فلسفة التاريخ عند ابن خلدون (2)
استعرضت، في الجزء الأول من هذا المقال، منهج ابن خلدون في الحكم على الروايات التاريخية. وأشرت إلى أنه منهج عقلاني ينشد عرض تلك الروايات، بما تتضمنه من أحداث ذات صبغة إنسانية أوطبيعية، على قوانين الاجتماع البشري التي رمز لها، أعني ابن خلدون، ب "طبائع العمران" من جهة. وعلى قوانين الطبيعة التي ركبها الله تعالى على قانون صارم لا يتغير ولا يتبدل من جهة أخرى.
مع ذلك، فابن خلدون لم يشأ أن يجعل منهجه العقلاني حاكما على المرويات التاريخية فحسب، بل إنه، بالإضافة إلى ذلك، أراد له أن يكون حاكما حتى على مرويات المفسرين أيضا، خاصة منها تلك التفسيرات التي تنهل من "المأثور" القصصي الذي كان سائدا قبل الإسلام.
لكن من المهم التأكيد عليه هنا أن المنهج الخلدوني، بحكم جِدَّته وابتكاريته، ليس مقصوراً، في تطبيق منطقيته، على أحداث التاريخ الماضية فقط. بل هو، بحسبانه منهج تفكير عقلاني بحت، صالح أيضا للتحقق من منطقية شواهد الحاضر بحسبانها، هي الأخرى، خاضعة، في تشكلها، لمحددات الاجتماع الإنساني واطراد القوانين الطبيعية.
وكما أشرت في الجزء الأول، فقد استحضر ابن خلدون، في مقدمته، بعض الروايات التي احتفت بها بعض أبرز الأسفار التاريخية في التراث العربي، بحسبانها شواهد على خلو الذاكرة الجمعية العربية، التي صيغت وفقا لمفهوم الانفصال السببي، من آلية استصحاب طبائع الاجتماع البشري أو صرامة القوانين الطبيعية عند رواية أو كتابة مثل تلك الروايات. والتي هي أيضا، أعني الذاكرة الجمعية للأمة، خُلوٌّ من استصحاب منطق (الِعلِّيِّة) الذي يعني، وفق مصطلح آخر لكنه يرمز لنفس الاتصال السببي، الربط التام بين العلل ومعلولاتها. وبدلا من ذلك صيغت تلك الذاكرة، ومن ثم بنية العقل العربي بالضرورة، على ما اصطلح عليه الأشاعرة ب "مستقر العادة". التي تعني عدم ربط الأسباب بمسبباتها في الطبيعية ربطا عِليّا. بل تعني، وفقا للمفهوم الأشعري، أن ما يشاهده الإنسان من انتظام واطراد حدوث المسببات بناء على أسبقية الأسباب عليها، ما هو إلا عادة اعتادها الإنسان، ملاحظتها في الطبيعة. وما دام أنها مجرد عادة، والكلام لا يزال للأشاعرة، فإن تخلفها وارد في أية لحظة!!.
من ضمن الروايات التاريخية التي طبق عليها ابن خلدون منهجه العقلاني ما أشار إليه بعضٌ من كبار المفسرين كالطبري والثعالبي والزمخشري، (والأخير من كبارعلماء المعتزلة الذين يعتزون بمنهجهم العقلاني!)، عند تفسيرهم لقوله تعالى(: ألم تر كيف فعل ربك بعادٍ إرمَ ذات العماد) من أن "إرم اسم لمدينة وصفت بأنها ذات أساطين(أي أعمدة) بناها ابنٌ لعام بن إرم، في صحراء عدن، وأنها كانت مدينة عظيمة قصورها من الذهب وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة. وينقلون أن الصحابي عبدالله بن قلابة قد مر بهذه المدينة عند خروجه في طلب إبل له، فوقع عليها وحمل منها ما قدر عليه". فينقد ابن خلدون هذه الرواية بقوله: "وهذه المدينة لم يُسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض، وصحارى عدن التي زعموا أنها بُنيت فيها هي وسط اليمن، وما زال عمرانها متعاقبا والأدلاء تقص طُرقها من كل وجه". ثم يضيف: "وقد ينتهي الهذيان ببعضهم، (يعني رواة هذه القصة)، إلى القول بأنها غائبة. وإنما يعثر عليها أهل الرياضة(....) والسحر. وهي مزاعم كلها أشبه بالخرافات.
ولما فرغ ابن خلدون من سرد كمّ من الروايات التاريخية المفتقرة إلى استصحاب منهج "طبائع العمران"، عاد فأكد على أن صاحب هذا الفن، (رواية التاريخ)،: "يحتاج إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السِيَر والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة(مقارنة) ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف. وتعليل المتفق(الثابت) منها والمختلف(المتغير). والقيام على أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها(نشأتها) وأحوال القائمين بها وأخبارهم حتى يكون مستوعبا لأسباب كل حادث واقفا على أصول كل خبر". ثم يضيف: "وحينئذ يعرض المؤرخ خبرَ المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا وإلا زيَّفه واستغنى عنه".
كل ما سبق كان مجرد أمثلة ساقها ابن خلدون للروايات التي لا تتفق وقوانين الاجتماع البشري التي يظهر أنه يعتبرها، أعني تلك القوانين، بمثابة بنية لها ثوابتها ومتغيراتها. وذلك ما يعبر عنه بقوله: "ومن الغلط الخفي الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام وهو داءٌ دوِيٌّ شديد الخفاء. وذلك أن أحوال الأمم والعالم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر. إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول".
وكما نقد ابن خلدون تلك المرويات التي لم تراع قواعد العمران البشري، فكذلك شمل بنقده تلك الروايات المتضمنة لأحداث يجب أن تحكمها، لوحدثت، عِليِّة وصرامة القوانين الطبيعية. فقد تحدث عما يُروى بشأن المهدي الذي يخرج، كما جاء في بعض الروايات، في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلا كما مُلئت جورا. ولما كانت تلك الروايات تصور أفعاله التي يغير بها وجه العالم على أنها خارقة لقوانين الطبيعة، فقد عمل ابن خلدون، أولاً، على نقد الروايات التي جاءت بشأنه، سندا ومتنا، مبينا ما يعتريها من ضعف. ثم طبق عليها، بعد ذلك، منهجه العقلاني متمثلا بمراعاة قوانين الطبيعية في مثل تلك الأحوال أولا، ثم برد ما قد يحدث من ذلك(خروج المهدي) إلى قوانين الاجتماع البشري ثانيا بقوله: "والحق الذي ينبغي أن يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية تُظهره وتدافع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله". ثم يضيف: "..... وعصبية الفاطميين، بل وقريش أجمع، قد تلاشت من جميع الآفاق ووجد أمم أخرى قد استعلت عصبيتهم على عصبية قريش إلا ما بقي من بعض الطالبيين في بعض الأقطار التي هم منتشرون فيها، فإن صح ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهور دعوته إلا بأن يكون منهم". وما يريد أن يقوله ابن خلدون هنا أنه إذا كان ثمة ظهور للمهدي مستقبلا فلن يكون ظهورا خارقا لقوانين الطبيعة، أو مباينا لقوانين الاجتماع. بل سيكون ضمن قوة اجتماعية تدفعه لتحقيق ما يدعو إليه كما هو الشأن مع كل الدعوات/ الفعاليات الأخرى التي لم ولن تتعالى على التاريخ والاجتماع، ناهيك عن تعاليها على قوانين الطبيعة.
السؤال هنا هو: ماذا سيحدث لنا في حاضرنا لو أن ذاكرتنا الجمعية، كمسلمين، صيغت طبقا لمناهج التفكير العقلانية، كالمنهج الخلدوني؟ لا شك بأن أهم نتيجة سنجنيها من ذلك أننا لن نقتات على خرافات يُسوِّقها لنا بائعو الوهم وتجار الشعوذة على اختلاف مواقعهم ونوعياتهم!!. لن نكون في وضع نصدق فيه سيناريوهات معدة مسبقا يقوم، وفقا لها، تجار الأزمات بعمليات تصوير لجثث "المجاهدين"، كما أشار إلى شيء من ذلك الزميل الدكتور علي الخشيبان، بعد أن يقوموا برفع أصابعهم السبابة كناية عن أنهم نطقوا بالشهادتين قبل "استشهادهم". وبوضع فكي الجثة على هيئة تبدو وكأن صاحبها كان يبتسم لحظة الموت. مع نفح الجثة بشيء من المسك! حتى تبدو لمن يقترب منها وكأنها تفوح منها رائحة ذلك المسك بدلا من عبيط الدم!!
لو أن بنية العقل العربي أُسست وفقا لمناهج التفكير المنطقي لما صدَّقنا مهرجا يخرج على شاشة التلفزيون ليروي لنا قصة ذلك الشاب الذي تحول فجأة إلى كلب يعوي لأنه، على حد تشخيص ذلك المهرج، كان يلهو بالهاتف أثناء قيادته سيارته إضافة إلى إهماله قراءة ورده المسائي!!!. ومع ذلك، فما هي إلا نصف ساعة من (نفث) ذلك المهرج على ذلك الشاب/ الكلب حتى عاد إلى حظيرة الإنسانية!!.
No comments:
Post a Comment