| |||||
في حياتنا الثقافية رموز فكرية تحولت إلى أصنام نقدسها ولا يجرؤ أحد على المساس بها ; لأنها اكتسبت سلطة فكرية يسلم بها الناس دون وعي, ولا يحاولون مساءلتها أو تقييمها. وهذا عرض من أعراض مرض الثقافة التي لا تراجع نفسها, ولا تنشغل بالبحث والنقد والتقييم, وإنما بالتصديق والتسليم, وباتباع الشائع والمتواتر دون بحث وتدقيق. ولا شك أن عبد الرحمن بدوي يمثل في حياتنا الثقافية المعاصرة ظاهرة من هذا النوع الذي يمثل سلطة ومرجعية فكرية مسلم بها. وهذا هو ما ينبغي أن نتوقف عنده ونخضعه للنظر والمراجعة. والحقيقة أن الكلام عن عبد الرحمن بدوي بوجه خاص من حيث هو ظاهرة فكرية, كلام محفوف بالمخاطر ; لأنه يمكن أن ينزلق - كما يحدث عادة - إلى الحديث عن الشخص: شخص عبد الرحمن بدوي. فلا شك ان هذا الجانب الأخير يمثل بالنسبة للكثيرين مادة شديدة الإثارة والتشويق بحيث تصلح لأن تكون مادة صحفية من الطراز الأول ; نظرا لما تنطوي عليه شخصية بدوي من تفرد, وما تحفل به سيرة حياته من تطرف, وذلك من قبيل: الكلام عن بخله الشديد, وافتتانه بذاته, وازدرائه لأغلب البشر, والتشكيك في مدى وطنيته أو إيمانه.. إلخ. إن مثل هذا النوع من الكلام لا يدخل في باب التقييم الموضوعي لأي مفكر ; ولذلك ينبغي أن نجتنبه تماما ولا ندخله في اعتبارنا أو نلتفت إليه هنا. فالكلام عن الشخص لا أهمية له هنا, سواء كنا نعني بالشخص هنا شخصية عبد الرحمن بدوي أو مواقفه الشخصية من الآخرين ; فلا الشخص ولا مواقفه الشخصية أو قيمه التي يدين بها مما يكون موضع اهتمامنا هنا, طالما كان اهتمامنا ينصب في المقام الأول على تشخيص قيمته العلمية والفكرية: فكم من العباقرة والمبدعين كانوا بغيضين على المستوى الشخصي, ينفرون من الناس أو ينفر الناس منهم, أو حتى كانوا سيئي الخ لق بل خونة أحيانا مثلما كان فرنسيس بيكون. وكم كان هناك - في مقابل ذلك - كثرة هائلة من البشر حلوي المعشر, رقيقي الطباع, يتحلون بامتياز الخلق, ومع ذلك لا يتمتعون بأي ذكاء. لا يهمنا إذن من الشخص هنا إلا ما تعلق منه بتكوينه الفكري, وما تعلق منه برؤيته وتقييمه هو نفسه لإنتاجه الفكري. والحقيقة أن عبد الرحمن بدوي يمثل بالفعل ظاهرة فكرية في حياتنا الثقافية تحتاج إلى تحليل. غير أن هذا التحليل لا ينبغي أن يسعى فحسب إلى فهم الظاهرة في ذاتها, وإنما أيضا إلى فهمها في سياقها التاريخي لثقافتنا المعاصرة. ولا شك أن تحليل الظاهرة هنا لا يعني الإنشغال بتحليل ونقد جزئياتها بالوقوف عند تفصيلات مجمل أو بعض الأعمال الفكرية التي أنتجها بدوي, وإنما يعني الإنشغال بمعنى الظاهرة ودلالتها من خلال الكشف عن ملامحها العامة التي تميزها. وسوف نبدأ بالكشف عن الملامح الظاهرية أو الشكلية المميزة لإنتاج بدوي الفكري, لندلف منها إلى الملامح المتعلقة بمضمون هذا الإنتاج ودلالته العامة: الموسوعية والنزعة الكمية من المعروف أن الانتاج الفكري لبدوي لا يدانيه من حيث الكم - الذي يزيد كثيرا عن المائة