يتميز الشاعر عبد الرحمن عبد الوافي بشدة التمسك بالقصيدة العربية الأصيلة وبنائها العمودي والإيقاعي، وارتباطه بقضايا الحياة اليومية في أبعادها السياسية والاجتماعية، مما جعل شعره ينبو عن الصور الفنية المجردة ويدنو من الواقعية، وهذا ما يجعله يستحق لقب شاعر الصحوة الإسلامية في المغرب، صدرت له مجموعتان شعريتان هما: "بائية الإضراب والصحوة"، و"ملحمة الشهيد"، وسيصدرله قريبا ديوان تحت عنوان:"ملحمة الخروف". هو من مواليد مدينة فكيك بجنوب المغرب عام 1948، عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية قرب الدار البيضاء.
سؤال:من الملاحظ أنك تكتب الشعر على أسس الشعر العمودي بشكل كبير، هل هذا الشكل ما زال قادرا على مواكبة العصر والحساسية الشعرية الحديثة وطرح القضايا الجديدة خلاف ما يقول الكثيرون؟
جواب:بسم الله الرحمن الرحيم، صحيح أنني منذ بضع سنوات أصبحت أكثر من نظم الشعر على الطريقة العمودية، إلا أن هذه الظاهرة لا تكتسب صفة الإطلاق، فأنا ما زلت أكتب بين الحين والحين شعرا تفعيليا، فثمة قصيدة مطولة عنوانها: "حكاية الأخضر مع الغول الأعور"، كتبتها سنة 1995 ، بعد هذا أجيب على سؤالك بالقول: أجل، إنني أعتقد تمام الاعتقاد وأصدقه أن القصيدة العمودية كانت وما تزال قادرة على مسايرة الروح الأدبية العربية الإسلامية في مختلف الأعصار والأمصار, ولا أدل على ذلك من كون هذه القصيدة ق استطاعت أن تستوعب مواهب شعرية فذة بامتياز، وكيف لا ونحن نعرف أنها –أي القصيدة العمودية- قد أفلحت في احتواء روح شعرية عاتية وجبارة هي روح المتنبي، واحتضان روح أخرى هي مثال للروح الإنسانية القلقة المتفلسفة، وأعني بها روح المعري، وهلم جرا،... وأحسب أن الذين يرمون الشعر العمودي العربي بالجمود والعجز الفني عن مسايرة العصر إنما وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب نظرتهم الجزئية إلى خصائص القصيدة العمودية، تلك التي تركز على البحور الشعرية بما هي إيقاعات شعرية لم تتغير في مجملها منذ قرن وقرون، فوقر في أذهانهم وهْم فحواه أن قصائد الديوان العربي ما دامت هي متشابهة من حيث أوزانها فهي إذن لا تعدو أن تكون نسخا فنية يستنسخها الشعراء من جيل لجيل، مع العلم أننا إذا استثنينا التشابه المذكور أي تشابه الأوزان فإننا سنعثر بعد ذلك على عوالم شعرية جديدة كل الجدة في لغتها الشعرية وفي مضامينها وفي صورها، ونظرة واحدة إلى دواوين الشعراء العرب الكبار قديما وحديثا من المعلقات إلى أشعار البحتري وأبي تمام وأبي نواس والمتنبي والمعري قديما، وأشعار أحمد شوقي ومهدي الجواهري وعمرأبي ريشة وعبد الله البردوني وغيرهم كثير حديثا، كفيلة للتدليل على ما نعتقده من قدرة القصيدة العمودية على الاستجابة الفنية التي يتطلبها تطور العصر لغة وخيالا وفكرا.
جحافل الحداثة
سؤال:كيف تفسر، والحال هذه، هجوم شعراء تيار الحداثة العربية على هذه القصيدة الكلاسيكية، وهل من وراء هذا الهجوم دوافع لتصفية الحساب مع تراث الشعر العربي، والإسلامي واللغة العربية السليمة، خصوصا وأن الكثيرين من هؤلاء يصفون الصرح الشعري العربي بالعقم؟
جواب:إنني شخصيا أميل إلى القول بأن وراء الهجوم الكاسح الذي يشنه شعراء الحداثة أو من يسمون أنفسهم كذلك، دافعا أيديولوجيا يتمثل في اعتناق هؤلاء الحداثيين لاسيما الرواد منهم من أمثال أدونيس وأنسي الحاج وخليل حاوي للحداثة الغربية بحذافيرها وبعجرها وبجرها كما يقال، وحتى أكون أكثر وضوحا فإنني أعني بشعراء الحداثة شعراء قصيدة النثر وهو توضيح ضروري لأن الحداثة الأدبية في مجملها تشمل حركة الشعر الحديث كلها، بما فيها رواد الشعر التفعيلي، وبالطبع فإن الدافع الأيديولوجي هذا يكاد يكون مقصوراً على الرواد الذين تشبعوا بلغة الغرب وأدبه وتنظيراته وتصوراته بوجه عام، للدرجة التي أصيبوا فيها بحساسية نفور وكراهية لإبداعهم القومي، أما الجحافل الأدبية الحداثية التي نراها منتشرة في الساحة الأدبية العربية من الماء إلى الماء، وهي في ازدياد واطراد فإن حداثة غالبية هذه الجحافل إنما هي ناتجة عن قصور أكثرها عن امتلاك ناصية اللغة والوزن وامتلاك الثقافة الأدبية العربية التي تسعف أفرادها في إبداع القصيدة الموزونة عمودية كانت أو تفعيلية.
إن الحداثة الأدبية ليست سوى جزء لا يتجزأ من الحداثة العامة التي تصل بمناحي الحياة إن الحداثة ؛ أدبية كانت أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو فنية، هي على عكس الرؤية الإسلامية للأدب مثلا لا تعترف بالثوابت ولا بالأسس في عالم الإبداع لكونها تؤمن بالتحول الدائم المستمر الذي لا ضوابط له ولا حدود ولا نهاية، فالشاعر في نظر الحداثة الأدبية ينبغي عليه أن يكون شاعرا تجريبيا على الدوام، والتجريب هنا وبالمفهوم الحداثي ليس من الضروري أن يكون مبنيا على تجربة ماضية بل يحبذ أن يكون ابن لحظته الخاصة ومكانه الخاص وهدفه الخاص، الأمر الذي يجعل رؤية الحداثة إلى الأدب لا تخلو من عبثية وفوضى، ويمكن أن نستدل على ذلك بما تعرفه قصيدة النثر من تحطيم لقواعد اللغة أو تفجير لها كما يقال، ومن إيغال في الغموض إلى درجة الإلغاز والهذيان، فضلا عن قفزها البهلواني على الأساس الرئيس في الشعر الذي لا قيام للشعر بدونه ألا وهو الوزن.
سؤال:أصبح الشعر الحديث يعج بالغموض واللبس، وانتشرت مقولة للحداثيين تقول إن الشاعر لا ينبغي أن ينزل إلى القارئ، بل إن هذا الأخير هو الذي عليه الصعود إلى الشاعر والتسلح بذائقة جديدة، ما رأيك في هذه الدعوة؟
جواب:لقد أثيرت قضية الغموض كثيرا من قبل الدارسين والنقاد للقصيدة الحداثية، وهم في ذلك فريقان، فريق حداثي يدافع عن الغموض دفاعا مطلقا، وفريق تراثي أو إسلامي يهاجم الغموض هجوما مطلقا، والرأي عندي أن كلا الفريقين لا يخلو من تطرف في رؤيته إلى المسألة، إن الشاعر الحقيقي في نظري هو الذي يقدر على إبداع الشعر الغامض متى كان المقام الشعري يدعو إلى ذلك، ولا غضاضة في الأمر، إذ ليس الغموض شرا كله، بل إن من الشعر الغامض ما يثير فينا الحس الشعري كأقوى ما تكون الإثارة، ولا يكون عدم فهمنا العقلي له سببا في إقصائه من دائرة الشعر، ولا غرو، فنحن قد نروي أحلامنا التي راودتنا في منامنا بتأثر نفسي شديد، وبإحساس كامل بجماليتها رغم أنها غامضة ككل الأحلام وتحتاج إلى تفسير، كما أن الشاعر الحقيقي أيضا هو الذي يبدع من الشعر أوضحه حالما تقتضي أجواء قصيدته ذلك.
المناسباتية في الشعر
سؤال:في ديوانك "ملحمة الشهيد" نجد أن أغلب قصائده نظمت في مناسبات معينة، ألا تعتقد أن المناسباتية تقتل الإبداع وتضيق عليه، أم أنها عندك ذات أبعاد مغايرة؟
جواب:الذي أريد أن ألفت نظركم إليه ونظر القراء كذلك هو أن ما سميته بالمناسباتية، وهو تعبير لا يعجبني، وأنها تقتل القصيدة ونحو ذلك، أقول إن هذا الزعم في نظري هو زعم غالط، لأنه ما من إبداع شعري إلا هو عند التحقيق استجابة فنية لمناسبة من المناسبات، ذلك أن الشاعر ليس كائنا معلقا بين السماء والأرض بل هو إنسان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، والمناسبة في تعريفها هي ذلكم الحادث الذي يكون له ـ لأمرٍ ما ـ الفصل في تفجير ملكة الشعر عند هذا الشاعر أو ذلك. قد يقال: لكن ألا يخرج الشعر التأملي أو الذاتي أو الفلسفي من الشعر المناسباتي؟، أقول لا، لأن الشعر التأملي هو أيضا ليس سوى استجابة لمناسبة من المناسبات أي لحال من الأحوال التي يكون عليها الشاعر.
الشاعر المسلم بوق للدعوة
سؤال:نلاحظ أيضا أن أغلب قصائد الديوان كتبت في محطات سياسية معينة، وجاءت صدى لها، هل يصح للشاعر في رأيكم أن يكون بوقا لحزب معين دون أن يفقد رؤيته الفنية الخالصة شريطة أن يكون هذا البوق دعوة إلى الخير والصلاح وأن يكون هذا الحزب "المبوق" له إن صح التعبير حزب خير وصلاح أيضا.
جواب: اسمح لي يا أخي أن أقول لك بأن غالبيتنا وللأسف تعيش بفكر إمعي (من الإمعة) أو قطيعي (من القطيع)، فالملاحظ في ميدان الأدب على الأقل، ولعل الأمر كذلك في سائر الميادين، أنه ما إن تطلق جهة ما شعارا أو فكرا وراءه ما وراءه حتى ترى أكثر الناس مرددين له ولا ترداد الببغاوات، بما في ذلك النخبة المثقفة في كثير من الأحيان مع الأسف، وهكذا فما إن تولى الحداثيون المتطرفون (أصحاب قصيدة النثر) كبر الفصل الجائر بين الشعر والواقع الاجتماعي المعيشي عن طريق الهجوم على الشعر السياسي باعتباره كارثة على الشعر بمفهومه الخالص حتى رأينا شعراءنا المساكين ترتعد فرائصهم عند ذكر الشعر السياسي خوفا ونفورا منه، وراحوا يكتبون بإيمان أو بدونه الشعر الخالص لوجه الشعر، كأن الشعر إله يعبد من دون الله، والعياذ بالله، مع أن منهم من كان يملأ بالأمس القريب ملاحق الجرائد بالشعر السياسي الثائر الفائر.
وبمثابة تأصيل لهذه المسألة أتساءل: ألم يكن شعراء الإسلام، الأوائل لحزب الله ورسوله؟ أليست الحركات الإسلامية تسعى -أو ينبغي أن تسعى- إلى ما سعت إليه الحركة الإسلامية الأولى، حركة العهد النبوي والراشدي؟ ولأن الجواب بالإيجاب فإنه من الواجب على الشاعر الإسلامي أن يكون بوقا لجماعته الإسلامية شريطة توفر أمرين اثنين: الصدق في القول وإخلاصه لوجه الله تعالى من جهة، وتوفر قدر محترم من الشعرية في شعره من جهة ثانية، ولن يفوتني في هذا الصدد تذكير من يهاجم الشعر السياسي أو الحزبي بأن أكثر الشعر في تاريخنا الأدبي هو شعر سياسي منذ الجاهلية إلى اليوم، ولم يعد هذا الشعر سبة إلا بعد ظهور هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بشعراء الحداثة
No comments:
Post a Comment