الحداثة ليست مدينة بشيء للسلطوية
كتب : رشيد أوراز
(ولنعلم، أن الحسم الحداثي لن يتم إلا بسلطان مكين.)
شاكر النابلسي.
نشرت جريدة إيلاف يوم 22 ديسمبر مقالة بعنوان (ضرورة السلطان لتحقيق الحداثة) للكاتب العربي شاكر النابلسي.
يختصر عنوان المقالة مضمونها، وليس ما نود كتابته حول المقالة إلا نقاشا أتمنى أن يتسع له صدر الإنسان العربي، والكتاب بصفة عامة، وخاصة الأستاذ شاكر النابلسي، الذي وضع الحداثة بكل عمقها وثورتها تحت تصرف حفنة من السلاطين، المتمسكين بكل البرتوكولات القروسطية متى كانت في خدمتهم، والحداثة بدورها لا تقبل ذلك.
نضيف لهذا أن الأستاذ النابلسي قدم أمثلة من الحكام لم يحققوا أي تقدم يذكر، ولم يعمقوا روح الحداثة، بل ولم يستطيعوا ترسيخ نتائج الحداثة، ولا قدروا على إتباع سبلها. فمن فصلنا عن حكمه الموت لا يشكل أبدا وجها حداثيا، ولا يمكن تحقيق الحداثة بسلطويته.
ولنضع الحداثة وجها لوجه أمام تلك الأمثلة وغيرها ونرى:
هل يستطيعون مثلا السماح للمعارضة الحقيقية في البلاد؟ ألم تولد الحداثة في بلاد تؤسس المعارضة بجانب الحكومة؟
هل يستطيعون الحكم لولايتين فقط لا غير، ويقدموا الحساب في الأخير؟
لماذا لم يحترموا حقوق الإنسان؟ ثم كيف أتوا إلى السلطة؟ هل جاؤوا بانتخابات ديمقراطية؟
أليست تلك شروط الحداثة التي لم يحترموها؟
كيف لحاكم يستمد شرعيته من القرون الوسطى، ومن السطوة والتسلطية والعنف أن يرسخ الحداثة؟ ألا تنقلب الحداثة هنا إلى دعاية فقط من أجل ترسيخ الحكم الفردي المدعم بجماعة من الانتفاعيين والوصوليين؟
ما الفرق بين أصولي يحكم بحد السيف وديكتاتور يحكم بالبندقية؟
أين تريد أن تعيش إذا خيرت بين نظام طالبان ونظام من الأنظمة العربية؟ أنا شخصيا لا أفضل أيا منهما.
دعنا من كل هذا، ولنطرح سؤالا آخر؛ هل الحداثة وصفة خلاص مُرَّة نحن مجبرون على تناولها؟ أم الحداثة طور تاريخي إما أن يدخله المجتمع برجاله ونسائه من مثقفيه وحكامه وفنانيه ورأسمالييه ووشبابه أو يبقى أعرجا يمشي بثقافة من القرون الوسطى ويرتدي لباسا فوقيا حداثيا؟
لو كانت الحداثة وصفة طبية فما أسهل تناولها بكل الطرق، ترغيبا وترهيبا. ولكن الحقيقة هي أن الحداثة شيء آخر، خلاص بمنطق آخر، وروح أخرى للتاريخ.
في المغرب مثلا، حيث أعيش ويحق لي الحديث عنه أكثر وكما أريد، يتداول الخطاب الرسمي مفاهيم أخرى عقيمة، وهو يتحدث عن (الحداثة)؛ يقولون مثلا: المقدسات، حدود حرية التعبير، الاحترام الواجب، الصخرة المقدسة.
في المغرب أيضا يحكم على صحافي بالمنع من الكتابة لمدة عشر سنوات، ويحكم على جريدة بغرامة خيالية، ويحكم على صحافي آخر ويغادر بلده، وتغلق مجلة وجريدة وجريدة وجريدة … ويسجن مدون ثم يسجن مدون آخر؛ هنا نسمع كلاما يوميا عن الحداثة، ربما تلك أشيا لم يتفطن لها ذهن الأستاذ النابلسي؛ حيث يمكن استغلال خطاب الحداثة لتثبيت الحكم السلطوي.
خمسون سنة من الحكم السلطوي في كل البلدان العربية لم تكن كافية للوصول إلى الحداثة، ولكن أنتجت أشياء أخرى، شباب ضائع، مهاجرون سريون بالفطرة في كل بقاع الأرض، معاقون ومشردون وضحايا حروب، وشعراء رديئون وكتاب متزلفون ومثقفون وصوليون وصحفيون بثمن بخس يكتبون مقالات البيعة من الصباح إلى المساء وأساتذة جامعيون باعوا ضمائرهم مقابل كرسي جامعي مصنوع من الخشب الرديء وسياسيون متملقون، وماذا أيضا؛ مصير مجهول.
لولا ثمرات الحداثة من التكنولوجيا ووسائل الاتصال لكان وضعنا أكثر سوداوية، ولما تمكن أي واحد من نشر أية مقالة في أي مكان آخر أبعد من عتبة داره.
ولكن الحداثة التي نستفيد من ثمارها، لم تكن أبدا بتوافق مع الأنظمة التسلطية بأوربا، بل كانت لها أسباب أخرى، لنبحث عنها في كتب التاريخ والفلسفة والعلم. وليس في أنظمة تسلطية لا تغني من جوع، كل همها الدفاع عن العروش.
ليس هناك من داع آخر لمناقشة هذه المقالة لولا أن الكاتب استعمل كلمة (حسم)، فقال: (ولنعلم، أن الحسم الحداثي لن يتم إلا بسلطان مكين) وهو ما يذكرنا بلغة المعارك التي يستعملها الحزبيون. والعنف ثقافة شرب منها الجميع في السنوات الخمسين الأخيرة، من أصوليين وتقدميين وغيرهم أجمعين.
ولكن الحداثة لا تقبل هاته المفاهيم، وكل الحروب التي اشتعلت في عصرها غفرتها، وندمت وهم لا يرجعون. ومنها الحرب الأخيرة حيث دكت التكنولوجيا الشعب العراقي، وساوتهم بديكتاتور، وأبادت منهم عددا ليس بقليل.
ولنعلم أن الحداثة أصبحت خطابا استهلاكيا أكثر منه جدية في النقاش في العالم العربي. ولن يستطيع أحد أن يؤكد على حسن نواياه إن لم يكن مستعدا للتخلي عن العقائد والبرتوكولات والأخلاق القروسطية وأن يلتزم بفضيلة التسامح والسلام والتنوير.
ولا يجب أن ننتظر عند أبواب السياسيين فهي موصدة في وجه الجميع، ولنبحث في أوراق الفلاسفة والمفكرين، ولتكن كلمتنا حقا من أجل العدالة، ولندع لحرية التعبير ومساواة الأعراق والأجناس. ولنسهر على فرض السلام بين الأنام.
ولنعلم في الأخير أن البشرية تكاد تنتهي من عصر ما بعد الحداثة. وستنتقل غدا إلى طور آخر.
No comments:
Post a Comment