نظرات في الفكر المنهجي عند ابن خلدون
الجزء الأول
بقلم: علال البوزيدي
الحديث عن شخصية ابن خلدون وما تميزت به من عبقرية وعلم وفقه وأدب يقتضي الكتابة المسهبة والبحث والتقصي في أغوار الاجتهادات التي مارسها مفخرة عصره ومعجزة زمانه عبد الرحمن بن خلدون، وبما أن التعمق في آثار هذا المفكر العربي المسلم يحتاج إلى المزيد من الاستقراءات والاستنتاجات، فإن أقرب السبل وأيسر المراجع هي ما كتب مفكرنا الكبير وما خلّده من آثار أفادت كثيراً العلوم الإنسانية، أما ما كتِبَ حوله فهو شتات يصعب الإلمام به جملة وتفصيلاً، أو بالأحرى بجزء قليل منه.
مؤلفاته تعبر عن إحاطته وغزارة علمه..
وهكذا فإنه لابد ولا مناص من وقفات تأملية في أشهر مؤلفاته التي ظلّت مناراً لإشاعة الوعي الإنساني.
وهنا تجدر الإشارة إلى »ديوان العبر« الذي خصصه المترجَم له للحديث عن حياة الأغالبة وتاريخ تعمير صقلية، وقد ترجم هذا المجهود الكبير إلى عدة لغات أجنبية وبالأخص: الروسية، الإيطالية، الهولندية، الإسبانية، البرتغالية.. وكان ذلك سنة 1841م، وقد استغلت بعض الدول الاستعمارية الثورة الفكرية والعلمية الهامة للفكر الخلدوني، إلا أن المجلدات التي صدرت باللغتين العربية والفرنسية راجت أكثر وعلى نطاق أوسع في العالم بأسره.
ومن هذه المجلدات ما خصص لدراسة أحوال وتاريخ المغرب العربي أقطاراً ومدناً وقبائل.
وإذا ضربت صفحاً عن كتاب العبر، فإن كتابه الشهير المعروف بـ»المقدمة« يجذبني جذباً للإشارة والتلميح إليه هو الآخر ولو بقليل من الاختصار، وذلك أن المقدمة تعتبر مجمل تاريخ نادر فضلاً عن كونها مجلداً ضخماً وموسوعة لعلم من العلوم التي تهتم بالحياة البشرية.
وضع أساس علم الاجتماع..
ففي المقدمة الخلدونية تتجسد فلسفة وأسس علم الاجتماع، وبها حاز صاحبها قصب السبق في هذا الميدان لكونه قام بوضع أسس وقواعد هذا العلم، ومهّد الطريق للباحثين الذي أتوا من بعده، والذي يدرس المقدمة يتضح له بأن ابن خلدون كان يعيش قضايا العالم بكل ما تعني الكلمة من مفهوم الشمولية، كما كان من خلال مساهمته الفعالة في مجالات الفكر العالمي، وتنشيط المعارف الإنسانية، يقدم خدمات مفيدة للأمم والشعوب الناهضة المتطلعة نحو التطور والاتقاء، وذلك بفضل ما تركه من ثورة علمية.
والبحث في مسيرة حياة ابن خلدون يدلنا دلالات كثيرة عن مواقفه الإصلاحية. ولقد اشتغل بتحليل نفسية الفيلسوف الاجتماعي غير واحد من الأعلام والمؤرخين.
فلسفة التاريخ..
ومن الخصائص التي يتميز بها ابن خلدون عن غيره من المؤرخين هي كونه مؤرخاً ومفكراً، فلسفَ التاريخ، لأنه أدرك بأن حقيقة التاريخ تتجسم في كونه خبراً عن الاجتماع الإنساني، وهذا يعني إمعان النظر في أعمال البشر وصنعهم، ومنشآت الإنسان وتحاوره وتعايشه وعلاقاته مع بني الإنسان.
شخصية ابن خلدون
وفي وصف المؤرخين لشخصية ابن خلدون يتجلّى: بأنه كان واسع الاطلاع، غزير العلم، عميق الاستقراء والاستنتاج، كما كان قوي الحدس في التحليل والمقارنة، موفقاً في ضبط العلل والعوامل، وإقرار الأصول والأحكام والقواعد والأسس.
وانطلاقاً من هذه الخصائص والمميزات ظل ابن خلدون صورة ناصعة لأحوال البشر، وفي ذلك توضيح للمستوى الرفيع والتجربة الرائعة والتقدير الكبير لعظمة الحضارة الإسلامية، ودليل على اجتهادات العلماء وحرية الفكر.
مجدّد في التاريخ والأدب..
الدولة كما يراها ابن خلدون بناء طبيعي اضطراري لا مناص من نشأتها، وقد ركّز رأيه في سلطة الدولة، على أساس منهج صحيح استقصاه من تاريخ عصره، وتجاربه التي عايشها بممارسة الخبير الذي لا يغتر بالمظاهر، ولكن يؤمن بالحقائق والأبعاد، وكانت نظرته للآفاق المستقبلية تشير إلى أن العالم يسير بخطوات ديناميكية سريعة نحو التطور الاستمراري، وهكذا نجد بأن توقعاته كانت تؤكد بأن كل شيء تقريباً قابل للترقي.
بقدر ما امتازت به شخصيته من روح التجديد في علم التاريخ، بقدر ما هو مجدد كذلك في عالم الأدب.
ولقد قال عنه بعض الباحثين في آثاره ومواقفه الأدبية، بأنه يعتَبر في طليعة أدباء القرن الثامن الهجري، الذي حرر الأدب العربي من تحكّم البيان اللفظي، وأعتقه من أغلال السجع. لقد تمكن ابن خلدون بقلمه السيال وقوته المفكرة من النهوض بالأدب، وجعله حراً يضطلع برسالته في روية وإبداع وجمال الألفاظ، وبراعة التراكيب، وسبك المعاني المتوخاة التي يدور حملها على محور الإفادة ودقة التصوير، وفي كل أدب حي واقعي يساير الحياة ويندمج فيها ويتفاعل مع معطياتها.
إعجاب العلماء به..
نظراً لما أبدعه ابن خلدون من منهجية صائبة، فقد كان موضع إعجاب وتقدير الجميع في تلك الحقبة التي عاصرها، وقد تضاعف هذا الإعجاب عبر مسار التاريخ، استحوذ ابن خلدون على إعجاب الألمان، مثلما حظي بتقدير الكثرة من كل جهاب المعمورة في الشرق والغرب، ففي بعض الاستقراءات يتضح بأن اعجاب الألمان به جاء نتيجة تذوقهم لروعة أسلوبه وعمق تفكيره، واستوعبوا ذلك من خلال الترجمة التي قام بها المستشرق »فون هامار«، والتي تناول فيها الدراسة التحليلية لفلسفة ابن خلدون بخصوص المجتمع والعصبية والدولة، والتي تحدث فيها كذلك عن الاقتصار الاجتماعي، وانطلاقاً من هذه النظرية الخالدة، لم يخفِ علماء أوروبا وفلاسفتها إعجابهم واعترافاتهم بتفوق هذا الفيلسوف العربي المغربي، وقد سجلت عدة دراسات وأبحاث هذه الاعترافات على لسان كبار الكتاب والباحثين، من الذين اهتموا بدراسة التراث العلمي الأصيل، الذي خلفه ابن خلدون، والذي يؤكد جملة وتفصيلاً اجتهاداته المثالية.
عبقري بلا منازع..
لقد أجمع غير واحد من الأعلام بأن معالم العبقرية المبدعة متوفرة في شخصية ابن خلدون، وقد قال عن المستشرق ليفي بروفنسال: »إن صفات العبقرية عند صاحب المقدمة تتجلى في كونه أحرز قصب السبق في مجالات المعارف الإنسانية؛ مما جعله في مسار يثير نزعة المعاصرين له من المؤرخين، مسار حدد فيه لنفسه مكانته الخاصة المرموقة في مصاف العظماء، ذلك أن منهجيته في فن التاريخ تعكس نظرة مطلقة أهّلته لإدراك حقيقته الخفية ومعناه البعيد، وفي الوقت الذي ارتقى فيه الفكر الخلدوني إلى مستوى عال في فلسفة التاريخ، عكف بعض المؤرخين أمثال الطبري والمسعودي وابن الأثير وغيرهم على دراسة التاريخ على أساس أنه سجل للحوادث والوقائق،وهكذا يتجلى الفرق في الاجتهاد الخلدوني الذي انصبّ على اعتبار التاريخ كموضوع له صلة جوهرية بأعمال البشر ونشاطاتهم وأوضاعهم وأحوالهم في حياتهم واجتماعاتهم.