كتاب - إنتاج أي مفكر أو باحث في مجال الفلسفة أو في أي مجال آخر من مجالات الفكر في ثقافتنا المعاصرة. ولقد تميز إنتاجه بالطابع الموسوعي ; إذ كتب في كل مجالات الفكر الفلسفي دون إستثناء, فشملت كتاباته المنطق والفلسفة اليونانية وفلسفة العصور الوسطى المسيحية, والفلسفة الإسلامية, وعلم الكلام والتصوف, والفكر الفلسفي الحديث والمعاصر, وفروع الفلسفة المتخصصة: كفلسفة الأخلاق, وعلم الجمال, وفلسفة التاريخ, ومناهج البحث. ولقد تنوع إنتاجه بين المؤلفات والترجمات للمذاهب وأعلام الفكر, فضلا عن تحقيقات الكتب التراثية, وتأليف الموسوعات. وربما يكون هذا الكم الهائل من الإنتاج الفكري هو ما حدا بالأستاذ محمود أمين العالم لأن يصف بدوي بأنه <<مؤسسة فلسفية>>. ويبدو أن الاهتمام بالكم مسألة متأصلة في تكوينه الفكري, وفي نظرته إلى نفسه وتقييمه الذاتي لما أنتجه ; وهو أمر يمكن أن نكشف عنه ببساطة, لنرى بعد ذلك إلى أي حد جاء هذا الاهتمام بالكم على حساب الكيف, أعني على حساب القيمة الفكرية والعلمية لإنتاجه في حد ذاته: وكون أن الاهتمام بالكم مسألة متأصلة في تكوينه الفكري هو أمر يشهد به لأول وهلة ذلك العدد الهائل من كتبه, وهو أمر كان يعد له ويشغله منذ بداية تكوينه العلمي ; إذ اعتاد في كتبه المبكرة أن يلحق بكل كتاب قائمة بكتاباته يضمنها سلسلة كان قد بدأ إصدارها بعنوان <<الروائع المائة>>, وهو العدد الذي كان يطمح إلى بلوغه منذ البداية. وذلك أمر غريب لا يمكن أن نتصوره هدفا بالنسبة لمؤسسة نشر تجارية, لا بالنسبة لفيلسوف; فالفلاسفة على وجه الإطلاق لا ينشغلون بالكم أبدا, وأغلبهم لم يكتبوا سوى بضعة أعمال, بل إن بعضا منهم لم يعرف إلا بعمل واحد هو الذي منحه لقب فيلسوف. فما بالنا إذا أمكن لامرئ أن ينتج في الفلسفة بمعدل عملين على الأقل كل عام مثلما فعل بدوي ! هل يمكن لعاقل أو لذي فطنة أن يصنف مثل هذا الإنتاج في فئة الابداع الفلسفي. إن مسألة كم الإنتاج لا تعني شيئا بالنسبة للقيمة الإبداعية لهذا الإنتاج, بل إنها - على العكس من ذلك - تعطي مؤشرا سلبيا على القيمة الإبداعية لهذا الإنتاج, خاصة إذا كان في مجال الفلسفة. ولو احتكمنا إلى معيار الإبداع وحده, لكان كتاب <<فلسفة المرآة>> الذي ألفه محمود رجب تلميذ بدوي يفوق - على الأقل من وجهة نظري - كل ما كتبه بدوي نفسه. أما كيف أمكن لبدوي إنتاج هذا الكم الهائل من الكتابات الفلسفية, فلهذا تفسير عندي سوف أذكره في حينه. وإذا كانت مسألة كم الإنتاج لا تعني شيئا من الناحية الإبداعية, فإنها كانت تعني الكثير بالنسبة لبدوي: فهو في سيرته الذاتية يؤكد على قيمة كتابه عن <<إمانويل كانط>> المؤلف من أربعة أجزاء, فيقول: <<وفيما أعلم لا يوجد كتاب عن إمانويل كانط بهذا الاتساع والتفصيل, في أية لغة من اللغات التي أعرفها, وإن كانت توجد مئات من الكتب يتناول الواحد منها جانبا أو موضوعا في فلسفة كانط على نحو أشد تفصيلا. لكنني أتحدث عن كتاب واحد عن<<كل>> فلسفة كانط, فلا