Slide Ads

Tuesday, June 23, 2009

النساء ومخاض الحداثة

النساء ومخاض الحداثة



محمد سبيلا




الحداثة مبدئيا، فعل ذكوري بامتياز لأن المساهمات الأساسية في بناء الحداثة في صيغتها الكونية هي، على العموم، مساهمات ذكورية من طرف علماء ومستكشفين وفلاسفة... ولكن الحداثة - التي هي فعل ذكوري إلى حد كبير - هي مع ذلك أكثر الأفعال الذكورية أنثوية. هذا الفعل الحداثي الذي هو فعل ذكوري، هو أولا فعل تحرير، وطاقة تحريرية، لأن القيمة الأساسية للحداثة هي الحرية والفردية، قيمة الفرد وقيمة الفكر الحر الشخصي. أولا الحرية، ثانيا قيمة الفرد: هذه هي الأقانيم الأساسية للحداثة الأم.

الحداثة هي إسهام بشري في تحرير الإنسان، بالكشف عن أسرار الطبيعية، ومحاولة الحد من مخاطرها، ومحاولة تطوير قدرات الإنسان ما يزيد من حرية الأفراد والمجتمعات ومن قدرتها على الفعل. والحداثة هي أيضا تحرير للشعوب (حق السيادة والمشاركة السياسية)، وللأفراد وللفئات اقتصاديا وسياسيا وفكريا. في هذا الإطار تندرج قضية المرأة بمعنى أن المفهوم النسائي مرتبط بتحرير فئات اجتماعية معينة كالنساء. لقد ساهمت الحداثة في تحرير فئات اجتماعية بعينها كفئة العبيد، كما ساهمت في تبلور كيانات وفئات اجتماعية معينة من بينها النساء والأطفال.

إذا كانت الحداثة أولا طاقة تحررية ومشروعا تحرريا للأفراد والشعوب والفئات (العبيد، النساء...) فهي ثانيا طاقة استكشافية ومعرفية. فالحداثة مرتبطة بتطور العلم وبتطور المعرفة أي باستكشاف الطبيعة والفهم الموضوعي لنظامها وقوانينها، أي الفهم غير الأسطوري وغير الخرافي لها، أي تطهيرها من زوائدها لمعرفة آلياتها والتعرف عليها كما هي، والانتقال من الفهم الغائي أو السحري للطبيعة إلى فهم القوانين التي تحكمها ووصف التفاعلات التي تحدث فيها. هذا الجانب المعرفي للحداثة هو جانب استكشافي أي محاولة فهم آليات الطبيعة لتسخيرها لصالح الإنسان.

ثالثا: الحداثة طاقة تعبوية بمعنى أنها تعبئة الموارد البشرية وتحرير الناس وتحويلهم من كم مهمل ومن أفراد لاقيمة ولا فاعلية لهم إلى أفراد لهم أولا كامل الحق الإنساني بمعنى الاعتراف بالمساواة الصورية المطلقة، المساواة القانونية المطلقة بما يعني إلغاء الاستثناءات، أي استثناء فئات بشرية بعينها إما عرقية او لغوية او دينية، واعتبار كل البشر متساوين وبالتالي التعبئة القصوى للموارد البشرية ثم تعبئة للطاقات والإمكانات والقدرات التي يتوفر عليها الناس، من حيث هم كائنات متساوية القيمة بغض النظر عن الدين أو العرق أو النوع.

إذاً هناك خصوصية في علاقة الحداثة بالمسألة النسائية. لا جدال في أن تاريخنا مليء بسلوكات وبتقاليد ثقافية تحط من قيمة المرأة سواء في تاريخنا المحلي أو القومي أو الديني. لكننا نجد كذلك في تراثنا الإسلامي العديد من النقاط المضيئة سواء في القرآن الكريم أو السيرة النبوية أو حتى في بعض الاجتهادات التي قدمها العديد من الفقهاء. ولكن ما حدث مع الأسف أن هذه الطاقة التحريرية التي جاء بها الإسلام في إشعاعه الأول في اعتبار النساء شقائق الرجال، وفي الحد من تعدد الزوجات، هذه الإشراقات التحررية بدأت تخبو مع الزمان، بخاصة في عصور الانحطاط التي تغلبت فيها ثقافات الضواحي وثقافات المناطق الصحراوية المتخلفة في العالم الإسلامي. وربما كانت الوليمة النفطية هي ذروة اشعاع هذه الرؤى التي تعود إلى عصور الانحطاط حيث اندغم نوع من الفكر الأسيوي أو التقاليد البدائية الأسيوية مع فكر بدوي أو صحراوي... يحط من قيمة المرأة.

وهكذا وجدنا أنفسنا في العقود الأخيرة أمام عودة وحضور قوي وكاسح لذلك الجانب القدحي والتنقيصي في تصور المرأة ومعاملتها سواء باعتبارها كائنا ناقصا نقصا بيولوجيا، أو عقديا، أو معرفيا أو أي شكل من أشكال النقص، حيث عادت هذه الثقافة التحقيرية للمرأة لتنتشر في العقود الأخيرة على نطاق واسع وذلك بتوازٍ وتلازمٍ مع شيوع "الفكر" التحريمي الذي يتخذ مواقف متشددة ومحافظة تجاه كل مظاهر التحديث، ويفهم التراث الروحي والدين فهما متحجرا مضادا للتطور.

كمثال على ذلك، هنا أورد كتابا مشهورا لابن باز، بعنوان "من منكرات الأفراح والأعراس" وفيه الكثير من المواقف المتشددة تجاه المرأة التي تشكل دستورا للفكر التحريمي.

وهذا الكتاب ليس مجرد كتاب عادي لأن صاحبه كان مفتيا ومؤثرا وكان من صناع السياسة الدينية في المملكة العربية السعودية لعقود عدة والتي كانت تضخ بملايين الكتب وآلاف الجرائد والمجلات وعشرات القنوات الفضائية.

لابن باز هذا الكثير من الفتاوي التحريمية من أشهرها فتوى تحريم التلفاز. وهذا الكتاب نموذج للفكر التحريمي، إذ فيه يحرم على المرأة: السفر وحيدة أو بدون محرم ـ وزيارة الطبيب الذكر ـ وارتداء الملابس العصرية ـ استعمال موانع الحمل ـ رفع الصوت أمام الرجل ـ السلام باليد على الرجال ـ قيادة السيارة ـ تصوير الوجه ـ الاختلاط ـ شهر العسل ـ رؤية الخطيب ـ خاتم الخطوبة ـ الجلوس مع الخطيب على المنصة أو الهودج (العمارية) ـ الوقوف في الشرفة ـ المشي وسط الطريق ـ الالتفات إلى الوراء ـ إظهار القدم أو الظفر...إلخ.

لكي نفهم الدور التحريري للحداثة يجب أن ننتبه إلى رسوخ هذا الفكر وقوته وهو الفكر المتشدد التحريمي الذي أقل ما يقال عنه أنه يطمس صورة أخرى مضيئة موجودة في تراثنا وفي تاريخنا الإسلامي وحتى في بعض ممارساتنا الاجتماعية في هذا القطر أو ذاك.

إذاً الحداثة كطاقة تحريرية للعديد من الفئات الاجتماعية وللنساء بخاصة، تقدم للمرأة مجموعة هدايا. فكر الحداثة يعيد للمرأة قيمتها ككائن إنساني مساوٍ للرجل، ويعيد لها كرامتها وحقها الكامل في الإنسانية، ويمنحها حق المساواة في المواطنة، ويحولها من موضوع إلى ذات فاعلة مسؤولة وحرة.

ولكي لا أذهب بعيدا في التحليل أقف عند نموذج التحرر الذي تعيشه المرأة في المغرب اليوم، الذي هو المدونة التي تمثل إلى حد ما قدرة توفيقية كبرى بين ما في تراثنا من تحرر كامن ومن قدرة على التطور وبين الأفكار الحداثية وذلك عندما تتوفر الإرادة السياسية التي هي تعبير عن إرادة المجتمع وإصغاء لرغبة المجتمع في التطور. فمع توفر الإرادة السياسية يصبح التعارض بين الحداثة والتقليد مسألة قابلة للتجاوز.

عندما يريد مجتمع ما أن يتطور فإن بالإمكان القيام بذلك إذا ما توافر شرط تهيؤ نخب قانونية وسياسية ومثقفة وفكرية... بغض النظر عن رمزية المدونة كتعبير عن قدرة المجتمع على تخطي إشكال التعارض الممكن والمتخيل، الواقعي والمفتعل بين التراث والحداثة فإن بالإمكان القيام بذلك شريطة توفر إرادة التطور لدى كل الأطراف الفاعلة في المجتمع. "مدونة الأسرة" الجديدة إذاً نموذج لإعادة استرجاع حقوق المرأة (الولاية والطلاق والنفقة والملكية العائلية المشتركة...). المدونة التي هي توفيق إيجابي ونموذج لنص قانوني تتفاعل فيه بشكل قوي مقومات مستنيرة في تراثنا وروح التحديث والتجديد، بل لها في العمق ثورة ثقافية صامتة.

وفي الفترة الأخيرة بدأنا نشاهد نوعا من التباري في القضية النسائية. بدأنا نسمع في العالم العربي اجتهادات حيث تتوسع في حقوق المرأة وحريتها فقد صرح الدكتور حسن الترابي اخيرا أنه من الضروري أن نفكر في إطار إسلامي بالتخلص من الثقافة التقليدية للفقهاء التي أغلقت الباب على التطور ودعا إلى التفكير بجد في مسألة حق المسلمة في التزوج من الكتابيين والدفع بمساواة المرأة مع الرجل في الإمامة والإرث وغيرها. هذا يدل على أنه في العقود الأخيرة ظهرت هنا وهناك في العالم العربي دينامية فكرية لتحديث المرأة كانت المدونة المغربية إحدى أبرز معالمها.

الفكر التحديثي هو فكر تحريري للمرأة في العديد من المجالات وإقرار لحقوقها هو فكر حقوق وفكر حريات، ولكنه أيضا فكر لتحرير الرجل ولتحرير المجتمع من النظرة الاختزالية للمرأة في قضية الجنس أو في قضية الإنجاب إلى غير ذلك، وبالتالي فهو دعوة للانتقال بالمرأة إلى درجة الإنسانية. مسألة تحرر المرأة ليست عملا تلقائيا بسيطا وميكانيكيا بل هو مخاض عسير يضرب بجذوره في المجتمع لأنه يتعلق بنظام الأسرة والنظام الاجتماعي والنظام السياسي. مسألة تحرر أو تحرير النساء هي مسألة سهلة على مستوى الخطاب والكلام لأن الأمر لا يتعلق بأفكار وتصورات فقط بل ببنيات اجتماعية راسخة منذ قرون عدة. ونحن نتحدث عن بنيات اجتماعية بالمعنى السوسيولوجي، أي عن قوالب وقواعد متوارثة عبر قرون وستستمر قرونا. وهذه البنيات قوية ومتينة وراسخة ولها ميكانيزمات للدفاع عن نفسها. إنها بنيات موضوعية مترسخة ومتجذرة في البناء الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية والتقاليد الثقافية.

إن الحداثة النسائية مخاض عسير لأن النظام الاجتماعي التقليدي ليس شاشة سلبية تتلقى التأثير من الخارج وتتقبله، بل إن التغيير يمر عبر شبكات التراث الفكري والاجتماعي والعائلي... وهذا التراث الفكري والاجتماعي يفرز مقاومات وآليات مضادة لا على مستوى الرأي والفكر واللغة بل أيضا على مستوى الميكانيزمات الاجتماعية، والعادات والتقاليد والقيم التي تكرر نفسها عبر الأجيال والقرون.

هناك مستوى آخر من مستويات مناهضة التحديث ويتمثل في تعبئة النساء أنفسهن ضد الحداثة. وهذا مستوى آخر من مستويات مقاومة الحداثة قد يكون أخطر شكل من أشكال مقاومة تحديث المرأة، لأن العبودية الطوعية أكثر مشروعية وحلاوة من العبودية الإكراهية.

وهذه المسألة صعبة التحليل لأنها ترجع إلى رسوخ هذه البنيات وتجذر ثقافة الدونية وتحقير المرأة. وهكذا يحصل نوع من التماهي اللاشعوري مع الصورة السلبية، أو التوحد اللاواعي مع الغريم. هذه المقاومات هي جزء من الصراع بين آليات التحديث التي هي آلية موضوعية بالدرجة الأولى وبين الإفرازات التي يفرزها المجتمع في مقاومة التحديث الكاسح. وربما كانت مسألة تعبئة النساء ضد تحررهن أو ضد ثقافة التحرر هي أخطر أنواع التبعية أو الدونية لأنها تكرس الدونية الطوعية التي يراد لها أن تنبثق تلقائيا من نفس الجسم الاجتماعي المروَّض.

مخاض الحداثة طويل وعسير لأن الحداثة ليست فعلا تلقائيا وسهلا بل هي مخاض صراع وجدل وأخد ورد بين مكونات المجتمع المختلفة. وهذا المخاض العسير يتطلب مجموعة شروط حتى يؤدي إلى نتائج محددة، أولها ضرورة تبلور وعي ذاتي نسائي: وعي ذاتي منبثق من النساء أنفسهن من حيث أنهن المعنيات والمعانيات للاحتقار والدونية... في الشارع في البيت وفي كل الأماكن. إذاً شرط المعاناة شرط أساسي. هناك قناعات فكرية لدى نخب مثقفة تحديثية ربما كان لها الفضل في إثارة مسألة تحرير المرأة ولكن إذا قارناه بالوعي التلقائي النسائي المنبثق من رحم المعاناة يتبين أن الوعي الذاتي يعكس معاناة وجودية مفعمة بالألم.

فمسألة التحرر تتطلب وعيا نسائيا ذاتيا وتحالفا مع الفئات المستنيرة في المجتمع والمتطلعة للمستقبل، والمؤمنة بضرورة تحرير المرأة. مسألة الوعي هي مسألة معرفة ومسألة ضمير نسوي. إن الوعي بمسألة تحرير المرأة لا يمكن أن يتم فقط من خلال نضالات المرأة ولكن بالتنسيق مع القوى الاجتماعية والقوى السياسية التي تؤمن بهذا التحرر سواء تعلق الأمر بالدولة أو الأحزاب. إذاً لابد من اندراج النضال النسائي في إطار هذه الفئات والإرادات السياسية التحررية.

لكن لابد من إثارة الانتباه هنا إلى أن مسألة تحرير المرأة قد تعرضت ـ مثلها في ذلك مثل جل القضايا السياسية ـ لتكييف فكري وفئوي قانوني وحقوقي. بل إن الوعي النسائي اتخذ في كثير من الأحيان صورة وعي قانوني وحقوقي. وهذا أمر ضروري كما أن الحقبة القانونية أساسية لكن الوعي الثقافي أعمق، وهو ضروري ولا محيد عنه لأن المسألة النسائية مرتبطة بإيديولوجيا المجتمع، بوعيه وبلا وعيه وبثقافته العميقة.

نعم إن الوعي الحقوقي ضروري لكن إذا لم تكن لديه مرتكزات ورؤية ثقافية فسيكون نضالا سطحيا ووعيا سطحيا لأن هناك ضرورة ارتباط النضال النسائي بمسألة المناخ الثقافي والبعد الثقافي. الشرط الثقافي شرط أساسي في مسألة تحرر المرأة.

لقد أصبحت مسألة تحرر المرأة اليوم رهاناً أساسيا في تطور المجتمع، في عصر العولمة أي في عالم هو حلبة تباري بين الأمم من أجل التحديث وتحقيق التقدم. والمسألة النسائية تقع كميا وكيفيا في صلب التحديث. مسألة التحدي والتباري الحضاري تجعل المسألة النسائية ضرورة تاريخية لإمكان نجاح المجتمع في استدراك التأخر التاريخي العميق والطويل. إذا كان هذا المجتمع يريد أن يتطور، ويواكب عصره، وينفض عنه غبار التاريخ.

No comments: