فوكو ومسالة تشخيص الحاضر
راسلوا الكاتب-ة مباشرة حول الموضوع
لمسلم رشيد
الحوار المتمدن - العدد: 1324 - 2005 / 9 / 21
إن الباحث في الفلسفة المعاصرة يجد صعوبة حادة في تصنيف المدارس والاتجاهات الفكرية والعلمية السائدة وذلك لتداخلها، وظهور محددات جديدة تستلهم مقوماتها من المجتمع وتطرح تساؤلاته وإشكالاته، فمن الصعب تصنيف أعمال المفكر الفرنسي ميشيل فوكو"، فبعد وفاته سنة 1984، كتبت الصحافة الفرنسية عنه تقول، بأن أبحاثه ومؤلفاته تشكل الحدث الفكري والثقافي الأكثر بروزا وأهمية في هذا القرن. وإذا كان من المرجح ألا يكون فوكو بالفعل أكبر المفكرين في هذا العصر على الإطلاق، فإنه يعد بالتأكيد الشخصية التي أصبحت تحتل مكان الصدارة في الفكر الفلسفي المعاصر بعد سار تر.
فهل يمكن أن نعتبر فوكو مؤرخا أم عالم اجتماع أم عالم النفس أم فيلسوف….؟ أم أنه يجمع تلك الصفات؟ كان فوكو يرفض أن نلصق به أية واحدة من هذه التصنيفات التقليدية، فالسبيل الذي ينزع فوكو إلى أتباعه يتمثل في القيام بإعادة قراءة جذرية للممارسات والخطاب، فاشتغال فوكو في عدة مجالات في اللغة والمعرفة والحمق والسجن والجنس والسلطة…. إنها مواضيع جديدة في تناولها الإبيستمولوجية، مما جعلت من فيلسوفنا أحد النقاد الكبار في القرن العشرين، فقد وقف موقفا نقديا حادا من مجتمعه الفرنسي، وبقية المجتمعات الأوربية بشكل عام، وهو حتما واحد من أهم الفلاسفة النقديين، فلهجته النقدية مليئة بالغضب والتمرد. ومؤلفاته ما هي إلا عودة لإعادة الاعتبار لذات والآخر. وللمقاومة. أي مقاومة المجتمع أو بالأحرى السلطات القمعية الموجودة داخل كل مجتمع فحرية الفرد مهددة من قبل هذه القوى أو السلطات العديدة، وهذا ما جعل فوكو يقول: "أن ما أصبح يخترق الفكر الحديث كله هو قانون للتفكير في اللامفكر فيه".
فتفكير فوكو في السياسة والجنس والحمق، وعلاقات السلطة القائمة في المجتمعات، يختلف عن تصور المفكرين الآخرين. فالنظرية الكلاسيكية أو الماركسية تركز على السلطة المركزية المتمثلة بالحكومة ورئيس الدولة والإدارة
أما تحليل فوكو فيتركز على علاقات السلطة التحية لا الفوقية. فالسلطة في رأي فوكو مبنية في كل أنحاء الجسد الاجتماعي، إنها عبارة عن شبكة أخطبوطية تشمل الجميع في حارس البناية إلى رئيس الجمهورية، وبالتالي علينا أن نتعود على رؤية السلطة من تحت لا من فوق فقط.
وهذه النظرية تنطلق بشكل خاص على مجتمعات الحداثة المتقدمة في الغرب، حيث تطورت تقنيات المراقبة والعقاب بشكل مذهل. ففي رأي فوكو أن الحداثة ولدت مجتمعات مد جنة، وكل إنسان يفتش في سجلات الأمن والبوليس، بل إن تدجين الناس يبتدئ من المدرسة، مرورا بالثكنة العسكرية، وانتهاء بالوظيفة في القطاع العام أو القطاع الخاص.