كتاب كونو فيشر ولا كتاب إرنست كاسيرر بهذا الاتساع الذي لكتابي>> (سيرة حياتي, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, ص181). كما أنه يتباهى - في نفس الموضع- بأنه كان يزود جميع تحقيقاته بمقدمات مستفيضة تبلغ الواحدة منها في المتوسط ستين صفحة! وهو في الجزء الأول من موسوعته في الفلسفة يفرد لنفسه مساحة هائلة مقارنة بفلاسفة عظام من أمثال هيدجر الذي نقل عنه بدوي ما ينسبه لنفسه. ومن المفارقات هنا أنه يتحدث عن نفسه في إحدى وعشرين صفحة, في حين أنه لا يخصص سوى أقل من صفحة واحدة للفيلسوف السابق عليه في الموسوعة وهو باومجارتن, رغم أن هذا الأخير هو الفيلسوف الذي ي نسب إليه تأسيس علم فلسفي, وهو علم الجمال بمفهومه الحديث (انظر: موسوعة الفلسفة, المؤسسة العربية للدراسة والنشر, 1984). وهو عندما يتحدث عن نفسه هنا نراه ي غرقنا في تفاصيل كمية من ذلك النوع الذي لا يهم أحدا, ولم يحدث أن أثار اهتمام أحد من الفلاسفة حينما يكتبون عن أنفسهم أو يكتب الآخرون عنهم, حتى بالنسبة للفلاسفة الذين كانت حياتهم مادة درامية خصبة للكتابة من أمثال شوبنهاور: فهو على سبيل المثال يتحدث عن قريته <<شرباص>> كما لو كانت مركز الكون ; إذ تقع على بعد 42 كيلومترا من المنصورة و21 كيلومترا من دمياط, ويذكرنا بأن ترتيبه في شهادة الابتدائية جاء رقم 354 من بين الحاصلين عليها الذي يقدر عددهم بثلاثين ألفا سنة 1929, وبأن ترتيبه جاء الثاني في مرحلة شهادة البكالوريا, والأول في جميع مراحل الدراسة الجامعية. ولا ندري ما دلالة هذه الأرقام التي تشغله? وهل معنى ذلك أن أول الثانوية العامة في أيامنا هذه يعد أفضل منه? وهل يجوز أصلا الحديث عن هذه الأمور في موسوعة يفترض أنها موسوعة علمية متخصصة في الفلسفة. إن هذه الأمور لا تذكر حتى في الكتب الشائعة عن حياة الفلاسفة, فما بالك بالموسوعات الفلسفية التي يفترض فيها أن تتناسب حجم المادة العلمية المخصصة لفيلسوف ما بحجم الفيلسوف نفسه, وما بالك إذا كان الشخص موضوع هذه المادة ليس بفيلسوف أصلا وإنما هو مجرد باحث كبير أو بحاثة في مجال الفلسفة?! إن الأمر هنا يقتضي ألا يرد اسمه أصلا في مثل هذه الموسوعات, وحتى لو سلمنا بإمكانية ذلك لاعتبارات غير علمية من قبيل: أن الموسوعة عربية, وأن مؤلفها ليس متحررا تماما من الاعتبارات الذاتية حينما يكتب عن نفسه - حتى لو سلمنا بذلك, فكان يكفي تماما بضعة سطور يخصصها المؤلف لنفسه. الاهتمام بالنقل على حساب الإبداع الاهتمام بالكم لا بد أن يأتي دائما على حساب الاهتمام بالإبداع كما نوهنا من قبل. غير أن هذه المقولة لازالت نظرية صورية, ولا بد لنا من البرهنة عليها بالتطبيق على مضمون الفكر الذي نجده في كتابات بدوي. ويرى بدوي نفسه أن إنتاجه الفكري يسير في ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول هو مذهبه الفكري المتضمن في رسالتيه للماجستير والدكتوراة, والاتجاه الثاني يتمثل في التحقيقات, أما الاتجاه الثالث قيتمثل