كل هذه التساؤلات القلقة تقفز إلى ذهني كلما تذكرتُ الجهود التي قام بها بعض المثقفين العرب في القرن التاسع عشر، وهذا ما يجعلنا بحاجة إلى تتبع تاريخي لمرحلة مهمة في الثقافة العربية، خاصة في مصر التي كانت مركز الحراك الثقافي العربي. ولعل الأرضية التي أسست لأفكار كثير من المثقفين العرب تهيأت مع الحملة الفرنسية (نابليون) إلى مصر؛ مما نتج عنه اختراق أفكار الثورة الفرنسية لبنية الفكر العربي، كما تشير الباحثة فهميّة شرف الدين.
ومن حق أولئك المثقفين ألاّ نبخسهم جهودهم التي قدموها في سبيل الارتقاء بالثقافة العربية رغم السلبيات. ولكن من المهم أيضاً أن ينظَر لتلك الجهود داخل سياقها التاريخي؛ فليس منطقياً أن نحكم بالفشل على بدايات تجربة "التنوير" العربية التي لم تتضح لنا تماماً، ولم تستمر، ولم تكتمل، إذ كانت الجهود أشبه بالفردية، فلم يشكّل التنويريون تياراً مترابطاً يرتكز على إنتاج معرفة جديدة انطلاقاً من توجهات فلسفية. فالقاسم المشترك بين كثير منهم هو تأثرهم بالثقافة الغربية، خاصة الفرنسية، وبالتالي بفلسفة الأنوار الأوروبية. إلا أنهم لم يمارسوا القطيعة المعرفية التي تؤدي لنقد عميق للإرث الثقافي وشوائبه، على الرغم من جهود بعضهم في الترجمة، وفي محاولة إدخال وتطبيق بعض المناهج الفلسفية على بعض جوانب الثقافة العربية، مثلما فعل الدكتور طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" مستفيداً من المنهج الفلسفي الشكّي (الديكارتي)، إذ كانت تجربته تلك بمثابة هزة قوية لبعض مسلّمات التراث، ولكن الأمر آل إلى مصادرة الكتاب ورفع قضية ضد صاحبه انتهت "بحفظ الأوراق إدارياً" بطلب من رئيس نيابة مصر!
اتبع كثير من المثقفين بشكل ملحوظ أسلوب الاقتراب من الخطاب الإسلامي بطرح الموضوعات الإسلامية، ومن أولئك: طه حسين ومحمد حسين هيكل وأحمد أمين وعباس محمود العقاد وغيرهم. مما خلق أزمة في التوجه الفكري لديهم. ويشير الباحث الألماني (يورغن فازلا) إلى جدل بين بعض الباحثين الغربيين حول هذه الأزمة: فهناك من فسّرها بتخلي المثقفين الليبراليين عن قيمهم "التقدمية" التي يتبنونها، واتخاذهم موقفاً (إسلامياً) رومانسياً غير واضح المعالم. غير أنّ هناك من عارض هذا الرأي مشيراً إلى أن موقف المثقفين الليبراليين لم يتغير، حيث إن المؤلفات ذات الصبغة الإسلامية لبعض المثقفين لم تكن موجهة للنخبة المثقفة بقدر ما كانت موجهة لعامة الناس إرضاءً لذوقهم، وكذلك تفادياً لردود الأفعال الرسمية والشعبية كالتي حدثت لعلي عبدالرزاق أو طه حسين، معتبرين أن تلك الاتجاهات فرضتها حاجة المجتمع والوضع السائد آنذاك. ولكن هناك تحولات أخرى، اقتصادية واجتماعية وسياسية، أثّرت على المجتمع المصري عامة، ومنها تنامي حركة الجماهير المعتمدة على الحماسة والعاطفة، فتحول توجه بعض المثقفين من الصالونات الأدبية ودوائر النقاش إلى "الشارع" بعد أن ظهرت حاجة المجتمع المتزايدة إلى هوية مخالفة للنموذج الغربي الذي كرس - في المرحلة الاستعمارية - صورة المغتصب والمناقض للدين والقيم العربية، فكان مشروع الهوية "الإسلامية" مرشحاً للبروز في ظل تنامي التوجهات السلفية، فأصبحت جماعة "الإخوان المسلمين" في أربعينيات القرن الماضي من أهم عوامل التأثير الاجتماعي والسياسي في مصر.