وعلى مسار تطوع مؤسسات الحداثة أجساد الناس وعقولهم وتدجنهم بل وتسيرهم من خلف الستار. وبالتالي فالحرية التي تتبجج بها مجتمعات الحداثة ليست شيئا أكثر إطلاقية، ولكن الحرية مراقبة أكثر مما يظن فوكو، ولهذا السبب أصدر كتابه " المراقبة والعقاب"، حلل فيه آليات السلطة السائدة في المجتمع البور جوازي الفرنسي والأوربي، وأثبتت فيه إن الإنسان مراقب من قبل الأجهزة الحديثة، دون أن يشعر. ولكن بعض المفكرين يعتقدون أن فوكو تجاوز الحدود في نقد الحداثة، فالفيلسوف الألماني هابرماس عاب عليه هذا التوجه واتهمه بالفوضوية والعدمية. بل ومحاولة الانقلاب على الحداثة أو الخروج من إطارها وكأنها سجن أو قفص. وهذا الموقف السلبي في الحداثة اعتبره الكثيرون لاعقلانية وهداما. وهذا ما سنخصص له فصلا في القسم الثاني من خلال قراءة دو لوز للسلطة والمعرفة عند فوكو، فالسلطة ليست فقط مصدر الاستبداد والقمع، وإنما أصبحت منتجا للمعرفة ومحددا لمسار العلم. وإذا كان الإنسان اختراع حديث العهد، كما اعتبره فوكو، وصورة لا يتجاوز عمرها مائتي سنة، إنه مجرد انعطاف في معرفتنا، وسيختفي عندما تتخذ المعرفة شكلا آخر جديدا، وما يبرره فوكو أيضا في الكلمات والأشياء ونقده للعلوم الإنسانية، فلقد حاول في كتابه الرئيسي هذا أن يكشف عن تلك الأجزاء، وتلك القطع التي تم بها وبواسطتها صنع الإنسان في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، لقد حاول إبراز حداثة هذا الإنسان، ففوكو يؤكد أنه وقبل القرن الثامن عشر لم يكن الإنسان موجودا…… ولقد أشرف الآن على نهايته وربما أضحت ساعة اختفائه وشيكة. تلك هي الخلاصة المركزية المثيرة التي أسهمت في صنع أسطورة الكلمات والأشياء في الستينات من القرن الماضي، فلم يكن يهم
فوكو كون هذا الكتاب الكلمات والأشياء سيكون أخطر وثيقة للدلالة الأركيولوجية الغربية ... إنها وثيقة تكشف لعبة العقل الغربي في معجزة اللامتناهي، وهي معجزة ولادة المتناهي والآخر المبتعد والمنفي والمقصي، انخرط في اللعبة دون أن يدري، ولقد حان له الآن أن يستيقظ على ماضي الضحية المستمرة التي كان دائما من أجل أن يساهم في تحطيم اللعبة ذاتها. والخروج حقا إلى ساحة خارج الاستقطاب ... فابيستيمية الثقافة الغربية هي الانقطاع الذي دشنه العصر الكلاسيكي نحو منتصف القرن السابع عشر وذلك الذي طبع في بداية القرن التاسع عشر عتبة الحداثة التي تؤطرها ابيستيمية المعرفة. فمفهوم الابيستيمي فرنسية ، أصلها يوناني أدخلها فوكو إلى المعجم الفرنسي، وهي تعني الفضاء الثقافي أو الطريقة التي يتمثل بها شعب ما في عصر ما السياسة والعالم والوجود والإنسان والفكر والفلسفة، فالابيستمي عبارة عن نظام خفي يوجد في ثقافة كل عصر، ويشكل طبقتها النحتية ويوجد خارج وعي الأفراد المساهمين في إنتاج الثقافة، فالنظام هو الذي يحدد الشروط التي بمقتضاها يعترف لخطاب ما عن الأشياء بأن يصف ويقول الحقيقة، النظام هو الذي يخلق شروط التفكير، ولكن لا أحد يفكر فيه، ويستعمل إلى جانب الابيستيمي مجموعة من المفاهيم تتقاسم نفس المضامين والرؤى المعرفية والثقافية، كالمجال، الإطار الابيستيمولوجي، النسق، البنية، شروط الإمكان والمعطيات التاريخية…. فالابيستيمي بنية معرفية لا شعورية، تجعل من الفكر يسائل ذاته في كل زمن تاريخي، وبآليات منهجية معينة يطرحا السياق المعرفي، بنية تعتبر شبكة خفية من القوانين التي تنظم المعارف والمناهج والمفاهيم وطرق التحليل والتصنيف، وتتحكم في العقول والعلماء والمفكرين في فترة من فترات التاريخ، بنية هي بمثابة اللاشعور المعرفي المتخفي مرحلة تاريخية معينة، يهيمن على ميدان معرفي ويؤطر أشكال الإبداع الفكري والثقافي، حسب فوكو لا توجد في كل مرحلة تاريخية معينة إلا ابيستيمي واحدة هي التي تنظم المعارف في فترة محددة، ذلك أن كل الإبيستيميةلحديثة تلك التي تكونت في أواخر القرن الثامن عشر وما زالت تشكل الأرضية الوضعية لمعارفننا. تلك صيغة كينونة الإنسان الفريد وإمكانية معرفته تجربييا كانت تلك الإيستيمية بجملها مرتبطة بموت الخطاب واندثار سلطانه الرتيب، وبانزلاق اللغة إلى ناحية الموضوعية، وبظهورها مجددا بأشكال متعددة. ذلك أن الإبيستيمي نفكر بواسطته في الإنقطاعات التي يعرفها تاريخ العلوم والمعارف من لغة وخطابات والتاريخ البشري، فالإبيستيمي يرغم الفكر في عصر معين على أن يفكر بطريقة معينة، إنه لا شعور معرفي ليس له طابع الضرورة في إنتاج المعارف إلا لمرحلة تاريخية معينة، ألا يجدر بالأخرى التخلي عن التفكير بالإنسان، أو بصورة أدق. التفكير عن كتب بموت الإنسان هذا، وباحتفاء إمكانية كل العلوم الإنسانية - بعلاقته مع اهتمامنا باللغة. إنه تساؤل يطرحه فيلسوفنا بغية جعل العصر الحديث عصر إبستيميات معرفية جديدة تخرج من ممارستها الخطابات السابقة لفترة عصر معين. فتطبيق المنهج الأركيولوجي على الثقافة الغربية الذي جعل منه فوكو أداة لكشف عن الإبستميات للخطابات المعرفية التي هيمنت على ثقافة وفكر ذلك العصر فثلاث مراحل كبرى من تطورها تمتد لتشمل خمسة قرون. فوصف فوكو البنية المعرفية التي سادت حتى عصر النهضة إلى البنية المعرفية للعصر الكلاسيكي في القرن السابع عشر والعصر الحديث ابتداء من القرن التاسع عشر فإن ما يقدم لتحليل الأركيولوجي إنما هو كل المعرفة الكلاسيكية. أو بالأحرى هذه العتبة التي تفصلها عن الفكر الكلاسيكي، وتؤلف حداتتنا، وعلى هذه العتبة ظهر للمرة الأولى هذا الشكل الغريب من المعرفة الذي نطلق عليه اسم الإنسان والذي فتح مجالا خاصا للعلوم الإنسانية .فالإنسان بشكل عام في نظر العلوم الإنسانية ليس ذاك الكائن ذا الشكل المميز، فحسب فوكو هو ذلك الكائن الذي يكون داخل الحياة بالذات، فقبل القرن الثامن عشر لم يكن الإنسان موجودا…. إنه الخلاصة التي وصلت إليها الفلسفة الفوكوية، هذا الإنسان الذي أشرف الآن على نهايته، وربما أصبحت ساعة اختفاءه وشيكة.
ففوكو بقوله هذا أحدث ثورة اعتم فيها على منهج جينالوجيا الأركيولوجيا بغية منه التأكيد على أن العلوم الإنسانية فجرت بأفكارها ومعارفها آفاق جديدة اختزلت الذات والإنسان بؤرة معرفية لعصر خاص.
