الحداثة باعتبارها نقضاً للتنوير
مقتطفات من ورقة السريحي
بين الحداثة والتنوير تشابه من شأنه أن يفضي إلى الخلط بينهما، كما أن بينهما من الاختلاف ما يستوجب التمييز بين هذه وتلك تصحيحاً للفكر وتوضيحاً لكثير من الخلافات التي يبدو في ظاهرها أنها انقسامات داخل تيار واحد، بينما هي تؤول في حقيقتها إلى اختلاف المنطلقات الفلسفية التي تمايز بين من ينتمون إلى الحداثة ومن ينتصرون للتنوير.
ثمة خلط واضح وخفي بين الحداثة والتنوير، خلط يبلغ حد إقامة ندوات وحلقات بحث تحت عنوان التنوير بينما هي تستهدف دراسة الحداثة والانتصار لها في مواجهة خصومها الرافضين لتوجهها والمقاومين لتأثيرها، أو إلقاء محاضرات تسعى لتكريس شرعية الحداثة باعتبار أن لها هدفاً سامياً يتمثل في تنوير المجتمع.
ثمة خلط يبلغ حد التطابق بين المفهومين عند بعض الدارسين، والترنح بين الأمرين عند دارسين آخرين، يتحدثون عن التنوير بلسان وعن الحداثة باللسان نفسه، وينتصرون لهذه مرة ولتلك مرة أخرى، وكأنهم يتحدثون عن موضوع واحد، يغريهم بذلك أن لكليهما مصدراً واحداً هو الفكر الأوروبي وأن كليهما كان تعبيراً عن الرفض لما هو سائد ومستقر في الأذهان ومستحكم في العقول. غياب الفلسفة، إذاً، وراء كثير من الخلط ومنه الخلط بين الحداثة والتنوير، ولعل ما سهل أمر هذا الخلط أن كليهما كان ثورة، وغاب عمن يخلطون بينهما أنه إذا كان التنوير ثورة على عصور الظلام وسلطة الكنيسة، فإن الحداثة في جوهرها ثورة على التنوير نفسه.
التنوير كان انتصاراً للعقل في مواجهة ما يشبه الخرافة التي تحول إليها الدين ومنحت الكنيسة سلطتها المطلقة ووسمت أوروبا بالظلام الذي هيمن عليها في العصور الوسطى، والحداثة ثورة على العقل بما فرضه من قيود وأنماط تولت إلى جملة من الأيديولوجيات التي حدّت من حرية الإنسان باعتباره نشاطاً يتجاوز حدود ما يقره العقل وما يدخل في نطاق معاييره.
التنوير عودة إلى الفلسفة كما نضجت واستتب سلطانها على يد أرسطو وما انتهت إليه من مقولات تضع للعقل ثوابت وأصولا لا يحيد عنها مقرونة بالزمان والمكان والسببية والمسببية والكيف والهوية وغيرها من المقولات العشر التي أطّرت التفكير في حدود يمكن التوافق عليها والانطلاق منها والاحتكام إليها.
الحداثة عودة إلى ما قبل فلسفة أرسطو، عودة إلى ما قبل المقولات العشر، تحريراً للعقل منها، وإذا كان التنوير يعتد بأرسطو فإن سقراط هو الفيلسوف الذي يحيل إليه أهل الحداثة باعتباره هو من أنزل الفلسفة إلى الأرض واتخذ من الإنسان محوراً لها قبل أن يجيء أرسطو ليختصر الإنسان في العقل ثم يرهن العقل لجملة من المقولات لا يتجاوزها إذا أراد أن يكون منطقياً قادراً على الاستدلال متمكناً من الإقناع.
ولا يكتفي الآخذون بالحداثة بالرجوع إلى سقراط، بل يكرون راجعين إلى من سبقه من فلاسفة اليونان أولئك الذين اعتدّوا بكل نشاط إنساني سواء كان عقلياً أو جسدياً، منطقياً أو خارجاً عن حدود المنطق.