ولكن المحك الرئيس يكمن في المثقف ذي التوجه التنويري، حيث لم يستطع (التحول) إلى أسلوب جديد أكثر فاعلية ليقوم بدوره الثقافي في ظل هذه التغيرات، فالصفة "النخبوية" والدور "الطليعي" المتوهم بقيا في الذهن فنتج عن ذلك ازدياد العزلة والانسلاخ، فتعمقت الهوة بينه وبين المجتمع لعقود، وخاصة بعد تغير الأنظمة السياسية بفعل الانقلابات العسكرية المسماة بـ"الثورات" العربية، حيث توجه كثير من المثقفين العرب إلى الفكر اليساري، فكانت "الأصولية" الإسلامية مستمرة في أخذ موقعها كبديل أيديولوجي. وازداد هذا الشعور بعد الهزيمة العربية في حرب 67 التي أحدثت فراغاً وجدانياً جماهيرياً، وبالتالي نمتْ فكرة الهوية الإسلامية لصالح بعض جماعات "الإسلام السياسي" فتمكنت من التغلغل في المؤسسات والنقابات المهنية. وبعد تنامي نشاط الجماعات الإسلامية وسيطرتها على عقول كثير من أفراد المجتمع، وتهديدها لموقع السلطة السياسية في مصر وغيرها، تطورت الأمور إلى إلصاق وصف "إسلامي" بكثير من مجالات الحياة الاجتماعية، فأصبح من السهل تحويل أي خلاف اجتماعي أو سياسي، إلى خلاف ديني؛ وبذلك لم يبق مكان للنقد الذاتي الإسلامي، فظهر التعصب والتطرف في المجتمع بشكل واضح، حتى إن بعض السلطات السياسية بدأت تزايد على التمسك بالدين فتستعمل قوتها لمعاقبة منتقدي الفكر الديني بصرف عن النظر عن (السلبيات) في طروحاتهم.
فبخلاف قضايا أخرى-كإهدار دم نصر حامد أبو زيد، وطعن نجيب محفوظ- نجد مثلاً أن قضية سجن الكاتب المصري علاء حامد ثمان سنوات، سبقها حملة ضد الكتاب مدعومة من الأزهر. وعندما تأخرت الداخلية المصرية في تصديق الحكم دعت السلطات العليا إلى تنفيذ الحكم صراحة. أما اغتيال الكاتب فرج فودة عام 92، فقد قابله تأييد من قبل الشيخ محمد الغزالي، إذ أكد أن (مثل هذا الشخص يستحق عقوبة الإعدام التي يتوجب على الدولة تنفيذها، وعندما لا تقوم الدولة بتنفيذ العقوبة ويقوم أحد المواطنين بأداء هذه المهمة، فلا يوجد في الإسلام عقوبة على هذا الفعل)!
يتضح لي أنّ أوضاع المثقفين العرب في أواخر القرن العشرين، وبدايات الحادي والعشرين، لم تكن أفضل حالاً من أوضاع نظرائهم في القرن التاسع عشر إنْ لم تكن ازدادت سوءاً. ولذا أقول: إنّ التنوير العربي لم ينتهِ ولم يفشل؛ لأنه لم يبدأ أصلاً! فالمئة سنة الماضية، بكل جهود مثقفيها، قد تكون مهّدت للتنوير - سواء بخطوة أو بعدة خطوات - لكنها بالتأكيد غير كافية. وعلى الرغم مما نشهده من طروحات نقدية لبعض المفكرين العرب المبنية على المناهج العلمية الحديثة. فمعركة التنوير مع الجهل العربي تحتاج - عدا الجهد والتضحية - إلى الكثير من الوقت!
نقلا عن جريدة "الوطن" السعودية
No comments:
Post a Comment