تأليف:طه عبد الرحمن
الناشر: المركز الثقافي العربي ـ الدار البيضاء
الطبعة الأولى:2006
عدد الصفحات: 288. قطع كبير.
بعد كتابه السابق"سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية" الذي صدر عام 2000 وتعرض فيه بالنقد لمفاصل الحداثة الغربية، يعود الباحث والمفكر المغربي الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه الجديد هذا إلى موضوع الحداثة، ولكن هذه المرة لكي ينطلق من ختام نقد للحداثة الغربية نحو محاولة لتأصيل حداثة إسلامية.
قسم المؤلف كتابه إلى مدخل تنظيري عام بعنوان"روح الحداثة وحق الإبداع"، وثلاثة أبواب هي: التطبيق الإسلامي لمبدأ النقد الحداثي ـ التطبيق الإسلامي لمبدأ الرشد الحداثي ـ التطبيق الإسلامي لمبدأ الشمول الحداثي.
روح الحداثة وحق الإبداع
في المدخل التنظيري توقف المؤلف لدى مختلف التعاريف التي أُعطيت للحداثة لدى المفكرين والفلاسفة الغربيين، وهي تعاريف متعددة تدل على عدم وجود اتفاق أو انسجام حول مفهوم الحداثة في الغرب نفسه، فمن قائل: إنها "النهوض بأسباب العقل والتقدم والتحرر"، ومن قائل: إنها"ممارسة السيادات الثلاث عن طريق العلم والتقنية: السيادة على الطبيعة، والسيادة على المجتمع، والسيادة على الذات"، ومنهم من يقول: إنها "قطع الصلة بالتراث"، أو إنها"طلب الجديد"، أو "محو القدسية من العالم"، أو"العقلنة"، أو"الديمقراطية"...الخ، ومن ثم فهي بحسب رأي الفيلسوف الألماني (يورغن هابرماس)"مشروع غير مكتمل".
ويخلص المؤلف من استعراض هذه التعاريف المختلفة والمتناقضة إلى أنها كلها تحاول أن تضخم من الحداثة وتجعلها"كائناً تاريخياً عجيباًً"، ويسجل أن هذا التصور للحداثة"تصور غير حداثي"، ويقول بأن هذه التعاريف مجتمعة ومتفرقة ساهمت في تشييئ مفهوم الحداثة، لذا يقترح الباحث لتخليص الحداثة من هذا التشييئ التمييز بين جانبين فيها: روح الحداثة، وواقع الحداثة.
ويرى المؤلف أن روح الحداثة تقوم على ثلاثة مبادئ رئيسة هي: مبدأ الرشد، ومبدأ النقد، ثم مبدأ الشمول. فمبدأ الرشد يتجلّى في خاصيتين اثنتين هما: الاستقلال والإبداع، ومبدأ النقد في خاصيتين أيضاً هما: العقلنة أو التعقيل، والتفصيل أو التفريق، كالتفريق في مستويات الحياة ما بين الجماعية والفردية، وفي مستويات المعرفة ما بين العلم والقانون والأخلاق والفنون، أما مبدأ الشمول فيتجلّى هو الآخر في خاصيتين هما: التعميم، أي أن منتجات الحداثة تنتقل من مجتمع إلى آخر أياً كانت الفروق التاريخية والثقافية، ثم التوسّع، بمعنى أن أفعال الحداثة لا تظل حبيسة مجال معين بل تطال جميع المجالات.
ويتساءل المؤلف: ما هي كيفيات تطبيق روح الحداثة في المجتمع المسلم؟ وكيف تختلف عن وجوه تطبيق المجتمع الغربي لها؟
جواباً عن هذا السؤال المركب يقترح المؤلف يلاحظ المؤلف أنه لا بد من اجتناب آفة التطبيق الغربي لروح الحداثة، واعتبار الحداثة تطبيقاً داخلياً خاصاً بالمجتمع الغربي لا تطبيقا خارجياً يلزم المجتمعات غير الغربية، ثم اعتبار الحداثة تطبيقاً إبداعياً لا تطبيقاً اتباعياً.
إن كل تطبيق لروح الحداثة ـ فيما يرى المؤلف ـ تصحبه بالضرورة "اعتقادات وافتراضات خاصة" أو(مسلمات التطبيق) مستمدة من المجال التداولي لكل مجتمع، وقد تكون هذه المسلمات فاسدة ـ كما في الحالة الغربية ـ مما ينتج تطبيقاً فاسداً.