استنجد التنويريون بالعقل وما انتهى إليه من مقولات منطقية للخروج على سلطة الكنيسة، واستغاث الحداثيون بكل قوى الإنسان للخروج على منطق العقل ومقولاته ليحرروا الإنسان من كل سلطة محتملة، ولم تكن الحداثة رغم ذلك كله رافضة للعقل باعتباره طاقة إنسانية تمكّن الإنسان من التفكير ولكنها كانت عودة للاعتراف بالعقل المتحرر من المنطق والقادر على أن يتقلب بين الحالات بحثاً عن الحقيقة التي لا يعرف أين تختبئ، بل لا يطمئن أساساً إلى أنها موجودة وتختبئ في مكان ما.
الحداثة حررت الإنسان ونشاطه، أعادت له كينونته في مواجهة كل ما هو متعالٍ ضد هذه الكينونة سواء تمثل هذا المتعالي في سلطة المطلق أو العقل أو المجتمع أو الأخلاق، ولذلك اعتدت الحداثة بالأسطورة والخرافة والوهم والكذب والزيف باعتبارها جميعها تعبيراً عن نشاط إنساني علينا أن نفهم معانيه ومقاصده بصرف النظر عن تقبلنا أو رفضنا له. يجد التنويريون ضالتهم في كلمة ديكارت (أنا أفكر إذن أنا موجود) بكل ما يمكن أن تفضي إليه من اعتداد بالتفكير وتأسيس للوجود الإنساني عليه وارتهان هذا الوجود بما يمكن أن يفضي إليه هذا التفكير، ويعتد الحداثيون بكانط وما أنجزه من ثورة وصفت بأنها ثورة كوبرنيكية، حين هتك ستر المقولات المنطقية في نقده للعقل الخالص وتقديمه للإرادة الإنسانية باعتبارها القوة المهيمنة على العقل والمسيّرة له، وإذا كان كوبرنكس قد نزع مركزية الأرض فأصبحت بعده مجرد ذرة كونية تدور في الفضاء فما قام به كانط كان أمراً مشابهاً حين انتزع مركزية العقل فأصبح ذرة تدور في فلك الإرادة الإنسانية ولذلك وصف مؤرخو الفلسفة ما قام به أرسطو بأنه ثورة كوبرنيكية.
التنوير يؤرخ لتطور الفكر البشري في مراحل متتابعة تبدأ من الفكر الخرافي وتمر بالفكر الديني وتنتهي للتفكير العلمي بكل ما يعنيه هذا «التمرحل» من تجاوز لا ينبغي بعده للعقل أن يرتكس من مرحلة متقدمة لاحقة إلى مرحلة متخلفة سابقة، بينما ترى الحداثة أن تلك المراحل تتعايش وتتزامن وتسير جميعها جنباً إلى جنب دون أن يلغي اللاحق منها ما سبقه، فالتفكير الخرافي والفكر الديني والتفكير العلمي لا تزال قائمة ومستمرة ومتجاورة باعتبارها أوجهاً متعددة للعقل البشري وحرية الإنسان رغم تباينها وتناقضها.
لقد فتح درس الحداثة أبواباً أوصدها درس التنوير وصادرها بعد أن لمس مجافاتها لما تقتضيه معايير العقل فكتب في دائرة هذا الوعي تاريخ الجنون والجنس والسحر وأعيدت قراءة الخرافات والأساطير باعتبارها تجليات للنشاط الإنساني حينما يخلع الإنسان عن عنقه ربقة المقولات العقلية ويغامر صوب الغيبي والمستحيل.
هل يجوز لنا بعد ذلك أن ننظر إلى الحداثة باعتبارها تمارس دوراً تنويرياً ما دامت تهدف إلى تحرير الإنسان وإطلاق قدراته؟ لا أخال ذلك ما دمنا نستخدم كلمات آلت إلى أن تكون مصطلحات قُرّت في الأذهان بما لها من دلالات لا يمكن بعدها فك الارتباط الجبري بينها وبين ما تحيل إليه من معانٍ ودلالات خاصة حينما يبلغ الفرق بين هذه الدلالات حد التعارض والتناقض. ورغم ذلك كله لا يزال يحلو للبعض أن يعزف على أوتار التنوير صباحاً مستشهداً بأعلامه وعلمائه، في الوقت الذي يرقص فيه على أنغام الحداثة مساءً.
No comments:
Post a Comment