في الترجمات والمؤلفات التي قدم من خلالها الفكر الأوروبي: ولو نظرنا في الاتجاه الأول بدءا برسالته للماجستير, وعنوانها <<مشكلة الموت في الفلسفة المعاصرة>>, فإنه يكفينا هنا تقييمه هو نفسه لها, إذ يقول إنها << تدخل في الاتجاه الأول, أي عرض مذهبي في الفلسفة. وثلاثة أرباع الرسالة يتناول مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية, وبخاصة عند مارتن هيدجر>> (سيرة حياتي, ص 152). فانظر في تلك الفقرة القصيرة المؤلفة من جملتين لترى مدى التناقض فيهما: فهو في الجملة الأولى يقول إن رسالته تقدم مذهبه في الفلسفة (أي إبداعه الخاص), وهو في الجملة الثانية يقول إنها في معظمها تتناول مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية, وبخاصة عند هيدجر (أي بحث في مذاهب الآخرين, لا إبداع لمذهب فلسفي خاص). أما رسالته للدكتوراة التي تحمل عنوان <<الزمان الوجودي>>, فيرى أنها تمثل إسهاما وإضافة إلى وجودية هيدجر; إذ يقول نقلا عن ملخص محتوى الرسالة الذي نشره بعد ذلك في موسوعته الفلسفية بعنوان <<خلاصة مذهبنا الوجودي>>: <<وإسهامي في الفلسفة الوجودية إنما يرتبط مباشرة بوجودية هيدجر, ويعد إكمالا لمذهبه في عدة نواح: أولا - في تفسير ظواهر الوجود على أساس الزمانية....>> (سيرة حياتي, ص179). وإذا تجاوزنا عن عدم دقة بدوي في استخدام المصطلحات الأساسية هنا; حيث ان فلسفة هيدجر لا تعد مذهبا, وإنما اتجاها فلسفيا أو فكريا , فضلا عن أن هذه الفلسفة لا توصف بأنها وجودية, وإنما هى فلسفة للوجود أو فكر عن الوجود تأثرت الفلسفات الوجودية به بقوة - إذا تجاوزنا عن ذلك هنا في هذا السياق وفي غيره من السياقات, فإن ما لا يمكن التجاوز عنه هو ذلك الادعاء الذي ينسب فيه بدوي إلى نفسه تفسير ظواهر الوجود على أساس من الزمانية: فلا شك أن مثل هذا الادعاء ينطوي على نوع من الخداع للقارئ العربي غير العارف بفلسفة هيدجر أو على الأقل غير الملم بأبجدياتها ; فالحقيقة أن الملم بأبجديات فكر هيدجر يعرف أن إحدى تلك الأبجديات هي تفسير الوجود على أساس من الزمانية كما هو واضح حتى من عنوان كتابه الرئيسي <<الوجود والزمان>>. ومن الغريب أن هذا الادعاء يتجاوز التضليل ويبلغ حد التخلط الفكري حينما يزعم بدوي أن هذا التفسير - الذي ينسبه لنفسه - هو بمثابة ثورة كوبرنيقية قد أحدثها في علم الوجود. يقول في موسوعته الفلسفية تحت عنوان <<خلاصة مذهبنا الوجودي>>: <<فالزمان هو المقوم الجوهري لماهية الوجود, والعامل والفاعل في تحديد معناه. وتفسير الوجود على هذا النحو فيه ثورة لا تقل في عنفها وخطر نتائجها عن تلك التي قام بها كوبرنيك في علم الفلك. فإذا كان كانط قد نعت مذهبه النقدي بأنه ثورة كوبرنيقية في نظرية المعرفة, فإن في وسعنا أن ننعت مذهبنا بأنه ثورة كوبرنيقية في علم الوجود>> (الموسوعة الفلسفية, ص 209 ). ولا حاجة بنا للتعليق على هذا, وإنما نريد التأكيد فقط على أن العنوان الذي يضع بدوي هذا الكلام تحته, وهو <<خلاصة مذهبنا الوجودي>> - الذي يعده ملخصا لرسالته في الدكتوراة - هو عنوان لم يكن بقدوره أن يستخدمه حينما كان يقدم لرسالته آنذاك التي حصل عليها بمرتبة الشرف الثانية حينما كانت الرسائل العلمية تقدر بقدرها, وهو تقدير يعبر عن جهد حقيقي واضح مبذول فيها, دون أن يعبر عن إبداع فلسفي كما يدعي. فالرسالة في معظمها معتمدة - كما نوهنا - على أطروحات هيدجر في <<الوجود والزمان>>, ومطعمة في الجزء الأخير منها بآراء مستمدة من منطق العواطف عند كيركيجارد. ولا شك أن لبدوي جهودا واضحة في تحقيق كثير من النصوص الهامة في تراثنا الفكري, وهي جهود كان لها فضل كبير على المشتغلين بمجالات معرفية عديدة, مهما قيل عن كونها معتمدة على تحقيقات باول كراوس, وعما شابها من أخطاء وتسرع. أما عن كتبه المترجمة, فتعد جزءا من جهوده في مجال تقديم أعلام الفكر الأوروبي, وهي الجهود التي تمثل أحد اتجاهاته الأساسية في التأليف. وهو يصف هذا الاتجاه الذي يقوم على تقديم الفكر الأوروبي بأنه اتجاه <<قد تطور من النموذج الذي على غراره ألفت الكتب الثلاثة الأولى: نيتشه, واشبنجلر, وشوبنهور - إلى نموذج أكثر توسعا وأشد اعتمادا على النصوص والتفاصيل, مثلما فعلت في كتابي عن شلنج, ثم خصوصا في كتابي عن <<إمانويل كانط>> (سيرة حياتي, ص 181). والحقيقة - كما هو معروف لقلة من المتخصصين - أن هذه الكتب منقولة عن كتابات أجنبية (ألمانية في معظمها): فكتاب شيلنج - على سبيل المثال - منقول في معظمه من كتاب كونو فيشر عن شيلنج, وكتاب كارل ياسبرز الذي يحمل عنوان <<فلاسفة عظام>>. Grosses Philosophen وهو نفسه في هذا الكتاب وفي غيره, يصرح ضمنا بهذا النقل حينما يضع عنوانا لفصل أوجزء من الكتاب ويشير في الهامش إلى المصدر المنقول منه هذا الفصل أو الجزء. وهو في أحيان أخرى لايشير على الإطلاق للمصدر الذي ينقل عنه, مثلما فعل في كتابه <<شوبنهور>> الذي يخلو من الإشارة إلى أي مصدر من المصادر التي نقل عنها. ولا حاجة بنا إلى التأكيد على أن هذا الأسلوب في الكتابة لا علاقة له بالتأليف العلمي أو بالكتابة الأمينة. فلو قام بدوي بتوثيق علمي لكل المصادر التي نقل عنها, لتبدى لنا معظم إنتاجه هنا في صورة ترجمات غير دقيقة لا يعتد بها أو يعتمد عليها. ولذلك, فإن هذه الكتابات ليست بمؤلفات ولا بترجمات ; فليس فيها جهد التأليف الذي يبذله المرء في سبيل تشكيل رؤية خاصة لموضوع بحثه, كما أنها ليس فيها الجهد المضني للترجمة التي تلتزم بالدقة والأمانة العلمية. والحقيقة أن الذين عرفوا بدوي حق المعرفة وشاهدوا عن قرب أسلوبه هذا في التأليف هم الذين يفهمون تماما مغزى هذا التحليل ; إذ كان ي شاهد دائما في مكتبة الشويخ بالكويت عاكفا على كتاب باللغة الأجنبية لا لأجل قراءة ودرس وتأمل, وإنما لأجل اقتناص أفكاره: عين على الكتاب ويد تنقل ما تراه العين إلى صفحة بيضاء. ولأن كل هذا غير معروف للعامة ولغير المتخصصين في الفلسفة من المثقفين والباحثين في شتى فروع المعرفة, بل