ويؤكد الدكتور طه عبد الرحمن على أن التطبيق الإسلامي لروح الحداثة يرتكز على الإبداع والاستقلال والخصوصية الثقافية والحضارية للمجتمع المسلم، والتخلص من تلك المسلمات التي كرسها الغرب وجعلها مرتبطة بأي نزوع حداثي، فواقع الحداثة الغربية هو واحد من التطبيقات الممكنة لروح الحداثة وليس التطبيق الوحيد، كما أن لكل أمة حداثتها؛ لأن الأمم الحضارية كلها تستوي في الانتساب إلى روح الحداثة، ومن أجل أن تكون للمجتمع المسلم حداتثه الخاصة به اليوم يجب أن ينطلق من خصوصياته الداخلية وليس من الغرب.
التطبيق الإسلامي لمبدأ النقد الحداثي
في هذا الفصل ينتقد المؤلف العولمة بوصفها عملية لـ"تعقيل العالم بما يجعله يتحول إلى مجال واحد من العلاقات بين المجتمعات والأفراد عن طريق تحقيق سيطرات ثلاث: سيطرة الاقتصاد في حقل التنمية، وسيطرة التقنية في حقل العلم، وسيطرة الشبكة في حقل الاتصال".
يرفض المؤلف ربط التنمية بالبعد المادي الاقتصادي فحسب، ويقول: إن التنمية بالمفهوم الغربي تهمل"التزكية" التي ترمي إلى الزيادة في إنسانية الإنسان، وليس فقط الزيادة في وسائله أو حاجاته المادية. وفيما يتعلق بسيطرة التنمية في حقل العلم يرى أن العلم المعاصر أخل بمبدأ الارتباط بين العلم والعمل، أم فيما يخص سيطرة الشبكة في حقل الاتصال، فيرى أن شبكة الإنترنت تمنع حصول تواصل إنساني حقيقي؛ لأنها تقوم على الإشارة الضوئية التي هي صورة رمزية لا حياة فيها، ثم إن الإعلان الإعلامي هو صورة تجارية لا تجرد فيها، ولا تواصل إنسانياً من غير حياة أو تجرّد.
إن تأسيس الحداثة الإسلامية بالنسبة للدكتور طه عبد الرحمن ينطلق أساساً من نقد الحداثة الغربية والتخلص من التبعية والإمّعية والوصاية التي تمارسها الحداثة الغربية على العقل المسلم.
من ثم فإن العولمة الغربية مليئة بالآفات الخلقية التي يعبر عنها اليوم تنظيم المؤتمرات الدولية حول الأزمة الأخلاقية وإحداث كراس في الجامعات لتدريس الأخلاق والقيم، ما يعني أن الغرب بات يشعر بهذه الأزمة الأخلاقية التي يعيشها. غير أن كل ذلك لم يؤد إلى إيجاد حلول حقيقية وإسعاد الإنسان الغربي الحائر، وليس هناك سوى طريق واحد هو الإسلام لتخليص الغرب والبشرية من الأزمة الأخلاقية. ويستند المؤلف على مفهوم"دليل الزمن الأخلاقي" لتأكيد هذه الفكرة، ويعني لديه ما يلي: معلوم أن بداية التاريخ البشري اقترنت ببداية نزول الشرائع الإلهية، وأن هذه الشرائع هي المناهج التي أُمر البشر باتباعها في ضبط سلوكهم الاجتماعي وتحقيق وجودهم الحضاري، لذا يجوز ترتيب أطوار التاريخ بحسب ترتيب نزول هذه الشرائع، فننزلها منزلة"أزمنة أخلاقية" تختلف باختلاف الشرائع، وهذه الأزمنة الأخلاقية ليست على درجة واحدة، وإنما درجات بعضها فوق بعض، يكون فيها الزمن الأخلاقي اللاحق أعلى رتبة من الزمن الأخلاقي السابق؛ إذ يطويه ويزيد عليه، فمثلاً الزمن الأخلاقي المسيحي يعلو على الزمن الأخلاقي اليهودي، والزمن الأخلاقي الإسلامي يعلو على الزمن الأخلاقي المسيحي، وهو أعلاها جميعاً؛ لأنه الدين الخاتم، ومعنى هذا أن التخلّق الإنساني لا يتحقق إلا في الزمن الأخلاقي الإسلامي.