وفي هذا المجال قال ابن خلدون: »فأنشأتُ في التاريخ كتاباً، وأبديتُ فيه لأولية الدول عملاً وأسباباً.. وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكاً غريباً، واخترعتُه من بين المناحي مذهباً عجيباً، وطريقة مبتدعة وأسلوباً، وشرحت من أحوال التمدن والعمران، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية، وما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها«.
تمسكه بالطريقة التجريبية..
قال عنه بعض المحللين بأنه نفي عن نفسه التأثر بأرسطو والفارابي، بل ظهر في فكره المنهجي وبالأخص في مقدمته، بأنه يتمسك بالطريق التجريبية كما فعل ذلك كل من ابن رشد وابن الهيثم.
اتهام ابن خلدون بالتهجم على العرب..
قيل بأن التهجم على العرب المنسوب لابن خلدون يعزى في أساسه إلى تحريف وقع في بعض النصوص التي جاءت في المقدمة، وهذا التحريف مقصود من طرف بعض المتستشرقين الذين تجاهلوا المفهوم الحقيقي الذي تشير إليه تلك النصوص.
ومما جاء في بعض الآراء أن ابن خلدون كان يقصد باصطلاح »العرب« الإشارة إلى »البدو« أو »الأعراب« وليس مطلق الأمة العربية، ومن بين هذه الآراء رأي الدكتور علي عبد الواحد وافي الذي قال في بعض أبحاثه القيمة: »لو استعمل ابن خلدون كلمة »البدو« للدلالة على قبائل البدو والرّحّل بدلاً من كلمة العرب التي استخدمها في كل الحالات فأحدثت الالتباس، ذلك أن كلمة البداوة كثيراً ما تشير إلى الفطرة والكرم والنبل والشهامة، بينما كلمة العرب تؤول أحياناً إلى العربان، وهم قوم يتميزون بالشراسة وسوء الأخلال والجهل، كما تعني كلمة العرب الأعراب وهم قوم يتصفون بالغلظة والفظاظة، وإن كانوا فصحاء في لغتهم. وقد ورد في القرآن الكريم بشأن هذه الكلمة: (الأعرابُ أشدّ كفراً ونفاقاً وأجدرُ ألاّ يعلموا حدودَ ما أنزلَ اللهُ على رسولِه واللهُ عليمٌ حكيمٌ). [التوبة: 97].
ابن خلدون الفيلسوف..
قال عن الأستاذ »تياي« وهو من جنسية فرنسية، مارس تدريس الفلسفة في عدة جامعات عربية، من بينها تونس ومصر: »إن هذا المغربي الذي ولِد بتونس سنة 1332م من أسرة ذات أصل عربي، استوطنت الأندلس منذ بدء الفتح، ترك لنا تآليف قيمة، يمكن لنا أن نقول عنها: إنها لم تُثْر الآداب العربية وحدها، بل التراث الثقافي للإنسانية جمعاء، إن مؤسس علم الاجتماع (السوسيولوجية)، وباعث فلسفة اجتماعية جديدة، كما أنه المؤسس الحقيقي للمنهجية التاريخية. لقد توصل ابن خلدون إلى أن هناك فلسفتين: فلسفة أصيلة صحيحة، وفلسفة كاذبة غالطة، وهذا يعني أن ابن خلدون اهتدى قبل »كانت Kent « إلى التفكير النقدي الهادف إلى تحديد القواعد والمقاييس المنطقية لاستعمال العقل في البحوث الفلسفية، وانتقاداتها للتفكير الفلسفي الذي يتجاوز المقاصد الهادفة. إن كتاب المقدمة وكتاب العبر لابن خلدون عملٌ نادر ومجهود قيم موجه للناس جميعاً، لا لنخبة من المفكرين أو إلى جماعة محدودة من الفلاسفة. إن التاريخ كما يراه ابن خلدون فرع من الفلسفة، وعلم عقلي. وللتاريخ ظاهر وباطن، إذْ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار الأيام والدول والسوالف من القرون الأولى، تنمق لها الأقوال، وتصرف فيها الأمثال، وتطرق لها الأندية إذا غصّها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول الناطق فيها والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال«.
ويسترسل في تحليله للباطن التاريخي فيقول: »باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكانئات عميق، فهو لذلك أصل في الحكمة عريق، وجدير بأن يقيده في علومها وخليق«.
يتبع
No comments:
Post a Comment