غير معروف لكثير من المتخصصين في الفلسفة في أيامنا هذه ممن لا يعرفون الرجوع إلى الفكر في مصادره الأصلية, فإننا نرى هؤلاء جميعا - عندما يقصدون بدوى أو يقعون على بعض كتاباته بالمصادفة - ينبهرون بشمولية كتاباته التي تشمل شتى فروع المعرفة التي يقصدونها, فينهلون منها ظانين أنهم قد وقعوا على كنز ثمين, فيعجبون من أمر هذا الرجل المشتغل بالفلسفة ولكنه يفيدهم أجمعين, فلا يجدون بدا من تبجيله وإعلائه فوق رؤوس العلماء أجمعين. آلة الفلسفة (فهم الظاهرة فـي سياقها التاريخي) إن مجمل ما تقدم هو ما يفضي بنا إلى توصيف إنتاج بدوي الفكري باعتباره <<آلة للفلسفة>>, وأنا أفضل هذا التوصيف على توصيف الأستاذ العالم لبدوي بأنه <<مؤسسة الفلسفة>>: حقا إن الإنتاج الفكري الضخم لبدوي يجعله أشبه <<بمؤسسة فلسفية>> من حيث إن هذا الإنتاج يمتد ليشمل شتى مجالات الفلسفة, إلا أن هذا التوصيف الأخير لا يقول لنا كل شيء; فهو يصف الظاهرة من خارجها دون أن ينفذ إلى معناها ودلالتها. لا شك أن إنتاج بدوي قد ملأ ركنا أساسيا في المكتبة العربية, بحيث لا يمكن تصور هذه المكتبة بدونه, وبحيث لا يمكن تصور باحث في مجال الفلسفة خاصة لا يرجع إلى بدوي أو يستغني عنه. ولكن الباحث المتميز يجد لزاما عليه أن يرجع إلى بدوي ولا يرجع إليه: يرجع إليه ويعتمد عليه كأداة أولية تعينه على البحث الفلسفي, دون أن يعتمد عليه طوال الوقت. فهو يرجع إليه ; لأنه يمده بالمفاتيح الأولية اللازمة لدرس موضوع ما, فيلم إلماما أوليا بأطرافه, ويعرف أهم مصادره ومراجعه, ويعرف شيئا عن المصطلحات الخاصة به, وخاصة تلك المصطلحات الغريبة أو المكتوبة بلغة ميتة كاليونانية القديمة أو اللاتينية وغيرها من اللغات التي كان بدوي يتقنها. فالباحث إذن يجد لزاما عليه أن يستخدم بدوي كما يستخدم آلة ضرورية من آلات البحث تشبه الموسوعات والمعاجم والقواميس. ولكن إذا ما فرغ الباحث من هذه المهمة, وشرع في إنشاء بحثه, والعكوف عليه بالدرس والتأمل والتحليل والنقد, فعليه أن يترك بدوي إلى غيره. غير أن بدوي لم يكن مجرد أداة أو آلة خادمة للبحث الفلسفي فحسب, وإنما كان أيضا آلة ناقلة للفكر الأوروبي وجعله ميسورا للقارئ العربي. والحقيقة أن بدوي نفسه يصرح بأن الهدف من كتاباته في إطار سلسلة <<خلاصة الفكر الأوروبي>> هو <<إحداث ثورة روحية في الفكر العربي ; إذ وجدت أن السبيل إلى ذلك هو الاطلاع على الفكر الأوروبي الذي استطاع أن يحقق تقدما عظيما في الفكر الإنساني, فيما تخلف العقل الإسلامي العربي عن متابعة تطور الفكر الإنساني منذ القرن الثاني عشر. وكما أن معرفة التراث اليوناني هى التي أوجدت نهضة الفكر الإسلامي في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) وما تلاه, فإني رأيت أن معرفة الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر هى الكفيلة بإحداث نهضة في الفكر العربي والإسلامي>> (سيرة حياتي, ص 151). ولا شك أن بدوي محق في دعواه هنا تماما, بل