ولكي يكشف المؤلف سقوط الحداثة الغربية أخلاقياً يخصص حيزاً مهماً في هذا الباب لنظام الأسرة الغربية بوصفها"وريثة التطبيق الغربي لروح الحداثة"، إذ إن الأسرة الغربية اتخذت شكل انقلاب للقيم الحداثية التي أُريد بناء الأسرة عليها في الأصل. لقد انفصلت الأسرة في الغرب عن القيم التقليدية في إطار القطيعة التي قامت بها الحداثة الأوروبية عن التقاليد منذ عصر الأنوار، على اعتبار أن الدين هو مرجع هذه التقاليد، ومن تم ارتكزت الأسرة الغربية على الانفصال عن الدين في كل شيء. أما خصائص الأسرة الغربية الحداثية في نظر المؤلف فهي: إنهاء تحكّم الأب في النسل ـ إنهاء الصفة النموذجية للأب ـ التفريق بين الابن والأب، مما أفقد الأسرة معنى"الحياة الطيبة المتصلة".
التطبيق الإسلامي لمبدأ الرشد الحداثي
إن التطبيق الإسلامي لمبدأ الرشد يقوم على ركنين هما:الاستقلال والإبداع. فالمؤلف يرى أنه لا دخول للمسلم إلى الحداثة من غير"تجديد ممارسته للترجمة" التي يتجلّى فيها استقلاله عن الآخرين في مجال اتصاله بعطاءاتهم. ومن هنا ينتقد الدكتور طه عبد الرحمن الترجمة العربية للمؤلفات الحداثية الغربية؛ إذ إن هذه الترجمات بقيت خاضعة لوصاية الفكر المترجَم(بفتح الجيم)، وشابها الكثير من التشوش والاختلاف في الترجمة الواحدة بين مترجمين عديدين، وحاولت إسقاط التجارب الغربية على المجتمعات العربية والإسلامية، وطالما أن الترجمة العربية للحداثة الغربية فاسدة فلن يحصل هناك إبداع وعطاء مهما أكثرنا من الترجمات الفكرية أو طولنا زمن الترجمة، طالما يُقال: إن هناك نقصاً في الترجمة في اللغة العربية.
وللخروج من أزمة الترجمة يقترح المؤلف ما يسميه "الترجمة الاستكشافية"، ويعرفها بأنها"الترجمة التي تتطلع إلى نقل الطرق التي توصل بها المؤلف إلى وضع نصه على الوجه الذي يوصل المتلقي إلى وضع نص يضاهي نص المؤلف، وهذا يعني أن المترجم الاستكشافي ينظر إلى النص الأصلي أساساً بعين المتلقي، ناقلاً له بطريق يجعل المتلقي قادراً على أن يستوعب القوة الإدراكية التي أنشأه بها المؤلف، وعلى أن يتهيأ لأن يتملك هو بدوره هذه القوة، أو قل باختصار: إن الترجمة الاستكشافية هي الترجمة التي تكشف للمتلقي طرق إبداع نظير أو نظائر للنص الأصلي".
التطبيق الإسلامي لمبدأ الشمول الحداثي
في هذا الفصل يتعرض الدكتور طه عبد الرحمن لمفهومي المواطنة والجماعة في الحداثة الغربية وأسسها في الحداثة الإسلامية؛ إذ يرى أن المواطنة في الفكر الغربي تقوم على القوانين الوضعية، وتعطي الأولوية للعامل المادي في التعايش بين المواطنين ضمن مفهوم المواطنة على حساب العامل الأخلاقي المعنوي، أما في المجال الإسلامي فإن مفهوم"المؤاخاة" هو الخاص بالحداثة الإسلامية، والمؤاخاة ـ بتعريف المؤلف ـ هي"المواطنة وقد تأسست على القيم الأخلاقية التي تنزل أعلى الرتب". وينتقد المؤلف هنا التفريق بين المواطنة والأخلاق الذي قامت به الليبرالية، باعتبار أن المواطنة هي"جملة من الحقوق الفردية تحددها نظرية في العدل تم وضعها خارج نطاق الأخلاق".
أما بخصوص مفهوم الجماعة فهو يراها تتميز بأنها جماعة منغلقة على ذاتها مكتفية بنفسها، ومنغلقة أيضاً في خصوصياتها الثقافية وعوائدها الخلقية، وهو الانغلاق الذي يحول بينها وبين الاتصال بالجماعات الأخرى. وفي مقابل هذا المفهوم يضع المؤلف مفهوم الأمة في السياق الإسلامي الذي يشير إلى انفتاح المواطنة، ويجعل المواطن يتحقق "بالماهية الأخلاقية"؛ إذ الأخلاق هي أساس الترابط بين المواطنين على قاعدة المؤاخاة.
إن خصوصية التطبيق الإسلامي لروح الحداثة بالنسبة للباحث أنها تروم "الارتقاء بالفعل الحداثي"، وهذا يعني أن التطبيق الإسلامي" يدفع بعض المضار التي وقع فيها التطبيق الحداثي ويجلب بعض المنافع التي انطوى عليها التطبيق المابعد حداثي".
No comments:
Post a Comment