ففوكو لا يقصد إعلان نهاية الإنسان بالمعنى الحرفي للكلمة. ولكن نهاية مفهوم معين على الإنسان، هذا المفهوم الذي ناضلت فيه القوى العقلانية والأقلام المعرفية لعصر النهضة والثورة الفرنسية، إنه إنسان النزعة الإنسانية مؤسسة للمعرفة واعية وفاعلة في التاريخ، الإنسان كواقع له خصوصية وأهداف وغايات، الإنسان كذات مؤسسة حسب فوكو لم تكن له أية أهمية في ابستيمي عصر النهضة/ وكذلك في ابستيمي العصر الكلاسيكي، وهذا ما جعل الثقافة الغربية قبل القرن الثامن عشر مهتمة ومشغولة بفكرة الإله والعالم وقوانين الطبيعة.. فالحقل الإبستمولوجي أخذ يتجزأ مند القرن التاسع عشر أو بالأحرى، فإنه انفجر في اتجاهات مختلفة . ذلك أن نهاية القرن الثامن عشر كان الحدث الجديد في الثقافة الفرنسية هو بداية انسحاب المعرفة والفكر من فضاء التمثل حيث لم تعد اللغة وحدها بقادرة على التأطير الدقيق للمعارف والعلوم، إذ أن تلك المعارف أصبحت تتطلب البحث عن بنيتها الخفية والمضمرة في ثنايا فعل التقدم والتطور، من هنا حسب فوكو ظهر في الحقل المعرفي إطار جديد لمعرفة الواقع هو البعد التاريخي، فصحيح أن التاريخ قد ظهر قبل نشوء العلوم الإنسانية. فقد قام منذ أقدم عصور اليونان بعدد كبير من الأدوار الكبيرة في الثقافة الفرنسية. فكان ذاكرة. أسطورة ونقلا للكلمة والمثل . بحيث هيمن مفهوم ومقولة التاريخ، وفي هذا الحقل الجديد للمعرفة ظهر المفهوم الحديث عن الإنسان ونتواجه التاريخانية وتحليلية التناهي، والتاريخانية طريقة تقوم بها لذاتها العلاقة النقدية القائمة بين التاريخ وبين العلوم الإنسانية . فالفترة التي تبتدئ من عصر النهضة إلى العصر الحالي يعتقد فوكو أن هناك ثلاث مراحل أنماط من النظام، لثلاث مجالات وبنيات إبستيمولوجية أن بإمكانها تفسير التعدد والتنوع الظاهري للمعارف في تلك الحقبة الزمنية، فالإبيستيميات الثلاث التي يصفها التحليل الأركيولوجي للثقافة الفرنسية تختلف عن بعضها البعض، فكل ابستيمي يشكل بنية معرفية لها جهازها المفاهيمي ومجموعة من المعارف تتباين وتتنافر فيما بينها لتشكل نظاما معرفيا خاصا. فالفلسفة الفوكوية تحاول أن تضعنا أمام إبسمتيات تؤول من خلالها الواقع بكل دقة ومطابقة لفهم الموضوعيات فهما عقلانيا وواعيا،
إن ظهور واختفاء الإبستيميات وكيفية انتقالها يظل غامضا. بحيث أن صاحب الكلمات والأشياء يعرف تعاقب الإبستيميات من وجهة نظر تصنيفه تعتمد على التشابه والنظام والتاريخ… فكل ابستيمية تظهر وتختفي فجأة وذلك نتيجة لتحولات إبستمولوجية تصيب الجسم الفكري والثقافي للمجتمع الإنساني، ففوكو يصف تعاقب الإبستيميات ولم يقدم لنا تفسيرات علية ومنطقية لهذا التعاقب والتتالي.
وهذا ما يتطابق مع المنهج الأركيولوجي الذي اعتمده فوكو، من خلال دراسة الخطاب المعرفي كظاهرة موضوعية معزولة عن كل سياق معرفي خارجي لا يهدف إلى إسناد نظرية عامة جديدة في الحقل المعرفي، ذلك لأنها تحصر اهتمامها خارج قيم الموضوعية والعلم والتقدم والعقلانية.
والأركيلوجية الفوكوية أداتها المفهومية هي الإبسيمي التي تدل في سياقها على نوع خفي من الأنساق والنظام. فالوصف الحضري فيه تخلي مطلق عن تاريخ الأفكار ورفض منهجي لمسلماته وطرقه ومحاولة لإقامة تاريخ حديت.
فهل يمكن أن نعتبر فوكو مؤرخا أم عالم اجتماع أم عالم النفس أم فيلسوف….؟ أم أنه يجمع تلك الصفات؟ كان فوكو يرفض أن نلصق به أية واحدة من هذه التصنيفات التقليدية، فالسبيل الذي ينزع فوكو إلى أتباعه يتمثل في القيام بإعادة قراءة جذرية للممارسات والخطاب، فاشتغال فوكو في عدة مجالات في اللغة والمعرفة والحمق والسجن والجنس والسلطة…. إنها مواضيع جديدة في تناولها الإبيستمولوجية، مما جعلت من فيلسوفنا أحد النقاد الكبار في القرن العشرين، فقد وقف موقفا نقديا حادا من مجتمعه الفرنسي، وبقية المجتمعات الأوربية بشكل عام، وهو حتما واحد من أهم الفلاسفة النقديين، فلهجته النقدية مليئة بالغضب والتمرد. ومؤلفاته ما هي إلا عودة لإعادة الاعتبار لذات والآخر. وللمقاومة. أي مقاومة المجتمع أو بالأحرى السلطات القمعية الموجودة داخل كل مجتمع فحرية الفرد مهددة من قبل هذه القوى أو السلطات العديدة، وهذا ما جعل فوكو يقول: "أن ما أصبح يخترق الفكر الحديث كله هو قانون للتفكير في اللامفكر فيه".
فتفكير فوكو في السياسة والجنس والحمق، وعلاقات السلطة القائمة في المجتمعات، يختلف عن تصور المفكرين الآخرين. فالنظرية الكلاسيكية أو الماركسية تركز على السلطة المركزية المتمثلة بالحكومة ورئيس الدولة والإدارة
أما تحليل فوكو فيتركز على علاقات السلطة التحية لا الفوقية. فالسلطة في رأي فوكو مبنية في كل أنحاء الجسد الاجتماعي، إنها عبارة عن شبكة أخطبوطية تشمل الجميع في حارس البناية إلى رئيس الجمهورية، وبالتالي علينا أن نتعود على رؤية السلطة من تحت لا من فوق فقط.
وهذه النظرية تنطلق بشكل خاص على مجتمعات الحداثة المتقدمة في الغرب، حيث تطورت تقنيات المراقبة والعقاب بشكل مذهل. ففي رأي فوكو أن الحداثة ولدت مجتمعات مد جنة، وكل إنسان يفتش في سجلات الأمن والبوليس، بل إن تدجين الناس يبتدئ من المدرسة، مرورا بالثكنة العسكرية، وانتهاء بالوظيفة في القطاع العام أو القطاع الخاص.
وعلى مسار تطوع مؤسسات الحداثة أجساد الناس وعقولهم وتدجنهم بل وتسيرهم من خلف الستار. وبالتالي فالحرية التي تتبجج بها مجتمعات الحداثة ليست شيئا أكثر إطلاقية، ولكن الحرية مراقبة أكثر مما يظن فوكو، ولهذا السبب أصدر كتابه " المراقبة والعقاب"، حلل فيه آليات السلطة السائدة في المجتمع البور جوازي الفرنسي والأوربي، وأثبتت فيه إن الإنسان مراقب من قبل الأجهزة الحديثة، دون أن يشعر. ولكن بعض المفكرين يعتقدون أن فوكو تجاوز الحدود في نقد الحداثة، فالفيلسوف الألماني هابرماس عاب عليه هذا التوجه واتهمه بالفوضوية والعدمية. بل ومحاولة الانقلاب على الحداثة أو الخروج من إطارها وكأنها سجن أو قفص. وهذا الموقف السلبي في الحداثة اعتبره الكثيرون لاعقلانية وهداما. وهذا ما سنخصص له فصلا في القسم الثاني من خلال قراءة دو لوز للسلطة والمعرفة عند فوكو، فالسلطة ليست فقط مصدر الاستبداد والقمع، وإنما أصبحت منتجا للمعرفة ومحددا لمسار العلم. وإذا كان الإنسان اختراع حديث العهد، كما اعتبره فوكو، وصورة لا يتجاوز عمرها مائتي سنة، إنه مجرد انعطاف في معرفتنا، وسيختفي عندما تتخذ المعرفة شكلا آخر جديدا، وما يبرره فوكو أيضا في الكلمات والأشياء ونقده للعلوم الإنسانية، فلقد حاول في كتابه الرئيسي هذا أن يكشف عن تلك الأجزاء، وتلك القطع التي تم بها وبواسطتها صنع الإنسان في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، لقد حاول إبراز حداثة هذا الإنسان، ففوكو يؤكد أنه وقبل القرن الثامن عشر لم يكن الإنسان موجودا…… ولقد أشرف الآن على نهايته وربما أضحت ساعة اختفائه وشيكة. تلك هي الخلاصة المركزية المثيرة التي أسهمت في صنع أسطورة الكلمات والأشياء في الستينات من القرن الماضي، فلم يكن يهم
فوكو كون هذا الكتاب الكلمات والأشياء سيكون أخطر وثيقة للدلالة الأركيولوجية الغربية ... إنها وثيقة تكشف لعبة العقل الغربي في معجزة اللامتناهي، وهي معجزة ولادة المتناهي والآخر المبتعد والمنفي والمقصي، انخرط في اللعبة دون أن يدري، ولقد حان له الآن أن يستيقظ على ماضي الضحية المستمرة التي كان دائما من أجل أن يساهم في تحطيم اللعبة ذاتها. والخروج حقا إلى ساحة خارج الاستقطاب ... فابيستيمية الثقافة الغربية هي الانقطاع الذي دشنه العصر الكلاسيكي نحو منتصف القرن السابع عشر وذلك الذي طبع في بداية القرن التاسع عشر عتبة الحداثة التي تؤطرها ابيستيمية المعرفة. فمفهوم الابيستيمي فرنسية ، أصلها يوناني أدخلها فوكو إلى المعجم الفرنسي، وهي تعني الفضاء الثقافي أو الطريقة التي يتمثل بها شعب ما في عصر ما السياسة والعالم والوجود والإنسان والفكر والفلسفة، فالابيستمي عبارة عن نظام خفي يوجد في ثقافة كل عصر، ويشكل طبقتها النحتية ويوجد خارج وعي الأفراد المساهمين في إنتاج الثقافة، فالنظام هو الذي يحدد الشروط التي بمقتضاها يعترف لخطاب ما عن الأشياء بأن يصف ويقول الحقيقة، النظام هو الذي يخلق شروط التفكير، ولكن لا أحد يفكر فيه، ويستعمل إلى جانب الابيستيمي مجموعة من المفاهيم تتقاسم نفس المضامين والرؤى المعرفية والثقافية، كالمجال، الإطار الابيستيمولوجي، النسق، البنية، شروط الإمكان والمعطيات التاريخية…. فالابيستيمي بنية معرفية لا شعورية، تجعل من الفكر يسائل ذاته في كل زمن تاريخي، وبآليات منهجية معينة يطرحا السياق المعرفي، بنية تعتبر شبكة خفية من القوانين التي تنظم المعارف والمناهج والمفاهيم وطرق التحليل والتصنيف، وتتحكم في العقول والعلماء والمفكرين في فترة من فترات التاريخ، بنية هي بمثابة اللاشعور المعرفي المتخفي مرحلة تاريخية معينة، يهيمن على ميدان معرفي ويؤطر أشكال الإبداع الفكري والثقافي، حسب فوكو لا توجد في كل مرحلة تاريخية معينة إلا ابيستيمي واحدة هي التي تنظم المعارف في فترة محددة، ذلك أن كل الإبيستيميةلحديثة تلك التي تكونت في أواخر القرن الثامن عشر وما زالت تشكل الأرضية الوضعية لمعارفننا. تلك صيغة كينونة الإنسان الفريد وإمكانية معرفته تجربييا كانت تلك الإيستيمية بجملها مرتبطة بموت الخطاب واندثار سلطانه الرتيب، وبانزلاق اللغة إلى ناحية الموضوعية، وبظهورها مجددا بأشكال متعددة. ذلك أن الإبيستيمي نفكر بواسطته في الإنقطاعات التي يعرفها تاريخ العلوم والمعارف من لغة وخطابات والتاريخ البشري، فالإبيستيمي يرغم الفكر في عصر معين على أن يفكر بطريقة معينة، إنه لا شعور معرفي ليس له طابع الضرورة في إنتاج المعارف إلا لمرحلة تاريخية معينة، ألا يجدر بالأخرى التخلي عن التفكير بالإنسان، أو بصورة أدق. التفكير عن كتب بموت الإنسان هذا، وباحتفاء إمكانية كل العلوم الإنسانية - بعلاقته مع اهتمامنا باللغة. إنه تساؤل يطرحه فيلسوفنا بغية جعل العصر الحديث عصر إبستيميات معرفية جديدة تخرج من ممارستها الخطابات السابقة لفترة عصر معين. فتطبيق المنهج الأركيولوجي على الثقافة الغربية الذي جعل منه فوكو أداة لكشف عن الإبستميات للخطابات المعرفية التي هيمنت على ثقافة وفكر ذلك العصر فثلاث مراحل كبرى من تطورها تمتد لتشمل خمسة قرون. فوصف فوكو البنية المعرفية التي سادت حتى عصر النهضة إلى البنية المعرفية للعصر الكلاسيكي في القرن السابع عشر والعصر الحديث ابتداء من القرن التاسع عشر فإن ما يقدم لتحليل الأركيولوجي إنما هو كل المعرفة الكلاسيكية. أو بالأحرى هذه العتبة التي تفصلها عن الفكر الكلاسيكي، وتؤلف حداتتنا، وعلى هذه العتبة ظهر للمرة الأولى هذا الشكل الغريب من المعرفة الذي نطلق عليه اسم الإنسان والذي فتح مجالا خاصا للعلوم الإنسانية .فالإنسان بشكل عام في نظر العلوم الإنسانية ليس ذاك الكائن ذا الشكل المميز، فحسب فوكو هو ذلك الكائن الذي يكون داخل الحياة بالذات، فقبل القرن الثامن عشر لم يكن الإنسان موجودا…. إنه الخلاصة التي وصلت إليها الفلسفة الفوكوية، هذا الإنسان الذي أشرف الآن على نهايته، وربما أصبحت ساعة اختفاءه وشيكة.
ففوكو بقوله هذا أحدث ثورة اعتم فيها على منهج جينالوجيا الأركيولوجيا بغية منه التأكيد على أن العلوم الإنسانية فجرت بأفكارها ومعارفها آفاق جديدة اختزلت الذات والإنسان بؤرة معرفية لعصر خاص.
ففوكو لا يقصد إعلان نهاية الإنسان بالمعنى الحرفي للكلمة. ولكن نهاية مفهوم معين على الإنسان، هذا المفهوم الذي ناضلت فيه القوى العقلانية والأقلام المعرفية لعصر النهضة والثورة الفرنسية، إنه إنسان النزعة الإنسانية مؤسسة للمعرفة واعية وفاعلة في التاريخ، الإنسان كواقع له خصوصية وأهداف وغايات، الإنسان كذات مؤسسة حسب فوكو لم تكن له أية أهمية في ابستيمي عصر النهضة/ وكذلك في ابستيمي العصر الكلاسيكي، وهذا ما جعل الثقافة الغربية قبل القرن الثامن عشر مهتمة ومشغولة بفكرة الإله والعالم وقوانين الطبيعة.. فالحقل الإبستمولوجي أخذ يتجزأ مند القرن التاسع عشر أو بالأحرى، فإنه انفجر في اتجاهات مختلفة . ذلك أن نهاية القرن الثامن عشر كان الحدث الجديد في الثقافة الفرنسية هو بداية انسحاب المعرفة والفكر من فضاء التمثل حيث لم تعد اللغة وحدها بقادرة على التأطير الدقيق للمعارف والعلوم، إذ أن تلك المعارف أصبحت تتطلب البحث عن بنيتها الخفية والمضمرة في ثنايا فعل التقدم والتطور، من هنا حسب فوكو ظهر في الحقل المعرفي إطار جديد لمعرفة الواقع هو البعد التاريخي، فصحيح أن التاريخ قد ظهر قبل نشوء العلوم الإنسانية. فقد قام منذ أقدم عصور اليونان بعدد كبير من الأدوار الكبيرة في الثقافة الفرنسية. فكان ذاكرة. أسطورة ونقلا للكلمة والمثل . بحيث هيمن مفهوم ومقولة التاريخ، وفي هذا الحقل الجديد للمعرفة ظهر المفهوم الحديث عن الإنسان ونتواجه التاريخانية وتحليلية التناهي، والتاريخانية طريقة تقوم بها لذاتها العلاقة النقدية القائمة بين التاريخ وبين العلوم الإنسانية . فالفترة التي تبتدئ من عصر النهضة إلى العصر الحالي يعتقد فوكو أن هناك ثلاث مراحل أنماط من النظام، لثلاث مجالات وبنيات إبستيمولوجية أن بإمكانها تفسير التعدد والتنوع الظاهري للمعارف في تلك الحقبة الزمنية، فالإبيستيميات الثلاث التي يصفها التحليل الأركيولوجي للثقافة الفرنسية تختلف عن بعضها البعض، فكل ابستيمي يشكل بنية معرفية لها جهازها المفاهيمي ومجموعة من المعارف تتباين وتتنافر فيما بينها لتشكل نظاما معرفيا خاصا. فالفلسفة الفوكوية تحاول أن تضعنا أمام إبسمتيات تؤول من خلالها الواقع بكل دقة ومطابقة لفهم الموضوعيات فهما عقلانيا وواعيا،
إن ظهور واختفاء الإبستيميات وكيفية انتقالها يظل غامضا. بحيث أن صاحب الكلمات والأشياء يعرف تعاقب الإبستيميات من وجهة نظر تصنيفه تعتمد على التشابه والنظام والتاريخ… فكل ابستيمية تظهر وتختفي فجأة وذلك نتيجة لتحولات إبستمولوجية تصيب الجسم الفكري والثقافي للمجتمع الإنساني، ففوكو يصف تعاقب الإبستيميات ولم يقدم لنا تفسيرات علية ومنطقية لهذا التعاقب والتتالي.
وهذا ما يتطابق مع المنهج الأركيولوجي الذي اعتمده فوكو، من خلال دراسة الخطاب المعرفي كظاهرة موضوعية معزولة عن كل سياق معرفي خارجي لا يهدف إلى إسناد نظرية عامة جديدة في الحقل المعرفي، ذلك لأنها تحصر اهتمامها خارج قيم الموضوعية والعلم والتقدم والعقلانية.
والأركيلوجية الفوكوية أداتها المفهومية هي الإبسيمي التي تدل في سياقها على نوع خفي من الأنساق والنظام. فالوصف الحضري فيه تخلي مطلق عن تاريخ الأفكار ورفض منهجي لمسلماته وطرقه ومحاولة لإقامة تاريخ حديت.
No comments:
Post a Comment