انتصار الحداثة على رومانسية الصحراء
يعد إبراهيم الكوني، الذي ولد ونشأ في كنف عائلة من الطوارق أكبر كتاب الصحراء. ويجسد في روايته الجديدة "الدمية" بطريقة حاذقة كيف أخذت الحداثة تجتاح مجتمعات الطوارق التقليدية وتؤثر على التقاليد التي أسست قواعدها على مدى التاريخ. كيرستن كنب تعرض قراءتها للرواية.
يظهر الكوني في روايته "الدمية" جدلية الحداثة والأصالة البدو في ترحال دائم، وقد يعزي سبب ذلك إلى نشاطهم التجاري. ويحتاجون في رحلاتهم الطويلة إلى التغلب على المسافات الشاسعة. وبحكم التقاليد لا يسمح لهم بالمكوث في مكان واحد لأكثر من أربعين يوماً. بعدها يأزف موعد الرحيل مجدداً. فهذه الرحلات، كما يرى الطوارق، تصون النظام الأخلاقي للقبيلة.
ومن يمكث لأكثر من أربعين يوماً في مكان واحد، يبدأ بالتفكير في التوطن من أجل التملك والثروة ومن أجل جمع كل ما طاب جمعه. لكن ذلك يقود إلى البحث وراء الكسب والأنانية، الذي لا يتلاءم وتقاليد الجماعة، ويؤدي في النهاية ربما إلى انحلالها، كما يدعي حماة التقاليد على أي حال.
لغة الأساطير ومادة الحداثة
تكمن المشكلة في أن حماة التقاليد هؤلاء أنفسهم اخذوا منذ وقت طويل يجمعون الممتلكات الكبيرة، فقد ودعوا الترحال منذ وقت طويل حالهم في ذلك حال الكثير من الطوارق. واستقروا بالقرب منذ الواحات، واتخذوا أسلوب حياة، لا يتوافق بالمرة مع تقاليدهم. لكن على الرغم من ذلك فإنه يقدم لهم الراحة والأمان.
يكتب الروائي الليبي إبراهيم الكوني، المولود عام 1948 في كنف عائلة من الطوارق، بأسلوب تأملي ومتعمق. لكنه ينشغل خلف لغته التي تبدو وقد عفا عليها الزمن، بمواضيع تتمتع براهنية كبيرة. وتتناول روايته "الدمية" بانتشار الرأسمالية في مجتمع، ما زال يدعو نفسه في أكثر الأحوال وبإرادة قوية بـ"المتحفظ". لكن الكوني على مستوى فني أكبر من أن يرثي انهيار النظام القديم، بل يقدم نفسه كمؤرخ يقظ يرسم معالم انتشار الحداثة من زوايا مختلفة تماماً.
عقيدة موروثة
في حين يصف الكوني في روايته "واو الصغرى" نشوء حياة الحضر، فإنه ينشغل في رواية "الدمية" بتناول التناقضات والازدواجية المرتبطة بهذه الحياة، والجانب الاقتصادي في مقدمتها. إن السعي وراء الذهب يتناقض مع التقاليد، كما يقول الزعيم الجديد للطوارق، الذي اُختير تواً. لكن هل يمكن القول حقيقة؟ "أنت لا تريد أن ترى أننا لم نعد رحل منذ وقت طويل"، كما يعترض بالقول احد البدو الذين استوطنوا منذ زمن طويل: "أنت لا تريد الاعتراف في أننا استوطنا هنا منذ أربعين عاماً".
لكن الزعيم الجديد للطوارق يتشبث بعقيدة موروثة، كما يرى خصومه. كما أنه يثبت أنه ليس محافظا، بل رجعي لا يناسب فكرياً المناصب التي أنيطت به. وفي الوقت نفسه يثبت أنه ليس دمية بيد التجار الأقوياء بوصفهم أصحاب السلطة الحقيقيين.
وإن عدم رغبة الزعيم الشاب في أن يصبح دمية يحدد مصيره في النهاية. لكن يبقى السؤال قائماً: هل يكمن سبب هذا في جشع التجار أم في عد استعداد الزعيم الشاب لفهم تغير الأزمان؟
جمالية الاقتصاد
"الرواية قد تكون أغنية وداع على أزمان الطوارق القديمة" في مقطع محوري من الرواية، وهو حوار بين الزعيم الشاب وتاجر عجوز، يوجد الأخير جمالية للاقتصاد، بشكل لا يمكن أن يكون أكثر حداثة. فالرأسمالية باتت بالنسبة له شكل من أشكال الحياة، التي اعتاد عليها الطوارق في هذا العالم أيضاً.
لكن الكوني لا يبدي اهتماماً بالتاريخ الدقيق لهذا التحول، بل يرفعه إلى مستوى اللازمان، ويوسعه ليصبح دراسة أساسية لظاهرة الرأسمالية الآخذة بالانتشار. والتاجر العجوز لا يمارس مهنته لأنه لا يصبح إنساناً إلا من خلالها، بل يوضح "أن التجارة علمته أن السر الحقيقي لا يكمن في قطع الصحاري ولا في جلب البضائع النادرة من البلدان البعيدة، ولا في تحقيق المكاسب، التي يورثها للخلف الذي لا يستحقها. كلا، إن التجارة الحقيقية هي مثل الحياة. التجارة الحقيقية، يا سيدي، هي الحياة نفسها!".
ويعلل ممثلو الحداثة، شكل الحياة المزوقة بالذهب، ذلك في أن الإنسان لا يتوب إلى رشده إلا في الاجتهاد فقط. كلا، فإنه يفقد نفسه في اضطرابه، ويواجه المتزمتين للتقاليد. ويجب التجار أن هذا ليس سوى "هراء"، فأكبر مكاسب التجارة يكمن في الافتتان الذي تمارسه. لكن ممثلي الجانب الآخر يظنون مجدداً أن الجزع من الخواء يكمن وراء هذه الحجة، الخواء الذي يدب حين يتوقف الإنسان عن مزاولة التجارة.
لكن كيف ينتهي المرء إلى السكينة الداخلية؟ لا يبوح الكوني بذلك ولا يجيب على هذا التساؤل. إن دور الأنبياء والنذر المتعقلين لا يناسبه. وعوضاً عن ذلك يجسد وجهات النظر المختلفة، ويقدم نفسه كممثل للحداثة، يعرف أن الانتصارات المتواصلة لاقتصاد الحداثة لا يمكن إيقافه، حتى في المجتمعات التقليدية في ليبيا.
ختام الزمن القديم
ومن خلال تجاهله لهذا التحول يقود الزعيم الشاب المنطقة إلى حافة أزمة اقتصادية، فتنهار الأسعار وتتزعزع الثقة التي بنيت عراها بشق الأنفس. ويحاول احد التجار أن يوضح للزعيم الشاب: "إن التجارة كالجمل الضال. فإن فزع مرة يصبح من الصعب إرجاعه". وسيؤيده في ذلك الاقتصاديون الغربيون، إلا أنهم سيتحدثون عن "عدم ثبات الأسواق".
وعلى الرغم من رواية "الدمية" تنتهي نهاية دموية، إلا أن الكوني يمتنع عن الحزن بشكل سوداوي على عالم آخذ بالاضمحلال. وقد تكون أغنية وداع على أزمان الطوارق القديمة ليست تافهة فحسب، بل وسوداوية بشكل كاذب ومتواضع.
وهكذا لا يقدم الكوني سوى الدراما الأبدية للحداثة، دراما غير رومانسية البتة، تتحدى كل رومانسية الصحراء الغربية، فما من شيء يوقف الأزمان الجديدة. لكن على الأقل استطاعة دمية أن تحقق ذلك.
كيرستن كنب
ترجمة: عماد غانم
No comments:
Post a Comment