسف : كتاب الخراج،ص3638.
(6) انظر: غوستاف لوبون، حضارة العرب، وزيغرد هونكة، شمس العرب تسطع على الغرب.
(7) محمد حرب:العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص71.
(8) محمد كمال منصور: توظيف ورقة الأقليات في العالم الإسلامي (حالة تيمور الشرقية)، ص71.
(9) محمد محمد حسين، الإسلام والحضرة الغربية، 41، 42، 45، 46.
(10) أبو يعرب المرزوقي: العولمة والكونية، ص19.
(11) عمرو عبد الكريم: العولمة، عالم ثالث على أبواب قرن جديد، ص35.
(12) المرجع نفسه،ص40.
(13) ياسر قارئ: اتفاقية التجارة العالمية ( )،ص7.
(14) عمرو عبد الكريم: العولمة، ص40.
(15) المرجع نفسه، ص39.
(16) محمد بن عبد الله الشباني: مؤتمر القاهرة الاقتصادي، ص3132.
(17) المرجع نفسه، ص32.
(18) أحمد بلوافي: الاستعمار الجديد (الشركات متعددة الجنسيات)، ص 2223،( نقلا عن:الشقيقات السبع: شركات البترول والعالم الذي صنعته لأنتوني سمبسون).
(19) أحمد بلوافي: الاستعمار الجديد،ص2729(نقلا عن مجلة ملتنشيونال مونتر).
(20) المرجع نفسه،ص29.
(21) عمرو عبد الكريم: العولمة نص42.
(2223)المرجع نفسه، ص43.
(24)أبو يعرب المرزوقي: العولمة والكونية، ص27.
(25-26)ندوة:هويتنا الإسلامية، الشيخ محمد بن إسماعيل، مجلة البيان، العدد129،ص46.
(27) المرجع نفسه،د.مصطفي حلمي، ص55( نقلا عن : لا توش: تغريب العالم ).
(28) محمد بن عبد الله الشباني: العولمة الاقتصادية ومؤتمر الإيواء البشري، ص98.
(29) المرجع نفسه، ص98.
(30) المرجع نفسه،ص98.
(31) محمد يحيى: تدشين الأممية النسوية العلمانية (قراءة خلفيات مؤتمر المرأة ببكين)، ص98.
(32) محمد بن عبد الله الشباني : العولمة الاقتصادية، ص