إننا يمكن أن نذهب إلى أبعد مما يقوله هنا بدوي عن نفسه لنؤكد أنه لم يكن مجرد ناقل للفكر الأوروبي دونما وعي, وإنما كان يقوم بعملية نقل انتقائي لتيارات بعينها لها صلات وثيقة فيما بينها, وخاصة فلسفة الوجود والفلسفة الوجودية. وعلى الرغم من أن هناك كثيرا من المشتغلين بالفكر الفلسفي قد ساهموا في إشاعة تيار الفلسفة الوجودية في الثقافة العربية, فإن بدوي يظل هو الممثل الرئيسي في ثقافتنا لهذا التيار إذا ما نظرنا إليه بمعناه الواسع, أعني في روحه العامة وروافده الأساسية لدى هيدجر وغيره من السابقين عليه. ولقد حاول بدوي أن يستلهم روح هذا التيار ويوظفها في رؤيته للتراث الإسلامي بالتأكيد على ما هنالك من صلات وثيقة بين التصوف والوجودية بناء على ما فيهما من نزعة ذاتية فردية. غير أن جهود بدوي هنا كان لها تأثيرها الواضح في واقع الثقافة العربية بصورة غير مباشرة, وبوجه خاص في مجال الإبداع الفني والأدبي. إن جهود بدوي هنا ينبغي النظر إليها وتقييمها في إطار سياقها التاريخي: فرغم كل ما قلناه من أنه لم يكن فيلسوفا أو مبدعا لمذهب فلسفي كما يشيع هو عن نفسه وكما يظن الكثيرون, وإنما كان ناقلا واعيا للفكر الأوروبي - رغم ذلك, فإن هذا النقل ذاته كانت ولا تزال له قيمته ومكانته الكبرى ; لفضله على الثقافة العربية الإسلامية في مرحلة تاريخية ما. فلا شك أن هذا النقل الذي يقوم على عملية الهضم والاستيعاب للفكر الوافد في نسيج الثقافة المنقول إليها, كان مرحلة مطلوبة لخدمة ثقافتنا الناهضة آنذاك في زمن لم يكن يعرف فيه الناس شيئا عن تيارات الفكر الغربي المعاصرة. ولقد فعل أقران بدوي شيئا شبيها بهذا, كل حسب توجهاته وبقدر طاقته: فعل هذا, على سبيل المثال, زكي نجيب محمود الذي نقل وتمثل وأشاع روح الفلسفة العلمية في الثقافة العربية من خلال كتبه ومقالاته. فلقد كان هؤلاء امتدادا بقوة الدفع الذاتي لحركة نهضوية تنامت في مصر خلال النصف الأول من القرن الماضي, ولكنها سرعان ما أجهضت على كافة مساراتها السياسية والاجتماعية والثقافية. ولذلك, فإننا أحوج الآن أكثر من أي وقت مضى لجهود تشبه جهود بدوي وأقرانه من القادرين على نقل روح الفكر: فبينما جعل هؤلاء القارئ العربي على ألفة بتيارات الفكر السائدة آنذاك, ومواكبا لها, بل وناقدا أحيانا - فإن تلك الصلة بتيارات الفكر الغربي قد انقطعت في وقتنا هذا الذي تتنامى فيه هذه التيارات وتتطور بصورة مذهلة. وليت بيننا الآن عشرات من أمثال بدوي بجهده الضخم الذي يشبه جهد الآلة وإن خلا من الإبداع ; لأنه لا بد من تجاوزات وتنازلات في فترات النكوص التي يسبق فيها النقل الإبداع, ويواكبه أحيانا كرافد مخصب ومحفز له. وبذلك الفهم لبدوي كظاهرة فكرية يمكن أن نتبين ما فيها من حقيقة وما يشاع عنها من وهم | |||||
|
Tuesday, June 23, 2009
ظاهرة عبد الرحمن بدوي : آلة الفلسفة الادعاء والاهتمام بالكم على حساب الإبداع الحقيقي
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment