Slide Ads

Tuesday, June 23, 2009

العولمة الفكرية الإسلامية

العولمة الفكرية الإسلامية

أ . د. عابد السفياني (*)

إن «الإسلام» هو الرسالة الخاتمة التي أُرسل بها رسولنا محمد عليه وعلى إخوانه المرسلين أفضل الصلاة والسلام، وهي رسالة عالمية لها مبادئها الشاملة لجميع أحوال البشرية العقدية والتشريعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة والعامة، ويدخل في ذلك من آمن بها من أهل الإسلام ومن دخل تحت أحكامها ونظامها التشريعي من غير المسلمين.

ومن المناسب أن نقول إن انحسار العولمة الإسلامية هو سبب لفتح الطريق للعولمة الكفرية. والعولمة الفكرية الغربية هي اتخاذ الأمم الكافرة الوسائل لنشر مبادئها ونظمها وأفكارهـا عالمياً، وهـو ما يُسمى الآن بـ «العولمة الفكرية» ـ بالنسبة للغرب ـ التي تتمثل في نشر أفكاره ونظامه.

ونذكر مثالاً يوضح الفرق بين العولمة التشريعية في الإسلام، وبين العولمة التشريعية بالنسبة للكفار.

حرّم الإسلام نكاحَ المحارم، وحرّمَ السفاح والزنى واللواط على المسلمين وعلى غير المسلمين من الكفار اليهود والنصارى، والمجوس وغيرهم، وقام المسلمون بدعوة الناس جميعاً لاجتناب الرذائل، وألزموا مَنْ دخل في الإسلام بتركها، ومَنْ بقي على كفره وكان مع المسلمين في بلادهم أيضاً؛ لأنها محرمة على الجميع، ونُشِرَ هذا التشريع عالمياً واستفاد المسلمون والكفار من الآثار الإيجابية المترتبة عليه، فانحسرت الرذائل وآثارها السلبية(1)، وهذه عولمة تشريعية إسلامية.

أمّا الكفار فيحاولون أن يعولموا الإباحية ويُصدروا التشريعات التي تبيح الفواحش والشذوذ وينشروها من خلال الأنظمة الوضعية والمؤتمرات الخاصة بالمرأة والسكان، وإطلاق الحريات.

ولهذا فإنني أرى أن توصف جهود المسلمين في نشر الإسلام عالمياً بقولنا: «العولمة الفكرية الإسلامية» ويشمل ذلك التعريف بالإسلام، ومن ثمرته دخول الناس أفواجاً في الدين، وهؤلاء بمقتضى الإسلام يكون معهم العلم به والعمل، ويُطلب منهم أن يشاركوا في نشره وهذا يوسع دائرته العالمية.

وأمّا الكفار الذين يدخلون تحت حكم الإسلام ونظامه فهؤلاء يدخلون تحت «العولمة الفكرية والتشريعية» إن صح التعبير، وإن لم يدخلوا تحت اسم الإسلام. فالعولمة التشريعية أو الفكرية الإسلامية تعني نشر الإسلام عقيدةً، كما تعني نشر النظام الإسلامي، ويشمل ذلك مصطلح الدعوة الإسلامية.

وأمّا جهود الأمم الكافرة في نشر أنظمتها وأفكارها وتشريعاتها الرأسمالية أو الإباحية فيجب أن يُسمى ذلك بـ «العولمة الكفرية»، ويشمله قولنا: الدعوة الكفرية، أو الدعوة إلى الكفر، أو الدعوة لنشر أنظمة الكفار ومناهجهم ومذاهبهم.

ذكر الأدلة النقلية والعقلية على وجوب إخضاع البشرية لعالمية الإسلام:

1 - قال الله ـ تعالى ـ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ }[البقرة: 213].

عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق»، قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «وهذا القول صحيح عن ابن عباس سنداً ومعنى؛ لأن الناس كانوا على ملة آدم عليه السلام»(1).

ففي هذه الفترة كان العالم يعيش تحت شريعة واحدة وهذا هو الأصل في البشرية، وهذه الشريعة الإسلامية هي الحق والهدى والخير والعفاف، ويقوم على ذلك حفظ الدين والأنفس، والعقول، والأعراض، والأموال.

2 - أن الشرائع الإسلامية في جميع العصور جاءت بالنظام الذي يحفظ تلك الضروريات التي يسميها العلماء الضروريات الخمس التي سبق ذكرها آنفاً، والتي تكوّن الأمة الواحدة ذات المبادئ الواحدة والنظام العالمي الواحد، وقد طرأ الاختلاف في البشرية بعد أن لم يكن، فلما وقع الاختلاف، وطرأ الشرك، وظهرت الخرافة والظلم والبغي، وخالف بعض الناس الشرائع الإسلامية أرسل الله نوحاً ـ عليه السلام ـ ليرد الناس إلى ما كانوا عليه.

يؤكد ذلك أنه مَا مِنْ نبي ورسول إلا ويأتي بالدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك، والأمر بإقامة أركان الإسلام والإيمان وتطبيق الشرائع الحافظة للأنفس والأعراض والعقول والأموال.

قال الله ـ تعالى ـ: )وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [الإسراء: 23]، وقوله ـ سبحانه ـ: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [يس: 60، 61].

وقوله ـ سبحانه ـ: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ } [البقرة: 83].

وجاء الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم يجدد هذه الدعوة لتكون للعالمين نذيراً، ولتكون للعالمين ذكراً: {إنً هٍوّ إلاَّ ذٌكًرِ لٌَلًعّالّمٌينّ} [التكوير: 27] .

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

ويؤكد القرآن مفهوم الأمة الواحدة العالمية: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: 92].

ومن أكبر مقاصد هذه الوحدة العالمية ما يلي:

أ - تذكير البشرية بنشأتها الأولى.

ب - تأكيد وحدة الفطرة الإنسانية.

ج - تأكيد حاجة البشرية للعبادة المبنية على التوحيد الخالص.

د - تقديم الحلول العملية التطبيقية للمحافظة على مصالح البشرية الدنيوية والأخروية؛ ففي الدنيا المحافظة على تلك الضروريات، وفي الآخرة النجاة من النار ودخول الجنة، والفوز برضوان الله.

3 - عناية الإسلام العظيمة بتأكيد حفظ ضرورات البشرية، واستمرار نشأتها الخيّرة الأولى. وإن من المقاصد العظيمة للإسلام كف البشرية عن الشرور التي ترتبت على الاختلاف الذي وقع بسبب الشرك والظلم والبغي والفواحش؛ ولهذا قال الله ـ سبحانه ـ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [البقرة: 213].

فأما الفريق من الناس الذين ظلموا وبغوا وتركوا مقتضى العلم الصحيح والعمل بالهدى والحق، فهؤلاء خلافهم وشرورهم طارئة على البشرية، وترتب على هذا الخلاف نشوء جميع الضلالات والانحرافات العقدية والعملية الموجودة في هذا العالم؛ فكانت رسالات الأنبياء ـ عليهم السلام ـ تُعنى بمحاربة تلك الشرور التي ترتبت على تلك المخالفات مع عنايتها بتجديد التوحيد والأمر بإقامة أركان الإسلام.

ولهذا ذكر العلماء ـ رحمهم الله ـ أن كل مقصد من مقاصد الإسلام بُني من جهتين: من جهة إيجاده والقيام به، ومن جهة حمايته، ومن الأمثلة على ذلك ما يلي:

أمر بالتوحيد ونهى عن الشرك، أمر بالصدق ونهى عن الكذب، أمر بالزواج ونهى عن الزنا، أمر بالصدق والعفاف ونهى عن قطع الأرحام والفواحش، أمر بالعدل في المعاملات ونهى عن الجور والربا والعقود الفاسدة، أمر بالوفاء ونهى عن الغدر والخيانة، وغير ذلك من المبادئ العالمية؛ أي التي هــي ذكــر للعالمين ويحتاجـها جميع الناس، ولا تصلح الأرض إلا بإقامة التشريع الإسلامي، ثم المحافظة عليه. وواضح من هذه الأمثلة: أن الطارئ على البشر هو الفساد والشرك والفواحش والربا والغدر والخيانة والطغيان السياسي والاقتصادي والإباحي، وهذا كله طارئ على نشأة البشرية، ومخالف لفطرتها؛ ولهذا شدد الإسلام على أتباعه، وأمرهم بمحاربة هذا الفساد، وأن يشهدوا عن طريق نشر العلم والدعوة، وعن طريق العمل والواقع بتجريم هذه الانحرافات، ورد البشرية عنها.

ولما ضعُف جهد المسلمين العلمي والعملي والدعوي وانحسرت قوتهم ازداد الكفار في غيهم ومخالفاتهم وانحرافاتهم، وعظُم الطغيان الرأسمالي، والربا، ونشر الفساد والإباحية والانحرافات الأخلاقية، وما زالوا يحاولون عولمتها. وهذا كله من مسائل الجاهلية التي جاء الإسلام لمحاربتها. والواجب على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها نشر العلم والاعتقاد والعمل الذي يقف في وجه هذه الانحرافات والشرور والفساد، ورفض هذه العولمة المنحرفة سواء من الناحية الفكرية أو التشريعية، وتقديم البديل الذي هو: العولمة الإسلامية العقدية لمن يقبل الإسلام ديناً، والفكرية والتشريعية لمن يخضع له نظاماً، أو يستفيد من مبادئه وتشريعاته.

ونختم هذا المقال بصورتين لهما أكبر الدلالة فيما نحن فيه:

الصورة الأولى: صورة للعولمة الفكرية أو التشريعية أو العقدية الكفرية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما وردت في الحديث الصحيح: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب»(1). أي قليل من أهل الكتاب على دين صحيح لم يُبدل.

وهــذه هـي الصــورة لحياة الجـاهلية قبل بعثتـه عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا نقول: إن العولمة الكفرية التي يقوم بها الغرب اليوم هي عولمة مقيتة ممقوتة؛ لأنها مبنية على مسائل الجاهلية: من رأسمالية، وربا، وإباحية، وطغيان سياسي. أما الرأسمالية فإنها تضطهد الفقراء شعوباً ودولاً وأفراداً، وأما الربا فهو السبب الكبير في المشاكل الاقتصادية التي أرهقت الشعوب، وأما الإباحية فقد حوّلت المرأة إلى سلعة تُستعمل في الجنس والدعاية والفن الرخيص.

ولا يزال الغرب يبذل ما يستطيع لعولمة هذه الانحرافات، ويحارب الشريعة الإسلامية؛ لأنها تجرّم الطغيان الرأسمالي والإباحية وتنهى عن الظلم والفحشاء.

وأما الطغيان السياسي فقد نشر الظلم، وأهدر الحقوق وأصبح القوي هو الذي يتحكّم كما يشاء.

ولهذا فإن مَنْ أسمى نفسه: «النظام العالمي الجديد» يعتبر العالم قريةً واحدة يريد أن يعولم فيها أفكاره وتشريعاته الرأسمالية والإباحية والسياسية، وكل ذلك على حساب كرامة الإنسان ومقدرات الشعوب.

الصورة الثانية: المبادئ الإسلامية العالمية ويتحدث عنها رجلان، أحدهما زعيم من زعماء الجاهلية الأولى، والثاني رجل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أما الأول: فهو أبو سفيان بن حرب القرشي قبل أن يُسلم؛ وذلك حين سأله زعيم من زعماء الروم عن الإسلام ومبادئه العالمية؛ فقد جاء في الحديث الطويل الذي رواه عبد الله بن عباس في قصة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر: قال قيصر لأبي سفيان: «فماذا يأمـركـم؟ قال: يأمرنا أن نعبـد الله وحــده لا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف، والوفاء بالعهد وأداء الأمانة»(2).

ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام هو أول مراحل نشر العالمية الإسلامية.

وأما الثاني: فهو الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ الذي تحدث عن الإسلام في بلاد الغربة عند الملك النجاشي، وقبل أن نذكر قيام جعفر ـ رضي الله عنه ـ وأصحابه بإعلان المبادئ العالمية للإسلام عند النجاشي نحب أن نشير إلى أن أبا سفيان بن حرب في كفره لو استطاع هو وقيصر أن يعولموا مبادئهم الضالة لفعلوا، وقد حاولت قريش أن تعمم انحرافاتها وموقفها من الدعوة الإسلامية، وأن تطارد المسلمين في خارج أراضيها وحدودها، وحاولت أن تقنع النجاشي بأن ما هي عليه من الشرك والفساد في الأعراف السياسية، والاقتصادية والظلم الاجتماعي إنما هو العدل، وهو الذي يجب البقاء عليه وهو الصالح للحياة البشرية، وأنّ تعاونهم على إبقائه والدفاع عنه هو السبيل لمقاومة مبادئ الإسلام، وهنا يظهر الصراع بين الكثرة التي تريد أن تنشر المبادئ الكفرية وتُعوْلمها، وبين القلة التي ترفض عولمة الكفر والتشريعات المنحرفة، وترفض الظلم في جميع مجالاته سواء الظلم في الاعتقاد، أو الظلم السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو الأخلاقي، وهي مع رفضها لهذه الشرور والانحرافات تقاوم الغربة والاضطهاد، وتعلن عولمة المبادئ الإسلامية ولو كره المشركون.

وإليك صورةً من المواقف العملية لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقفون مُتجردين من كل قوة إلا قوة الإيمان؛ لتكون نبراساً وقدوة لنا على الطريق ونحن نواجه عولمة الانحراف في شتى مجالاته في هذا العصر، ونترك القارئ في ختام هذا الحديث يتملى هذه الصورة النيرة للمواقف المشرفة كما ذكرها ابن إسحاق في السيرة النبوية. قالت أم سلمة بنت أبي أمية: «لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جارٍ النجاشي، أَمِنَّا على ديننا، وعبدنا الله ـ تعالى ـ لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلَيْن منهم جَلْدَيْن، وأن يُهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدَم(1)، فجمعوا له أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تُكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يُكلمهم. قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار، عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يُكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضَوَى(2) إلى بَلَد الملك منا غِلْمانٌ سُفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مُبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً(3)، وأعلم بما عابوا عليهم؛ فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قدّما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك! إنه قد ضوى إلى بلدك منّا غلمان سُفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم؛ فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي. قالت: فقالت بطارقته حوله: صَدَقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عَيْناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسْلمْهم إليهما فليردّاهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لا ها الله! إذاً لا أسلمهم إليهما، ولا يُكاد قومٌ جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على مَنْ سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك مَنعتُهم منهما، وأحسنتُ جِوارهم ما جاوروني.

قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسولُه اجتمعوا، ثم قال بعضُهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول: والله ما عَلِمْنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤوا، وقد دعا النجاشي أساقفته(4)، فنشروا مَصاحفَهم حولَه سألهم فقال لهم: ما هذا الدينُ الذي قد فارقتم فيه قومَكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلّمه جعفرُ بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منّا الضعيفَ؛ فكنّا على ذلك؛ حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصِدْقه وأمانَتَه وعفافَه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبدَه، ونخلَع ما كنا نعبدُ وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمَرَنا بصِدْق الحديث، وأداء الأمانة، وصِلة الرحم، وحُسْن الجِوار، والكَفِّ عن المحارم والدِّماء، ونهانا عن الفَواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقَذْف المُحْصنات؛ وأمَرَنا أن نعبد الله وحده لا نُشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ـ قالت: فعدد عليه أمور الإسلام ـ فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرَّمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردُّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنّا نستحلُّ من الخبائث، فلما قَهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على مَنْ سواك؛ ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم! فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ! قالت: فقرأ عليه صــدراً مـن: { كهيعص } [مـــريم: 1]. قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضلت(1) لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم؛ ثم قال [لهم] النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة(2) واحدة. انطلقا، فلا والله! لا أسلمهم إليكما ولا يُكادون»(3).

وهكذا يجب أن يبيّن المسلمون للعالم عالمية الإسلام، ويدعوا إلى مبادئـــه؛ كما أظهـــر جعفــر ـ رضي الله عنه ـ مبادئ الإسلام وعدَّد منها التوحيد، وإنكار الشريك والخرافة والتقليد، كما عدَّد منها الصدق، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحُسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء والفواحش وقول الزور، واستنكر ـ رضي الله عنه ـ أمر الجاهلية، وقد فهم النجاشي ملك الحبشة أن هذه المبادئ، وهذا الحق هو الذي جاء به عيسى ـ عليه السلام ـ وأنه يخرج من مشكاة واحدة، ورد زعماء الجاهلية الذين خرجوا من مكة يطاردون الدعوة الإسلامية.

ومثلهم أولئك الذين يطاردون الفضيلة ومبادئ الدعوة الإسلامية اليوم، ويخططون لعولمة الرأسمالية والإباحية ويتعجبون من المبادئ الإسلامية والفضيلة، ويكرهون أن ينتشر الحق في البشرية.

إن خطط الجاهلية الأولى قد أخفقت في محاربة الحق والفضيلة والعفاف والخير، وكذلك خطط العولمة الكفرية المعاصرة؛ والإسلام اليوم قد خطا خطوات واسعة نحو العالمية من حيث العلم والفكر، وكما انحسرت الجاهلية الأولى أمام مبادئ الإسلام يوم قام أمثال جعفر ـ رضي الله عنه ـ باستنكار أمر الجاهلية وإعلان مبادئ الإسلام فكذلك اليوم ستنحسر العولمة ـ بإذن الله ـ إذا قام المسلمون بمثل ما قام به دعاة الإسلام في جيل القدوة، وسيتقدم الإسلام نحو العالمية لا من الناحية الفكرية فقط، بل من الناحية العملية العقدية والتشريعية، وسيدخل الناس تحت سلطانه إمّا بمقتضى عقد الإسلام، وإما بالخضوع لنظامه، والله ـ سبحانه ـ ناصر دينه، وهو نعم المولى ونعم النصير.

------------

(*) عميد كلية الشريعة في جامعة أم القرى سابقاً، وأستاذ العقيدة في الكلية نفسها حالياً.

(1) حرمت الشرائع الإسلامية لدى الأنبياء ـ عليهم السلام ـ الفواحش والربا، انظر كتاب: حكم الزنا في القانون وعلاقته بمبادئ حقوق الإنسان في الغرب، دراسة في ضوء الشريعة الإسلامية، للكاتب.

(1) تفسير ابن كثير، 1/ 251.

(1) أخرجه مسلم، رقم 2865. (2) رواه البخاري، باب دعاء النبي إلى الإسلام، 4/56.

(1) الأدم: الجلود، وهو اسم جمع. (2) ضوى: لجأ ولصق.

(3) أعلى بهم عيناً: أبصر بهم.

(4) الأساقفة: علماء النصارى الذين يقيمون لهم دينهم، واحدهم: أسقف، وقد يقال بتشديد الفاء.

(1) كذا في أكثر الأصول، واخضلت لحيته: ابتلت. وفي نسخة: «حتى أخضل لحيته»: أي بلها.

(2) المشكاة: قال في لسان العرب: «وفي حديث النجاشي: إنما يخرج من مشكاة واحدة. المشكاة: الكوة غير النافذة؛ وقيل هي الحديدة التي يعلق عليها القنديل»، أراد أن القرآن والإنجيل كلام الله تعالى، وأنهما من شيء واحد.

(3) المغازي، لابن إسحاق، ص 358.

No comments: