Slide Ads

Tuesday, June 23, 2009

مضادات الحداثة

سعيد محمد كانو
يتماثل طموح البدايتين الأوربيتين / النهضة و التنوير / في تعزيز مكانة الإنسان و مواجهة طغيان الأفكار الدوغمائية الدينية منها و العرقية. محددة بذلك موقفها الفلسفي من الحق و القيم الإنسانية التي يتم بناءً عليها التواصل البشري. فبعد أن تقاتل الأوربيون طيلة قرون عديدة بدافع من الولاء لملك أو سيِد إقطاعي أو ديانة أو شيعة أو طائفة أو إقليم أو بلد، دعا مفكرو الأنوار إلى وضع "الإنسان" فوق جميع تلك الانتماءات، والاهتداء بعقيدة تصبو إلى تحقيق الخير للإنسانية جمعاء.


وعلى العموم، لم تنبذ فلسفة الأنوار الدين برمته، بل نبذت استعمال الدين أداة لقمع حرية الفكر والإبداع والبحث العلمي وكذلك اختزال الإيمان الديني إلى تعصب حاقد للعقائد الأخرى؛ كما لم تنبذ الوطنية بحد ذاتها بل نبذت التعصب الإقليمي والوطني، ونبذت معهما كل عقيدة من شأنها أن تشكل وقوداً لنصرة مصالح ضيقة في حروب تسلط. وقد رأى بعض مفكري الأنوار أن انتصار قيم التطور والحداثة السياسية وعلى رأسها الحرية والنظام "الجمهوري"، الذي يتميز أولاً بمبدأ الفصل بين السلطات الثلاثة، التشريعية والتنفيذية والقضائية سوف يؤدي إلى حلول سلام أزلي. أول مفكر وعي بشكل واضح الروابط العميقة بين هذه الأحداث واستشعر جدتها الكلية بالقياس إلى ما سبقها، بل فطن إلى الدلالات الفلسفية المشتركة بين هذه الأحداث المتناثرة، هو الفيلسوف الألماني هيغل.
لكن هذا الحكم ليس محط إجماع من طرف المشتغلين بفلسفة الحداثة وتاريخها الفكري• فالبعض يتحدث عن ديكارت باعتباره أب الفلسفة الحديثة، فهو رائد المنهج الذي هو الخطوة الأولى في العلم عامة وفي العلم الطبيعي خاصة، وهو أول من استشعر أهمية الذات الفردية والوعي الفردي وجعله أساس الفلسفة كما تعبر عن ذلك مقولة “الكوجيتو” الشهيرة لكن الألمان ينكرون ذلك• وهذا في الحقيقة نزاع حدود بين الألمان والفرنسيين فالأوائل يمجدون هيغل، وقبله كنط، ويعترفون لديكارت في أحسن الأحوال بفضل الافتتاح لا غير، مثلما نلمس ذلك في كتابات فيلسوفين ألمانيين كبيرين هما هوسرل وهيدغر حيث يجتهد هذا الأخير في نزع الكثير من صلاحيات ديكارت ليسبغها على ليبنتز مثلما يجتهد هوسرل في التقليل من الأهمية الفلسفية لديكارت. في حين يميل الفرنسيون إلى اعتبار ديكارت بمثابة العلامة الفارقة المميزة للفكر الحديث بل الواضعة للأسس الفكرية الأولى للحداثة إن قوميات "ربيع الشعوب" غلبت عليها الصفة "التقدمية"، سواء كانت قوميات تحررية أو قوميات توحيدية. وكان دعاتها إجمالاً من المتحمسين لقيم الأنوار بما فيها الكوسموبوليتية وحتى الأممية، بمعنى دعوتهم إلى تحرر أو توحيد جميع الأمم على غرار الإيطالي مزيني الذي لم يقتصر نضاله على توحيد أمته وحسب، بل حرص على دفع الألمان والبولنديين على الطريق ذاتها المؤدية إلى تحقيق "أوربا الفتاة"، أو أيضاً كالألمانيين "الأمميين" ماركس وإنجلس اللذين شاركا متحمسين في الدعوة لتوحيد الأمة الألمانية في أواسط القرن، وهما يعولان على تضامن "عمال جميع البلدان" لإطاحة سادتهم الطبقيين وصولاً إلى صهر جميع الدول في عالم اشتراكي بلا حدود تفصل بين أممه . والطريف في الأمر أن بعض الفرنسيين ينصبون أنفسهم مدافعين عن أهمية وأولوية كنط، وأنه هو “مفكر الحداثة” بامتياز، وذلك من حيث أنه يدعو إلى التفكير في السياسة والحق والأخلاق خارج الاعتبارات الميتافيزيقية، مثلما أنه يضفي النسبية على المطلق باعتباره شرط إمكان الأخلاق الإنسانية ذاتها وفكرة من أفكار العقل؛ أو كما يقول ميشيل فوكو في مقاله الشهير “ماهي الأنوار؟”، الذي يتناول فيه بالتحليل مقالة كنط بنفس العنوان، فإن هذا النص هو “نقطة انطلاق، وخطاطة أولية لما يمكن أن نسميه بموقف الحدثة”••صحيح أن مرحلة ما بين الحربين العالميتين، في النصف الأول من القرن العشرين، قد شهدت انحطاط القومية و"الأممية البروليتارية" إلى نقيضين للأنوار، أحدهما معلن والثاني متظاهر بالوفاء لقيمها، بيد أن القيم هذه لم تنفك تتصارع مع نقيضيها المنحطين، وقد أفضى هذا الصراع حتى الآن على الأقل، والصراع لا يزال دائراً على المستوى التاريخي إلى تفوقها الأكيد، ولا سيما على ساحة ولادة الأنوار بالذات. ذلك أن أوروبا التي انطلقت في النصف الثاني من القرن العشرين على طريق نبذ التعصب القومي وتوحدها بعد قرون من الحروب الفتاكة بين أطرافها، قطعت أشواطاً مذهلة على دربها الجديد. أما النزعة الأممية فقد ولدت ولادة ثانية في السنين الأخيرة بشكل حركة عالمية تنادي بعولمة بديلة مبنية على قراءة يسارية لقيم الأنوار، تضع العدالة الاجتماعية في الصدارة لكن من دون أن تقلل من شأن القيم الأخرى بخلاف ما فعل يسار الحقبة السابقة المتأثر بالتجربة الروسية. يرجع الفضل لهيجل في أنه أول مفكر انتبه إلى ما خلف مصطلح “الأزمنة الحديثة” المتداول عند المؤرخين، مبينا أن العصور الحديثة هي شيء جديد تماما إذ أنها مختلفة نوعيا عما سبقها• كما كان له الفضل في نظم الأحداث الكبرى المؤسسة للعصور الحديثة (اكتشاف العالم الجديد، النهضة، الإصلاح الديني) في خيط واحد موجدا الجامع المشترك بينها• لقد تبين هيجل أن هناك شيئا جديدا كليا، جديدا جدة مطلقة مع إهلال الأزمنة الحديثة، واستشعر قبل غيره هذه الجدة وسلكها ضمن وحدة في الرؤية حيث يقول في مقدمة كتابه الأساسي “ظاهريات الروح” : “ليس صعبا أن نرى أن زمننا هذا هو زمن ميلاد وانتقال إلى حقبة جديدة• لقد انفصل الروح عما كان يعتبر إلى حد الآن عالما له وجوده وتمثله، إنه على وشك ابتلاع كل ذلك… إن اللامبالاة والقنوط اللذين يجتاحان كل ما تبقى، وكذا الاستشعار الغامض لمجهول قادم هما بمثابة علامات تبشر بأن شيئا جديدا مختلفا أخذ يتهيأ• هذا التفتت… يخطط لبناء عالم جديد أما إذا نظرنا إلى حال منطقتنا العربية على ضوء الأنوار، لأصبنا بإحباط عميق. ولعل أفصح تعبير عن رجوع بلاد العرب القهقرى وغرقها في انحطاط حضاري ما بعده انحطاط، هذا الذي نجده في أصدق مقاييس التقدم الاجتماعي، ألا وهو وضع النساء. فكل من سار في شوارع كبريات مدننا اليوم وتذكر حالها قبل نصف قرن من حيث ما تكشفه للعين عن مكانة النساء وحريتهن، أدرك فطرياً ماذا يعني ارتداد المجتمعات إلى الوراء. كما أن هذا الارتداد يتضح بمجرد إلقاء نظرة على عناوين معركة التحرر من السيطرة الغربية، التي غدت معركة المصير الرئيسية في الأقطار العربية منذ العقود الأولى من القرن العشرين بالتزامن مع معركة نزع الاستعمار على النطاق العالمي. غير أن بعض تلك الحركات أصابه الإخفاق والنكوص وبعضها الآخر شهد انحطاطاً بلغ من العمق، في حالة حزب البعث الحاكم سابقاً في العراق، ما يناهز أدراك الانحطاط التي شهدتها أوربا في ثلاثينيات القرن الماضي. وخلت الساحة تباعاً لصالح تيارات وحركات تصدرت الاحتجاج الشعبي، تشير أسماؤها بالذات إلى سلوك العرب طريق القهقرى وإحرازهم معجزة الدفع بعجلة التاريخ إلى الوراء، ولو بصورة خيالية مستمدة من هوس محض. فيكفي النظر إلى عناوين القوى التي تقاتل بالسلاح أهم وأحدث احتلال يرزح تحته بلد عربي، قصدت العراق بالطبع. إن معظمها مستمد من محاولة استنساخ تاريخ يعود بنا قروناً عديدة إلى الوراء: تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد النهرين؛ جيش محمد؛ جيش أنصار السنة؛ وهلم جرا...” ويعود الفضل لهيغل كذلك في تشخيص الماهية الفلسفية للحداثة التي هي برأيه “حرية الذاتية الإنسانية”• إن “ما يجعل عصرنا هذا عصرا عظيما هو الاعتراف بالحرية وبملكية الفكر”• يقوم هابرماس بتفكيك عناصر مبدأ الذاتية كالتالي : النزعة الفردية، والحق في النقد واستقلالية الفعل البشري والفلسفة المثالية التي هي حسب هيغل نتاج للأزمنة الحديثة وتعبير عنها• غير أن التشخيص الفلسفي للحداثة كحركة تاريخية فكرية قوامها الذاتية كحرية وعقل، والتاريخانية ستتشكل حولها “ايديولوجيا” للحداثة ستسميها الاتجاهات التي تقول بأن الحداثة استنفذت نفسها واننا بطور الانتقال إلى ما بعد الحداثة، ستسميها أساطير الحداثة وهي الإرادية والفردانية والعقلانية،والتقدم، والتحرر والوحدة•بل إن ما بعد الحداثة توجه للحداثة نقدا من عدة زوايا فما بعد الحداثة ترفض النظريات والأنساق التفسيرية الكبرى كالماركسية والتحليل النفسي… وغيرها من النظريات التي تقدم تفسيرا لكل الظواهر وتوجه الممارسة الإنسانية نحو تحقيق المزيد من التحرر والتقدم• ما بعد الحداثة تقول نهاية الاعتقاد في التقدم، وفي المستقبل الأحسن وفي القدرة الكلية للعلم• كما تنفي العقلانية لأنها تعتبر العقل شاشة تنعكس عليها الرغبات وإرادات القوة، كما تنفي الأسس الفلسفية للعقلانية والمتمثلة في الذات مقابل الموضوع وفكرة الأصل والمباشرة• إذا كانت الحداثة تهتم بالواحد والذات والوعي والعقل والتقدم فإن ما بعد الحداثة تركز على المتعدد والضدي والهامشي واللاسوي والمختلف والجسد والذوق والمنسي والمكبوت والمسكوت عنه…إلخ• فما سبب هذا التقهقر الذي ما بعده تقهقر في زمننا الراهن؟ إنها بالطبع أسباب عديدة ومركبة، ولكنني سأكتفي هنا بتناول مظهرين رئيسيين للتقهقر، بعد دحض تفسير آخر. المظهران هما، بحكم المنطق البسيط، إخفاق الحركات التي استمدت فلسفتها من تراث الأنوار والانتصار الراهن لحركات تحمل برنامجاً اجتماعياً غارقاً في الرجعية بكل معاني تلك الصفة؛ أما التفسير المردود، فذلك الذي يحيل حال العرب الراهنة، أسوة بسائر الشعوب ذات الغالبية الإسلامية، إلى جوهر مزعوم للديانة الإسلامية. فبحسب هذا التفسير الأخير، الذي يستوحي من الاستشراقين القديم والجديد ومن نظرة لا تخلو من الازدراء العنصري، تكمن العلة في الدين الإسلامي ذاته الذي يحول دون انتشار إيديولوجيات الحداثة حيث يسود، وكأن الديانة المسيحية وعاء طبيعي للتنوير. وما تغيبه هذه النظرية هو أن فلسفة الأنوار لم تظفر في الغرب إلا بعد صراع طويل وشاق ضد الكنائس المسيحية، هذا وقد لعب يهود أوروبا دوراً بارزاً في صياغة وإشاعة أفكار الأنوار والحداثة بالرغم من أن الديانة اليهودية بحد ذاتها ليست على الإطلاق بأقرب إلى الحداثة من الديانات الأخرى، إن لم تكن أبعد بحكم قدمها. فالنقد ما بعد الحداثي لا يطال “محركات” الحداثة بقدر ما يطال هالتها الإيديولوجية المتمتلة في الثقة في التفاؤل والتقدم والتحرر وغير ذلك من الصور الوردية التي رافقت الحداثة الظافرة، لأن التاريخ الحديث المليء بالمآسي والتعثرات والنكوصات قد برهن على عدم صحة وعلى عدم دقة الأحلام والآمال التي عقدت على الإنسان والعقل والتاريخ، وعلى أن لهذه الصورة الوردية ظلالا سوداء كثيرة. وإذا أخفقت التيارات والحركات التقدمية في منطقتنا، فسبب ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى قصورها الذاتي عن بعض سمات الأنوار الرئيسية، لا بل خيانتها أحياناً لبعض بنود برامجها الخاصة بها. فإن التيار القومي، حتى في الحالات التي انحط فيها إلى تقليد إيديولوجيات التعصب القومي العنصري، قد مارس "قطرية" فعلية لا تقل ضيقاً عما مارسه الذين اعتنقوا علناً مبدأ “وطني (قطري) أولا”. لا بل سريعاً ما تحول التيار القومي في السلطة إلى الحكم بطرق لا تقل اعتماداً على الطائفية والقبلية والعشائرية عن طرق الأنظمة التقليدية التي نعتها التيار ذاته بالرجعية. وجاء ذلك كله بالطبع في إطار طعن كامل بمبدأ "النظام الجمهوري". وقد اعتمدت الحركات القومية أسلوب الحكم الدكتاتوري، وهي منبثقة مباشرة من الجهاز العسكري في غالب الأحيان وقد أرست حكماً مستنداً إلى أجهزة المخابرات في جميع الأحوال. لماذا إذاً، لا نرى مثيل الظاهرات المذكورة في منطقتنا العربية، لا بل في معظم البلدان الإسلامية؟ إن هذا التساؤل المشروع هو الذي عزز السفسطة الاستشراقية المجددة التي تعزو وضع بلاد المسلمين المزري إلى الإسلام ذاته. لكن الحقيقة التي يفضل طمسها دعاة النيوليبرالية التي دمجت واشنطن رايتها بعلم الولايات المتحدة الأميركية، إنما هي أن البلدان العربية والإسلامية تشكل المنطقة الوحيدة من العالم التي لم تخض واشنطن فيها حربها ضد الشيوعية وضد التيارات القومية التقدمية تحت راية الليبرالية، أياً كانت صيغتها، بل خاضتها تحت راية السلفية الإسلامية وذلك بالتعاون مع المملكة السعودية، أشد الأنظمة ظلامية في المنطقة. وقد انقلب السحر على الساحر، مثلما ارتد أسامة بن لادن على أميركا بعد أن كان حليفاً لها بامتياز في الحرب ضد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان. ولا بد للمرء من أن يكون في غاية السذاجة كي يعتقد صدقاً أن واشنطن تحولت اليوم إلى قوة تعمل على إشاعة الديموقراطية في “الشرق الأوسط الكبير”، حيث تثبت الوقائع كل يوم أن النفط هو في رأس سلم “القيم” التي تهتدي بها الإدارة الأميركية الحالية، شأنها في ذلك شأن سابقاتها، وأن تلك الأولوية تجد تعبيراً عنها في استمرار التعاون المتميز بين واشنطن من جهة، ومعظم الدكتاتوريات وأبرز القوى الظلامية من الجهة الأخرى

No comments: